الاثنين، 10 نوفمبر 2025

سدنة الدين الأعرابي الأموي يخاطبون القرءان


سدنة الدين الأعرابي الأموي يخاطبون القرءان

 

سدنة الدين الأعرابي الأموي يقولون للقرءان: اسمع أيها القرءان! لقد اجتمعنا نحن، سدنة الدين الأعرابي الأموي السلفي، وقرّرنا ـ بعد بحثٍ مستفيض ـ أن لا تتجاوز حصتك في بنية الدين ربعًا ناقصًا، وسيتقاسمه معك: الإجماع، والقياس، والاستصلاح، والاستحسان، وسائر ما سنستحدثه من أدوات التحليل المقدّسة حسب مقتضى مصلحة السلطان اللعين، وما نتلقاه من الشيطان الرجيم، ولقد حظي قرارنا هذا بإجماع الأمة وتلقته بالقبول، كما حظي برضا ومباركة كل شياطين الإنس والجن، ولم نعلم له مخالفًا.

القرءان: ولمن إذًا سيكون ثلاثة أرباع الدين؟

السدنة: للسنة المطهّرة، طبعًا.

القرءان: وما المقصود بـ"السنة المطهّرة"؟ أهي سنة الله الكونية وسنته في خلقه التي أتضمنها بين آياتي؟

السدنة (متعجبين): لا يا أيها القرءان! بل تلك السنة التي بين دفّتي الصحيحين وكتب السنن، والتي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها!

القرءان: غريبٌ أمركم، ما علمتُ أن لي سننًا أخرى خارج نصي، ولا أنّ البخاري كان شريكًا لي في ملكي!

السدنة (بغطرسة): أما علمت أنك أنت من أمرتنا باتباع السنة؟ ألم تكن تقصد ما دوّنه البخاري وشركاؤه بعدك بقرنين!

القرءان (بهدوء شامخ): لا أدري عمّا تتحدثون، ولكن الذي أعلمه أني كتاب الله العزيز، الحقّ والصدق، المهيمن والعليّ الحكيم، العظيم والمجيد، حكم الله الذي لا يُشرك في حكمه أحدًا.

السدنة (متبرمين): اسمعْ أيها القرءان، لقد جادلتنا فأكثرت جدالنا، ونحن لا نحب الجدال إلا حين يكون ضد العقل أو دفاعًا عن باطل! فهلاّ أقررتَ بأن حاجتك إلى مروياتنا أعظم من حاجتها إليك، وأن الصحيحين هما الحكم فيك، وأن سلطانهما يعلو سلطانك؟!

حسبك أن يُتلى اسمك للتبرك في المناسبات، وأن يشتغل الناس بإعرابك وموازنتك بالشعر الجاهلي المقدّس ليتأكدوا أنك لا تلحن!
حسبك أن يُستخرج من آياتك شيء من البديع والطباق والجناس، وأن تُتلى في المآتم والحفلات حتى يصرخ السامعون وتسيل دموعهم ويتصايحون ويبكون، ويذرفون الدمع الهتون!
حسبك أن تُختم قراءتك في التراويح كل عامٍ مرةً واحدة، وأن تُعلّق في السيارات والمحالّ، وتُكتب بماء الذهب على الجدران، وتُزيّن بنسخك المكتبات.
أما أمور الدين والدنيا، والحكم والسياسة والقتال والنساء والعبيد والجزية والسبي، فدعها لـ صحيح البخاري.

القرءان: ولماذا يجب عليّ أن أفعل ذلك؟

السدنة (متبرمين): هل حقًّا لا تعلم الأسباب؟ البخاري لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولم يغب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في النفوس.

البخاري لم يترك أمرًا إلا وقد بين له حكما، وفي أحيان عديدة قدم له حكمين متناقضين.

وماذا عن صلاة الظهر؟ لماذا لم تذكر ولو مرة واحدة شيئا عن صلاة الظهر، بينما ذكرت حديث النملة للنمل؟

أين عقوبة قتل المرتد التي لولاها لكفر بك الناس؟ أين رجم الزاني؟ أين جهاد الطلب لقتل الناس ونهب أموالهم واستعبادهم إن لم يؤمنوا بك؟

هل تريدنا أن نسترسل في ذكر الأمور الأخرى؟

ولماذا تحاول أن تطعن في البحاري؟ ألم يكن يعلم أسماء المنافقين الذين لم يعلمهم الرسول نفسه بنصّك؟
ألم يكن يدرك خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟
ألم يكن يطّلع على نيات ستة أجيال من البشر قبل أن يُولد هو نفسه؟
ألم يكن كالنار الموقدة التي تطّلع على الأفئدة؟
ألا تعلم أنه كان يستطيع أن يحفظ أي مروية بسندها ولو تم قلبها رأسًا على عقب، وكان يمكنه إعادتها إلى أصلها، فهو بذلك كان متمرسا في فكّ الشفرات A decoder قبل أن يعلم العالم كلخ شيئا عن ذلك؟

ألا تعلم أنه كان إذا أراد أن يدوّن حديثًا توضّأ وصلّى ركعتين!
فكيف تظن بعد كل ذلك أنه يمكن أن يخطئ؟!

القرءان (بصوتٍ متهدّجٍ مفعمٍ بالأسى):
عجبًا مما أسمع! الذي أعلمه الآن أنكم اتخذتموني مهجورًا.
صنعتم دينًا بديلا، أساسه الظلم والقهر والعدوان، لا العدل والرحمة والإحسان.
حوّلتم الرسالة التي نزلت رحمةً للعالمين إلى رسالة نقمةٍ على العالمين.
جعلتم الدين مطيّةً لنهب الثروات، وذريعةً لاستباحة الإنسان، وسلاحًا لتبرير الطغيان.
نصبتم أنفسكم أوصياء على الناس باسم الله، فظلمتم أنفسكم والبشرية معكم.
لكن اعلموا: لن تفلحوا إذًا أبدا، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون.

 

*******

الأربعاء، 5 نوفمبر 2025

التوفي في القرءان: المفهوم اللغوي والدلالة القرءانية في سياق قصة عيسى عليه السلام

 

التوفي في القرءان: المفهوم اللغوي والدلالة القرءانية في سياق قصة عيسى عليه السلام

 

أولًا: التمهيد اللغوي والدلالي 

الفعل "توفّى" في اللغة العربية من الجذر "وفى"، وهو يدلّ على الاستيفاء والقبض التامّ، أي أخذ الشيء كاملا غير منقوص.
وعليه، فالقول "توفّى اللهُ فلانًا" يعني في لسان العرب استوفى نفسه، أي قبضها كاملة من جسده. وقد عبّر أهل اللغة عن هذا المعنى في معاجمهم بقولهم: توفّاه الله: قبض روحه، وفي الحقيقة أدقّ: قبض نفسه، إذ النفس هي محلّ الإدراك والتكليف، وهي تتضمن الروح، أما الجسد فمجرد وعاءٍ مادّيٍّ لها.

وعليه، فإنّ التوفي (tawaffī) في الاستعمال القرءاني لا يَرِدُ إلا بمعنى القبض الكامل للنفس (the complete withdrawal of the self) من الجسد، سواء أكان ذلك قبضًا مؤقتًا كما في النوم، أم قبضًا نهائيًا كما في الموت. أمّا الذي يُتوفّى فهو المتوفَّى (the one whose self has been taken)، أي الذي فارق نفسه جسده، وبذلك ينتهي وجوده الحيوي في الدنيا وتبدأ أحكام الميت من إرثٍ وعدّةٍ ونحوها.

ثانيا:  التوفي والموت  (death vs. tawaffī)

من الناحية التحليلية، التوفي هو السبب المباشر للموت، إذ هو فعل القبض الإلهي للنفس، أما الموت فهو النتيجة التي تترتب على هذا القبض. وبهذا فإنّ التوفي يُفعل بالإنسان، بينما الموت يقع عليه.
والمتوفَّى (اسم مفعول) هو الذي توفاه ربه، أي رسل ربه، فهو بذلك الميت شرعًا، أي الذي تُستوفى نفسه وتنفصل عن جسده انفصالا نهائيًا، فتُصبح تركته حقًا لورثته. قال تعالى:

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} [سورة البقرة: 234]

{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيم} [سورة البقرة: 240]

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَـئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِين} [سورة الأعراف: 37]

فالمتوفَّون في هذه الآيات هم الأموات بلا ريب، لأن أحكام الإرث والعدّة لا تجري إلا بعد الموت.

ومن الناحية اللغوية ففعل التوفي المقترن بالموت يرد في العبارات مطلقًا.

 

ثالثا: التوفي المُقيَّد في القرءان

في الآيتين الآتيتين ورد فعل التوفي مقيدًا بذكر زمنه، وهو الليل:

{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون} [سورة الأنعام: 60]

{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} [الزمر:42]

فالتوفي هنا هو قبض النفس سواء كان نهائيا (موتا) أو مؤقتا (نوما)، فيبقى الجسد في موضعه الأرضي، فالتوفي لا يعني أبدًا رفع الجسم حيًّا إلى السماء.

فالذي يُتوفّى في الليل هو الإنسان من حيث نفسه، بينما يظل الجسد في مكانه، ومن ثمّ فإنّ معنى التوفي لا يقتضي انتقال الجسد أو رفعه من موضعه الطبيعي (the corporeal body remains within the terrestrial domain).

 

رابعا: التوفي في سياق قصة عيسى عليه السلام

من أبرز مواضع التوفي في القرءان قوله تعالى في شأن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام:

{إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون} [آل عمران:55]

التحليل اللغوي والدلالي لهذا النصّ يبيّن بوضوح أن " مُتَوَفِّيكَ " لا يمكن أن تُفهم إلا بمعناها الثابت في العربية والقرءان: استيفاء النفس المؤدي إلى الموت.
فالآية تُشير إلى مرحلتين متتاليتين:

1.   التوفي: أي استيفاء نفس عيسى عليه السلام، وهو ما يعني موته.

2.   الرفع: أي رفع تلك النفس إلى الله تعالى، لا رفع الجسد المادي.

فلو كان المقصود هو الرفع الجسديّ الحيّ إلى السماء، لما كان في ذكر "التوفي" معنى، ولَكَفَى أن يُقال: إني رافعك إليّ.
لكن اقتران الرفع بالتوفي دليل على أن الرفع هنا معنويٌّ من ناحية، وخاصّ بالنفس من ناحية أخرى، أي بكيان الإنسان الجوهري، لا ماديٌّ مكانيٌّ، إذ الله تعالى منزَّه عن الحلول في مكان، كما أن النفس غير مادية بطبيعتها، فلا يصحّ أن يُتصوَّر رفعها فيزيائيًّا، أما الجسد فقد سبق بيان أنه سيظل في مكانه في الأرض، فالتوفي لن يؤدي إلى رفعه إلى الله، فهو أصلا عند الله، وكل الأماكن عند الله سواء، ولا قيمة بالطبع لمن يتصورون أن الله سبحانه يقيم في مكانٍ ما، وأن المسيح رُفِع إلى هذا المكان ليجلس بجواره!

إنّ التعبير «إني متوفيك ورافعك إليّ» يجمع بين القبض الكامل للنفس (spiritual completion) وتكريمها بالرفع إلى الحضرة الإلهية (divine elevation)، كما يجري لجميع الصالحين بعد وفاتهم، والشهداء المقتولون في سبيل الله تبقى أجسادهم في الأرض، والقرءان يقول إنهم مع ذلك عِندَ رَبِّهِمْ بالفعل، قال تعالى:

{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)} آل عمران

فهؤلاء الشهداء بلا شكّ أجسادهم مدفونة في الأرض، ومع ذلك هم أحياءٌ عند ربهم؛ فـ "الرفع" هنا ليس رفعًا جسديًا، بل ارتقاءٌ في المقام الإلهي (spiritual exaltation)، وهو المعنى نفسه في شأن المسيح عليه السلام.

 

خامسا: التفريق بين المعنى المؤقت والنهائي للتوفي

ورد في القرءان نوعان من التوفي:

1.   التوفي النهائي (final withdrawal): وهو الذي يُفضي إلى الموت، وهو لغويا يرد مطلقًا غير مقيد بزمنٍ ما، كما في قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون} [السجدة:11]، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُون} [سورة الأنعام: 61]، {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُم} [سورة محمد: 27]، ومفعول هذا التوفي هو المتوفَّى، فهو الذي تنتقل ثروته إلى ورثته، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيم} [سورة البقرة: 240]، واستعمال اسم الفاعل "متوفِّي" للدلالة على فعل التفي أقوى في الدلالة، ويعبر عن المستقبل القريب، أي بعد الخطاب، وذلك في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون} [آل عمران:55]

2.   التوفي المؤقت (temporary withdrawal):، وهو الذي يرد مقيدًا بالليل، فهو الذي يقع أثناء النوم كما في: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون} [سورة الأنعام: 60]، {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} [الزمر:42]، وفيه تُقبض النفس مؤقتًا ثم تُعاد إلى الجسد عند اليقظة.

ولم يرد في القرءان استعمالٌ ثالث يدلّ على قبض الجسد المادي أو رفعه إلى السماء حيًّا.
فالزعم بأنّ "التوفي" يعني قبض الإنسان بجسده ونفسه معًا لا أصل له في العربية ولا في استعمال القرءان، بل هو تأويلٌ مُحدَث (fabricated exegesis) لتبرير عقيدةٍ دخيلةٍ مستوردة من تصوّرات أهل الكتاب حول رفع المسيح جسدًا إلى السماء.

 

سادسا: شواهد من المرويات

وبالنسبة لمن يكفرون بالقرءان ولا يقيمون له ولا لأدلته وزنا ويريدون الدليل من المرويات على أن التوفي يكون مقترنا بالموت، ها هي مروية نزول عيسى: (قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا همام ، أنبأنا قتادة ، عن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد ، وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم ; لأنه لم يكن بيني وبينه نبي ، وإنه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوه: رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، عليه ثوبان ممصران ، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل ، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، [ ص: 458 ] ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال ، ثم تقع الأمنة على الأرض، حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم، فيمكث أربعين سنة، ثم يُتوفَّى ويصلي عليه المسلمون")، هل رأيتم؟ "ثم يُتوفَّى ويصلي عليه المسلمون"

وجاء في البخاري نصوص عديدة تبين أن التوفي يعني الموت، ومنها:

ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي، عن بن عمر أن عبد الله بن أبي لما توفي جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه، توفيت ابنة لعثمان رضى الله تعالى عنه بمكة وجئنا لنشهدها، قال النبي صلى الله عليه وسلم قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش فهلم فصلوا عليه، فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي، عن جابر رضى الله تعالى عنه قال توفي عبد الله بن عمرو بن حرام وعليه دين، عن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيسأل هل ترك لدينه فضلا، عن جابر بن عبد الله رضى الله تعالى عنهما أنه أخبره أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود، قالت أم العلاء فسكن عندنا عثمان بن مظعون فاشتكى فمرضناه حتى إذا توفي وجعلناه في ثيابه دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنبأنا بن عباس رضى الله تعالى عنهما أن سعد بن عبادة رضى الله تعالى عنه توفيت أمه وهو غائب عنها، ... الخ

 

إن الرفع إلى الله تعالى في القرءان لا يحمل دلالة مكانية (spatial connotation) بحالٍ من الأحوال، لأنّ الله سبحانه ليس محدودًا في مكانٍ أو جهة.
فالرفع إليه هو ارتقاء في المقام والقرب (proximity of rank)، لا في الاتجاه أو المسافة، كما في قوله تعالى:

{.... يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير} [المجادلة:11]

وعليه، فقولُه تعالى لعيسى عليه السلام: {ورافعك إلي}ّ يعني تكريمه ورفع شأنه ومقامه بعد وفاته، كما رُفع مقام الشهداء والصالحين، وليس رفعه بجسده إلى فضاءٍ سماويٍّ ماديٍّ.

 

ثامنا: النتائج والاستنتاجات

1.   الفعل "توفّى" في القرءان يعني استيفاء النفس من الجسم، وهو مقترن عادة بالموت.

2.   المتوفَّى هو الميت الذي قبض الله نفسه، وأصبح جسده بلا حياةٍ في الأرض.

3.   ورود فعل التوفي مقيدًا بزمن الليل، يشير إلى حالة النوم، ولا يحدث فيها أي رفع للجسد إلى السماء.

4.   ليس لفعل التوفي أي علاقة برفع الجسم، فالجسم في كل الأخوال يبقى في الأرض.

5.   ليس لفعل الرفع إلى الله أي دلالة مكانية، لذلك فرفع النفس إلى الله ليس رفعًا مكانيًّا، بل هو انتقال إلى حضرةٍ غير مادية  (metaphysical realm) ، وكل كيان هو أصلا عند الله، فكل الأماكن عند الله سواء، ولا قيمة بالطبع لمن يتصورون أن الله سبحانه يقيم في مكانٍ ما، وأن المسيح رُفِع إلى هذا المكان ليجلس بجواره! ولكن هناك "رفع" بالمعنى الخاصّ للدلالة على رفعة الدرجة عند الله.

6.   قول الله تعالى { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } نصّ صريح محكم، وهو يؤكد على أن الله تعالى توفى عيسى عليه السلام بعد انتهاء الخطاب، وما تلى ذلك لتأكيد علوّ درجته عنده،  لا على رفع جسده حيًّا.

7.   كلّ إنسانٍ، نبيًّا كان أو شهيدًا، يُتوفّاه الله ثم يرفعه إليه، والَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون، وليس لذلك أي دلالة مكانية.

8.   محاولة صرف هذه الآيات عن معناها العربي البيّن لتوافق تصوّراتٍ خارجة عن البيان القرءاني إنما هو تحريف تأويليّ (hermeneutical distortion).

 

خاتمة

يتّضح من هذا التحليل أنّ التوفي في القرءان مفهومٌ ميتافيزيقيٌّ دقيق يرتكز على التمييز بين النفس والجسد، وبين الفعل الإلهي في القبض (divine withdrawal) وبين النتيجة الوجودية لذلك الفعل وهي الموت.
والتعبير القرءاني في شأن عيسى عليه السلام جاء محكَمًا صريحًا في دلالته على استيفاء نفسه ورفعها إلى الله تعالى، لا على رفع جسده المادي، وبذلك تنتفي الأسطورة الكتابية (the Biblical myth) التي صاغها بعض المتأثرين بالموروث المسيحي عن الصعود الجسدي، إذ لا يقرّها نصّ ولا ينهض بها لسان.


*******

 

الأحد، 2 نوفمبر 2025

مروية جمع القرءان في عهد أبي بكر


مروية جمع القرءان في عهد أبي بكر

الرواية التراثية

جاء في البخاري وغيره:

 أَرْسَلَ إلَيَّ أبو بَكْرٍ مَقْتَلَ أهْلِ اليَمَامَةِ وعِنْدَهُ عُمَرُ، فَقالَ أبو بَكْرٍ: إنَّ عُمَرَ أتَانِي، فَقالَ: إنَّ القَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَومَ اليَمَامَةِ بالنَّاسِ، وإنِّي أخْشَى أنْ يَسْتَحِرَّ القَتْلُ بالقُرَّاءِ في المَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ القُرْآنِ إلَّا أنْ تَجْمَعُوهُ، وإنِّي لَأَرَى أنْ تَجْمَعَ القُرْآنَ، قالَ أبو بَكْرٍ: قُلتُ لِعُمَرَ: كيفَ أفْعَلُ شَيئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فَقالَ عُمَرُ: هو واللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فيه حتَّى شَرَحَ اللَّهُ لِذلكَ صَدْرِي، ورَأَيْتُ الذي رَأَى عُمَرُ، قالَ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ: وعُمَرُ عِنْدَهُ جَالِسٌ لا يَتَكَلَّمُ، فَقالَ أبو بَكْرٍ: إنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ، ولَا نَتَّهِمُكَ، كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ لِرَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَتَتَبَّعِ القُرْآنَ فَاجْمَعْهُ. فَوَاللَّهِ لو كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الجِبَالِ ما كانَ أثْقَلَ عَلَيَّ ممَّا أمَرَنِي به مِن جَمْعِ القُرْآنِ، قُلتُ: كيفَ تَفْعَلَانِ شيئًا لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فَقالَ أبو بَكْرٍ: هو واللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ أزَلْ أُرَاجِعُهُ حتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللَّهُ له صَدْرَ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ، فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ القُرْآنَ أجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ والأكْتَافِ، والعُسُبِ وصُدُورِ الرِّجَالِ، حتَّى وجَدْتُ مِن سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مع خُزَيْمَةَ الأنْصَارِيِّ لَمْ أجِدْهُما مع أحَدٍ غيرِهِ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} [التوبة: 128 إلى آخِرِهِمَا، وكَانَتِ الصُّحُفُ الَّتي جُمِعَ فِيهَا القُرْآنُ عِنْدَ أبِي بَكْرٍ حتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بنْتِ عُمَرَ.

الراوي زيد بن ثابت المحدث البخاري المصدر صحيح البخاري

الصفحة أو الرقم: 4679 | خلاصة حكم المحدث [صحيح] وذكر له متابعة وعلق عليه

التخريج أخرجه الترمذي (3103)، وأبو عبيد في ((فضائل القرآن)) (281)، وابن أبي داود في ((المصاحف)) (55) واللفظ لهم جميعا.

 

نقد الرواية التراثية:

بداية يُلاحظ ما يلي:

1.   المروية تتضمن الزعم بأن قتل بعض الناس سيؤدي إلى ذهاب الكثير من القرءان!!! وهذا يتضمن أنه لم تكن توجد وثائق مكتوبة تتضمن القرءان، وبالتالي لم يكن يوجد كتبة للوحي، وإذا كان القتل قد استحر بالفعل بالقُرَّاءِ في اليمامة فهذا يعني أنه ربما يكون قد ذهب، ولو القليل منه.

2.   طالما أن قتل بعض القراء يعني ذهاب بعض أو الكثير من القرءان فالمروية تكشف عن أن أبا بكر لم يكن يولي الحفاظ على القرءان أهمية، أو على الأقل أولوية، وإلا فقد كان من الواجب عليه أن يحافظ على القراء الذين هم أوعية وحملة القرءان، أو على الأقل أن يستبقي بعضهم في المدينة، وألا ينتظر إلى أن تقع كارثة ليعمل ما يجب عليه عمله.

3.   لماذا يعرِّض جملة القرءان للهلاك وهم حملة وأوعية الرسالة التي أرسلهم يُقاتلون في سبيلها، هذا إذا كان القتال في سبيل الرسالة وليس لغرض آخر، كيف تقاتل في سبيل رسالة بتهديد وجود الرسالة؟

4.   من المعلوم أن أبا بكر صرخ قائلا "واللَّهِ لو مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ علَى مَنْعِهَا"، فأيهما أهم حفظ وثيقة الرسالة أم العناق؟

5.   يُلاحظ أن أبا بكر وزيدا رددا نفس العبارة اعتراضًا على جمع القرءان، وكأنهما نسخة واحدة.

6.   المروية تظهر أن أبا بكر وغيره لم يكونوا يدركون معنى الرسالة وعالميتها، فهل من المعقول أن القوم الذين كانوا يكتبون المعلقات التي ليس لها أي قيمة معنوية لم يولوا كتاب ربهم نفس الاهتمام وهل يكون الامتناع عن فعل لم يفعله الرسول مبررا لتضييع رسالته؟

 

الرواية التراثية بصورتها الحرفية عما يُسمَّى يجمع القرءان في عهد أبي بكر  تقول ما يلي: القرءان كان موزعًا على عُسُبٍ ولِخافٍ ورِقاعٍ وأكتافٍ وأضلاعٍ وأقْتابٍ وأديمٍ وعظامٍ، ثم جمعه زيد بن ثابت وحده بمعنى أنه تتبع هذه القطع وكتبها في مصحف واحد.
لنأخذ هذا الكلام كما هو، ونتساءل عن قابلية هذا القول للتمثل المادي والزماني والمنهجي.

 

لماذا اختير زيد بن ثابت دون الناس؟ (مفارقة الرواية مع الواقع التراثي)

أ‌.      ما تقوله الرواية: أبو بكر يكلّف زيدا لأنّه كاتب الوحي  وشابّ عاقل غير متهم عند أبي بكر عمر!!! أبو بكر يجعل نفسه محور الأمر وقطب الدائرة هو وشريكه عمر، ولا يعمل بالشورى القرءانية، وهذا إثم كبير وانحراف خطير وعدم إدراك لعظمة قدر الرسالة الخاتمة والمسؤولية عنها، بغض النظر عن الاختلافات السياسية، انفراد زيد بهذا العمل أصبح يعني عند منتقدي الإسلام أن رسالته خبر آحاد!!! وهذا ما قاله بعضهم بالفعل، والمروية تتضمن اتهامًا للعلماء بالقرءان الآخرين أنهم متهمون، فما هي تهمتهم؟!

ب‌.  ما تكشفه القراءة النقدية للنصّ الحرفي: الرواية لا تعطي سببًا منهجيًا واضحًا لتفضيل فرد واحد على "كبار العلماء والقراء" الذين كانوا موجودين؛ بل تختزل القرار في اختيار فرد واحد.

ت‌.  المشكلة النقدية: لو كان العمل يجمع آلاف القطع المتنوّعة مادّيًا ولغويًا، فقرار تفويض التنفيذ لشخص واحد — دون هيئة فاحصة أو لجنة — يترك سؤالاً منهجيًا واضحًا: على أي أساس تمت إثبات الشرعية والموثوقية؟ الرواية لا تجيب. هذا فراغ منهجي صريح في السرد التراثي ذاته.

 

لماذا لم تُشكَّل لجنة من أولي الأمر والعلماء بالقرءان للإتمام هذا الجمع المزعوم؟

أ‌.      ما تقوله الرواية حرفيًا: لم تُذكر لجنة، بل "أمر أبو بكر زيدًا".

ب‌.  تأمل نقدي: النصوص التراثية لا تسرد إجراءات تشاورية أو آليات وفاقية واضحة. غياب الذكر يعني غياب الشفافية التنظيمية في الرواية نفسها. الرواية لا تحتوي على تفسير داخلي يبرر إقصاء هيئة علمية أو مشورة أوسع؛ هي ببساطة توثّق قرار تنفيذ شخصي. هذا فراغ منهجي كبير يجعل الرواية غير مكتملة كوثيقة إدارية-تاريخية: كيف ضُمنت القبول والاعتماد من الأمة على نتيجة جمعٍ أُنجز بهذه الآلية الأحادية؟

 

كيف قام زيد بهذا العمل الجبار وحده؟

أ‌.      الادعاء التراثي: زيد تتبّع "العُسُب واللِخاف وصدور الرجال" و"جمع القرءان"

ب‌.  النقطة النقدية: الرواية تفترض قدرةٍ تنفيذية وعملية هائلة لشخصٍ واحد (تتبع مصادر متفرقة ماديًا، مراجعتها، إجراء شهادات، كتابة وتنسيق). الرواية لا توضح كيف أنجز زيد إجراءات توثيقية وإدارية (جمع، مراجعة، فحص، تمحيص، توثيق، حفظ) التي عادةً ما تحتاج إلى فريق عمل من ذوي الاختصاص (كتّاب، حفاظ، شهود، أمن للحفظ)، ولا توفّر أي تفاصيل عن مساعدين منهجيين أو زمن عمل يومي/شهري أو أماكن الحفظ أثناء العمل. النتيجة: الرواية تترك فجوة منطقية كبيرة بين القول بالعمل وشرح كيفية تنفيذه.

 

هل بدأ زيد عمله "من الصفر" حسب المرويّة؟

أ‌.      العبارة التراثية الشائعة "تتبعت القرءان أجمعه من العُسُب واللِّخاف وصدور الرجال..." توحي ببدء من مصادر متناثرة.

ب‌.  نقد صريح للرواية الحرفية: إن أخذ العبارة حرفيًا يعني أن المجموع المادي للنص كان مشتتًا على آلاف من قطعٍ مادية متناثرة ومختلفة الأحجام. الرواية لا تقول "وجدت مصحفًا جزئيًا واحدًا"، ولا تحصي أصلًا ما كان في بيت النبيّ ﷺ أو عند عترته؛ لذلك إذا قُرِئت العبارة حرفيًا فإنها تُحيل إلى عملية جمع من "لا شيء منسّق" — وهذا تناقض واضح مع ضرورة حفظ رسالة خاتمة ومع ما هو ثابت من وجود كتبة وحي، الرواية لا تعالج هذا التناقض ولا تبرّره.

 

 لماذا لم يرد ذكر لما كان موجودًا من صحف في البيت النبوي وعند عترته؟

أ‌.      الوقائع التراثية المحصّلة: الرواية لا تمنح تفصيلًا عن وجود "صحف نبوية" أو "نسخ في بيت النبيّ ﷺ أو عند العترة" قبل عملية الجمع؛ رغم تأكيد النبيّ ﷺ بأن القرءان وعترته لن يفترقا أبدا، كما لم تذكر المروية شيئا عن نتيجة عمل كتبة الوحي.

ب‌.  نقد: هذا صمت سردي مهم. إذا كانت هناك صحف أصلية محفوظة في بيت النبيّ ﷺ لكان من الطبيعي — وفق قواعد السرد الإداري — أن يذكر النقل أو الحفظ أو مطالعة تلك النسخ. غياب ذكرٍ صريحٍ لوجود وثائق نبوية يترك احتمالين: إمّا أن الرواية تُطمس الدور المادي لبيت النبيّ ﷺ (تناقض مع منطق الحفظ)، أو أنها تحيل إلى أن المواد الأصلية لم تكن موجودة كنصٍ موحَّد، لكن الرواية لا توضح أيًا منهما. النتيجة: الرواية غير مكتملة من زاوية إثبات الأصل.

ت‌.  وأين نتيجة عمل كتبة الوحي، ألم يكن يكفي تجميع ما كتبوه من وثائق والنصّ على ذلك؟ ومن البديهي أن الرسول كان يحتفظ عنده بالأصل الذي كتبوه، أو يعهد إلى أحد الكتبة الموثوق بهم بتدوينه في الصحف التي كانت عنده، والتي ثبت وجودها بالقرءان نفسه.

 

كم عدد القطع لو أخذنا الرواية حرفيًّا؟ (حساب يفضح الجانب اللوجستي)

الاستنتاج الرقمي النقدي: يمكن أخذ عدد كلمات القرءان المرجعي 77,439  كلمة (كما ترد في الإحصاءات التقليدية) وحساب عدد القطع المطلوبة بحسب طاقات فرضية لو كانت كل قطعة تحمل عددًا من الكلمات، مع احتمال التكرار، سيكون الناتج كومة هائلة ارتفاعها بضعة أمتار، وهو أمر غير معقول ماديًا أو لوجستيًا للنقل أو الحفظ أو المراجعة، هذا الحساب يَفضح عدم المعقولية العملية للفهم الحرفي للرواية.

كم من الوقت استغرقه جمع وتكديس كل ذلك، وكم من الوقت كان يستغرقه مجرد إحضار قطعة والنظر فيها؟

 

 هل مدة خلافة أبي بكر (سنتان تقريبًا) كافية لإجراء هذا العمل؟

أ‌.      المعلومة التراثية: العمل وقع خلال خلافته (بعد الردّة) وانتهى قبل موته، فمدة عمل زيد كانت أقل من سنتين بكثير.

ب‌.  المعطى النقدي: إن كانت المادة عبارة عن آلاف قطع متناثرة فإن فترة سنتين غير كافية منطقيًا للفحص والتحقيق والكتابة والمراجعة والحفظ، لا سيما في ظروف أمنية وسياسية مضطربة (ما بعد ردّة). الرواية لا تقدم جدولًا زمنيًا أو آليات عمل توضح كيف تمت المراجعة أو كم عدد العاملين أو مدى التثبت الشهري. لذا النص التراثي في صورته الحرفية يتضارب مع قيد الزمن؛ الرواية تَعترف بالإلحاح لكنها لا تشرح الكيفية الزمنية للعمل.

 

 لماذا لم تُشكَّل لجنة من كبار علماء القرءان لمراجعة عمل زيد؟

أ‌.      ما تذكره الرواية حرفيًا: لا تشكيل لجنة؛ الثقة سُندت إلى زيد، والناتج حُفظ عند أبي بكر ثم عمر ثم حفصة!! ومن المعلوم أن باقي الناس تُرِكوا وشأنهم، كل قبيلة تقرأ القرءان بلغتها حتى حدث الاختلاف الذي كاد يُفضي إلى قتال، ويبرز السؤال: لماذا يُرسلون العرب ليقاتلوا الناس في أقاصي الأرض في سبيل نشر رسالة هم مختلفون أصلا بشأنها؟!

ب‌.  نقد صارم: هذا الصمت على مستوى الشورى العلمية في الرواية يبقى غير مفسَّر، إن الرواية لا تقدم معيارًا شرعيًا أو بروتوكوليًا لفَضْلِ اعتراف الأمة بنتيجة عمل فردي. إضافة لذلك، الرواية لا تبين آلية تقديم الاعتراض أو التصحيح أو لقاء مراجعة من كبار القرّاء؛ أي أنها تَعرِض العمل كخُلاصة تنفيذية لا كمنتَج وفاقي تَوافقي. هذا فراغ دستوري في الرواية نفسها.

 

الكارثة الكبرى

يقول زيد بن ثابت في مروية جمع القرءان: حتَّى وجَدْتُ مِن سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مع خُزَيْمَةَ الأنْصَارِيِّ لَمْ أجِدْهُما مع أحَدٍ غيرِهِ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} [التوبة: 128 إلى آخِرِهِمَا

والسؤال: كيف لم يجد آيتين من سورة التوبة إلا مع خزيمة الأنصاري؟ ماذا كان يفعل كتبة الوحي؟ لماذا لم ينظر إلى ما لدى كبار علماء القرءان الذين كان عندهم نسخ مكتوبة مثل الإمام علي وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهم؟

الكلام المنسوب إلى زيد عبر هذه المروية الظنية يعني أنّ النبيّ ﷺ لم يُخَلِّف للأمّة نُسخةً مكتوبةً كاملة من الوحي، وأنّ الحفظ النبويّ للوحي كان ناقصًا حتى استدركه زيد بعد وفاة الرسول بجهده الفردي، إنّ هذا التصوّر يجعل من سلامة النصّ الإلهي رهينة الذاكرة الفردية لصحابي واحد، ويُضعف منطق الحفظ الجماعيّ (Collective Preservation) الذي شهدته الجماعة المسلمة منذ عهد النبوّة، حيث كان القرءان محفوظًا بالتلقّي المتعدّد (Multiple Transmission) والتلاوة الجماعية (Communal Recitation) والمراجعة مع جبريل عليه السلام، والتي حدثت مرتين في العام الأخير.

 

خلاصة نقدية كلية

1.   التركيز الفردي على زيد يخلق مشكلة شرعية ومنهجية: الرواية لا تقول لماذا لم تُعطَ الشراكة أو الشهادة المؤسسية، ولا تشرح آلية إقرار الأمة بنتيجة عملٍ أحادي، سلوك أبي بكر وعمر يعني اقتراف إثم كبير وخطير، هو تجاهل الشورى في الأمر.

2.   الرواية تبين إصرارا على تجاهل العترة النبوية رغم تأكيد الرسول بأن القرءان والعترة لن يفترقا أبدا.

3.   الرواية التراثية كما هي حرفيًّا تصطدم بمشكلات لوجستية صارخة: أوزان وأعداد قطع متوقعة، حجم الركام المجموع من الأشياء المادية، قابلية النقل، والسعة الزمنية لإنجاز العمل، كلها تفصح عن عدم توافق بين النصّ الحرفي والواقع المادي.

4.   الرواية فَقِدَت عناصر منهجية حاسمة: غياب ذكر معايير اختيار القائم على الجمع، غياب تشكيل هيئة علمية فاحصة، غياب توثيق تفصيلي لوجود وثائق منزلية أو مصدر أصل، وغياب جدول زمني أو سجل أعمال. هذه أوجه قصور داخل النص التراثي ذاته.

5.   الحساب المبدئي يُظهر أن الفهم الحرفي للمواد البدائية يقود إلى نتائج مادية غير قابلة للتطبيق، النتيجة هنا أن الرواية الحرفية لا تقف على قدميها كوثيقة مادية-إجرائية.

 

تداعيات منهجية ونقاط للبحث المستمر (مختصرة)

أ‌.      الرواية التراثية تحتاج إلى مراجعة نقدية نصّية (Textual Criticism): تحليل الأسانيد وتباينات السرد عبر المصادر المبكرة والمتأخرة.

ب‌.  تحتاج إلى مطابقة بين السرد التاريخي والقدرة اللوجستية: أرقام ومواد، وإثبات أقصى ما يمكن قبوله حرفيًا.

ت‌.  غياب آليات الشورى والمراجعة في الرواية يشير إلى أن السرد التوثيقي الإداري مفقود؛ هذا ما يستلزم دراسة مصادرية أعمق عن تسلسل الملكية والاحتفاظ بالمخطوطات عند الأجيال الأولى.

ث‌.  الرواية التراثية تشكك في قيام الرسول بواجباته تجاه رسالته بزعمها أنه ترك القرءان مفرقًا بطريقة عشوائية بين الناس، وتتجاهل تمامًا نتائج عمل هيئة كتبة الوحي، ولا تترك للناس إلا أن يختاروا إما المروية وإما القول بعدم وجود كتبة للوحي أو اندثار نتائج عملهم، وهذا مستحيل أن يحدث في خلال سنة واحدة.

ج‌.   المروية تتجاهل تمامًا دور العترةُ وقول الرسول أن القرءان وعترته لا يفترقان حتى يردا عليه الحوض.

 

الخلاصة: لا يجوز الاعتداد بهذه المروية فيما يتعلق بشأن القرءان وعلومه، ولا يجوز أن توجد في كتب دينية حقيقية.

 

*******