أبو بكر وعمر: اختلاق الدين القرشي وتحويل
المسار
إحباط الأمنية
لعب
أبو بكر وعمر الدور الحاسم في إحباط أمنية النبي ﷺ في أن تظل الأمة بعده على ما
كانت عليه في عهده: جماعة خيّرة، تختار أفضلها وأتقاها وأعلمها وأشجعها، ليقودها
لا بتغلب ولا بمكر، بل بفضل ظاهر واستحقاق ديني وروحي وعقلي وعسكري مشهود. كانت
رغبة النبي أن يُستكمَل مشروع التزكية والتعليم في الأمة، بقيادة من يمتلك
المؤهلات الفعلية لوراثة النبوة في الولاية والتوجيه، لا في التشريع والتبليغ.
غير
أن ما وقع بعد النبي كان غير ذلك. إذ وجدت الأمة نفسها، بعد وفاته، بين أعراب
أسلموا في أواخر عصر الرسالة، لم يُهاجروا، ولم يتلقوا التزكية النبوية، ولم
يتشربوا الروح القرءانية. كان من المفترض أن يتم إعدادهم وتزكيتهم على يد إمام
الأمة، صاحب الفضل الأوضح والتفوق الأجلى، غير أن المسار الذي سلكه أبو بكر وعمر
حال دون ذلك.
عمر والعقيدة اليهودية
كان
عمر بن الخطاب معروفًا بملازمته لليهود، إذ كان يعيش في حيّهم، يحضر مجالسهم،
ويستمع إلى تعاليمهم، حتى جاء يومًا ببعض ما تعلم منهم ليعرضه على النبي، فأجابه
النبي ﷺ مغضبًا، رغم ما عُرف عنه من حلم وزهد في بيان علوّ درجته:
"أمتهودون
فيها يا عمر؟ لو كان موسى بن عمران حيًا ما وسعه إلا أن يتبعني."
غير
أن أصحاب الاتجاه القرشي الأعرابي رأوا أن هذه الكلمة شديدة الوطء، فحرّفوها إلى
"متهوكون"، مع أن معناها ظل قريبًا: "مائلون إلى الباطل"، وإن
كانت الكلمة الأصلية "متهودون" أكثر دلالة وصدقًا.
لقد
استبطن عمر عن اليهودية فكرة "الشعب المختار"، وأسقطها على قريش، وجعلها
أساس مشروعه السياسي والديني. وجد في أبي بكر حليفًا مثاليًا لهذا التصور،
فالرجلان لم يكونا من الصف الأول في الذؤابة القرشية، ومن هنا كانا أكثر حرصًا على
تفعيل مفهوم العِرق القُرشي العام، لا الفرعي، وتغليبه على الكفاءة والتقوى والعلم.
كان الرجلان لا ينتميان إلى
الذؤابة العليا من قريش، وهؤلاء عادة ما يجدون شرفهم في التأكيد الشديد لانتمائهم
إلى الأصل القرشي وليس إلى فرعهم، وعندما لا يجد المرء ما يشرفه في الفرع الأقرب
إليه من القبيلة فإنه يبالغ في إظهار الانتماء إلى الفرع الأبعد، ومثل ذلك ما حدث
مع جرير عندما وجد الفرزدق ينتمي، طبقًا لأحكام الجاهلية، إلى فرع أشرف من فرعه،
ولا سبيل إلى منافسته أخذ يفتخر بمضر كلها، قال:
إن الذي حرم الخلافة تغلبا ...
جعل النبوة والخلافة فينا
مضر أبي وأبو الملوك وهل لكم ...
يا خزر تغلب من أب كأبينا!
هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو
شئت ساقكم إلي قطينا
إن الفرزدق إذ تحنف كارها ...
أضحى لتغلب والصليب خدينا
دفاع أبي بكر عن
"سيادة قريش"
في
حادثة شهيرة، مرّ أبو سفيان على سلمان وبلال وصهيب، فقالوا: "والله ما أخذت
سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها." فقال أبو بكر مستنكرًا:
"أتقولون
هذا لشيخ قريش وسيدهم؟!"
فلما
أخبر النبي ﷺ، قال له:
"يا
أبا بكر، لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك."
فعاد
إليهم معتذرًا.
هذه
الحادثة تبيّن أن النبي كان يبذل جهدًا شديدًا في تربية أبي بكر وتزكيته وتطهيره
من حمية الجاهلية، إلا أن هذه التربية لم تُؤتِ ثمارها المرجوّة، ولا عجب في ذلك
التزكية تنجح عند من لديه استعداد جوهري لتقبلها.
الهروب من المعارك
والميل إلى القرابة القريشية
من
المعلوم أن أبا بكر وعمر لم يُعرفا بمآثر كبرى في ميادين القتال زمن النبوة، بل
كانا ممّن يبادرون بالفرار عند الخطر، كما في يوم أُحد ويوم حنين، ولم يُقاتلا في
بدر، وهو ما يعود في بعضه إلى خشيتهم من سفك الدماء القرشية المقدسة في وجدانهم.
أما
قصة أسرى بدر فهي مختلقة لإعطاء مكانة لعمر على حساب الله وكتابه ورسوله، بل تتضمن
إساءة لله سبحانه ورسوله، أما حكم الأسرى فقد كان مقررا مسبقًا بآية قرءانية، فلا
مجال لاستشارة الناس بخصوصه.
وفي
سقيفة بني ساعدة، لم يستند أبو بكر إلى نص قرءاني أو نبوي في طرحه للخلافة، بل
احتج بمكانة قريش بين الأعراب، وبأن النبوة كانت فيهم، وكلامه يدينه، فهو يثبت
بذلك أنه اعتدى على حقّ بني هاشم في ولاية الأمر طبقًا لما احتج هو به.
وكان
من الأوْلى بالحضور أن يصرخوا في وجهه: إن كانت القرابة هي المعيار فإن النبوة
كانت في بني هاشم، فهم أوْلى بها، فلنستدع ممثلين لهم وليكن الأمر شورى بين كل
ممثلي الأمة.
وفي
لحظة نشوة عقب انتصار العرب بقيادة خالد على الفرس في أمغيشيا، جمع أبو بكر قريشًا
وقال:
"يا
معشر قريش، إن أسدكم قد عدا على الأسد، فغلبه على خراذيله، عجزت النساء أن يلدن
مثل خالد!"
لم
يذكر في خطبته الإسلام، ولا الدعوة، ولا التوحيد، بل رد الفضل كله إلى أسدية خالد
وبراعة "نساء قريش".
محو التراث النبوي
وتأسيس الدين البديل
كان
أبو بكر وعمر حريصين على محو التراث النبوي، منعا تدوين الحديث، وأحرقا ما دوّن
منه، وتوعّدا من يكثر من الرواية، وكانا يرددان أقوالًا مثل:
"من
كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات."
وسرعان
ما انتقل كل واحد منهما إلى ممارسة سلطته وكأنها امتداد مباشر لسلطة الرسول:
قال
أبو بكر: "والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها
إلى رسول الله لقاتلتهم عليها."
أما عمر فقد تفوق على أبي بكر في أنه كان ينسب أفعاله
وأفعال قريش إلى الله، ويعتبرها مصدرُ للتشريع، قال عمر مبررًا تجاهله
للوصية النبوية: "كرهت قريش أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة، فتبجحوا على قومكم بجحا
بجحا، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت".
فقول
عمر هذا يدل على أنه لم يفقه من أمر الرسالة شيئا، أو أن عقيدته القرشية نزلت به
إلى الحضيض الأسفل.
وقول
عمر يختزل كل المسلمين في قريش، ثم يختزل قريش في شخصه وشخص أبي بكر، ومن المعلوم
أن الذي عينه خليفة هو أبو بكر، مستبدًا بالأمر من دون قريش، فلم يحدث أن اجتمعت
قريش وقررت بالإجماع اختيار عمر خليفة، وعمر يتجاهل تمامًا أن بني هاشم هم من قريش
أيضًا..
وبافتراض
أن قريشًا هي الذي اختارته بالفعل فما اختارته قريش ليس هو "الحق"، ولم
يرد في كتاب الله أو أقوال رسوله.
فقول عمر لابن عباس ليس إلا مبررا واهيا لإصرار عمر على
انتهاك حقوق العترة النبوية.
التحالف مع الطلقاء
والمنافقين
قرَّب
أبو بكر وعمر الطلقاء والمنافقين، وأسندا إليهم المناصب الكبرى، ومنها قيادة
الجيوش، ورفضا مشاركة من لا يعترف بمشروع قريش، حتى من الأنصار، إلا إذا أقرّوا
بالخضوع. كان الشرط الوحيد للمشاركة هو الولاء لمشروع "الدولة القرشية".
وبذلك
تركزت القوة والثروة والسلطة في أيدي القرشيين، وتمكنوا بذلك من إغواء واستمالة من
كانوا من السابقين إلى الإسلام.
وطوال
عصر أبي بكر وعمر لم يكن الاطلاع على القرءان الكريم متاحًا للناس كافة، فلم تتح
نسخ للناس إلا من بعد في عهد عثمان، وكان محظورا تداول كلام الرسول، فأصبح الدين
عند أكثر العامة هو أفعال أبي بكر وعمر، واعتبرت أفعالهما سنة دينية ملزمة.
ويُلاحظ
أن عبد الرحمن بن عوف اشترط الالتزام بسنة أبي بكر وعمر على المرشحين للخلافة من
بعد عمر، وهو الشرط الذي رفضه الإمام علي، وقبل به عثمان، ثم وضعه تحت قدميه
بازدراء.
وهكذا
تأسس أول دين سياسي بديل باسم الإسلام، دين قرشي أعرابي، أعاد تأويل الرسالة لتكون
وسيلة سيطرة لقريش، لا رسالة تحرير وتزكية وتوحيد، هذا الدين كان أساسًا لدين بني
أمية، ثم دين بني العباس، ثم الدين السني الرسمي، والذي تتضمن بعض التحسينات له،
ولكنه ظل محفوظًا في صيغته النقية في السلفية والأثرية.
تحويل "ربّ
العالمين" إلى شيخ قبيلة
ومن
هذا الدين وُلدت الفكرة الكارثية التي ما زالت تهدم الوعي إلى اليوم: أن ربّ
العالمين ليس ربًا لكل الناس، بل شيخ القبيلة القرشية، وأنه فقير إلى "رجال
قريش"، وأنه اختارهم ليتسلطوا على خلقه.، ولذلك اعتبر العرب الدين شأنًا خاضًّا بهم،
وأقاموا في مدن عسكرية أسسوها، ولم يحاولوا أن يدعو الناس دعوة جادة إلى الإسلام،
وسيستمرون في فرض الجزية حتى على من أسلم حرصًا على مواردهم.
ومن
بعد خمول ذكر قريش أصبح الشعب المختار الجديد هو أتباع أي مذهب من المذاهب التي
حلَّت محلّ الإسلام وانتحلت اسمه، فالسلفية، مثلا، يعتبرون أنهم الشعب المختار،
وأن من خالفهم في أي شيء ممن ينتسب إلى الإسلام هو كافر أو فاسق، وكذلك حال كل
التنظيمات الإرهابية التي تستبيح دماء وأموال وأعراض المسلمين الآخرين.
الآثار العملية: من
دولة الرسالة إلى دولة الجيوش
لقد
أنشأ أبو بكر وعمر دولة عسكرية قرشية، أخضعت الأعراب لأول مرة لسلطة مركزية، ثم
سخّرتهم في حروبها ضد الفرس والروم.
وهكذا تمكنت الدولة القرشية من القضاء على إمبراطورية
الفرس قضاءً تاما، وهو ما عجز عنه الرومان ثم الروم البيزنطيون، كما انتزعوا من
البيزنطيين أهم وأغنى مستعمراتهم، ولولا تفوق
البيزنطيين البحري، لسقطت دولتهم أيضًا.
هذا مع العلم بأن الفرس والروم كانوا في أضعف حالاتهم
بعد أن انخرطوا طوال ربع قرن في حروب مهلكة عبثية، كما أن دولة الروم كانت ممزقة
بسبب الاختلافات المذهبية.
خلاصة تأثير أبي بكر
وعمر
1.
أحبطا وصايا
النبي ﷺ وأمنياته في وجود أمة إسلامية خيرة غير سلطوية من بعده.
2.
مَحَوَا الإرث
النبوي والتدوين المبكر في حضور الشهود الحقيقيين، مما نسبب في وجود مشكلة
المرويات وأدَّى إلى الاختلاف والتنازع وتفريق الدين.
3.
مَنَعا بروز دين
الحق، وحجباه بالغطاء القرشي الأعرابي.
4.
أسَّسا دولة
قريش التي قهرت الأعراب والفرس واستولت على أغنى أراضي الروم.،
الجانب الإيجابي في ذلك حماية الأمة من أخطار مصيرية كان يشكلها هؤلاء، وتغير بذلك
مجرى التاريخ.
5.
أرسيا أسس الدين
الأعرابي القرشي، الذي تطور لاحقًا إلى الدين الأموي، فالدين العباسي، فالدين
السني الرسمي، والذي يقي في صورته الأنقى في الدين الأثري والسلفي.
6.
جعلا الإسلام
عند الناس دولة سلطوية أكثر منه دينا، فكل حركات الإرهاب باسم الدين تستند إليهما.
7.
لم يعد يوجد
كيان إنساني كبير يستحق أن يحمل الأمانة ويُستخلف في الأرض وأن يدعو إلى الله بالوسائل
الشرعية.
خاتمة
لقد
كان لأبي بكر وعمر أثر بالغ في صياغة التاريخ الإسلامي، لا من خلال حفظ الرسالة،
بل عبر إعادة توجيهها وتحويلها إلى مشروع سياسي قُرشي.
وهكذا،
فإن الرجلين، بما أحدثاه من تحولات كبرى، ليسا مجرد خلفاء في سلسلة الحكم، بل من
أكبر مهندسي التحوّل الجذري من دين الحق؛ الدين العالمي، دين التوحيد والعدل
والحرية إلى دين السلطة والقومية والوراثة القبلية.
ومنذ
عصرهما إلى يوم الناس هذا، وربما إلى قيام الساعة، لم يعد يوجد كيان إنساني كبير
يستحق أن يحمل الأمانة ويُستخلف في الأرض، فقامت بذلك جزئيا أمم أخرى.
وكذلك
لم يعد يوجد كيان إنساني كبير يمكن أن يدعو إلى الله بالوسائل الشرعية، فأصبح
القيام بذلك مقصورًا على الأفراد وفق وسعهم.
وهذا
ما يجعل النظر في فعلهما ضرورة لفهم لحظة الانكسار الكبرى في مسار الأمة.
*******
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق