الأربعاء، 2 يوليو 2025

ضلضل وفلسف: مأساة فلسفية في صحراء اللامعنى

 ضلضل وفلسف: مأساة فلسفية في صحراء اللامعنى

ضلّ ضلضل طريقه في صحراءٍ مترامية الأطراف، لا ظلّ فيها ولا حياة، سوى الرمال التي تلسعها شمس لا ترحم. احتفظ بقارورته الصغيرة من الماء، وراح يقتصد في الشرب كما يقتصد الجائع في أنفاسه الأخيرة من خبز الحياة. لكن الشمس ازدادت حدةً، وكأنها أقسمت أن تحوّله إلى رماد.

مرّت الساعات، بل الأيام، ونفد الماء. جلس على الرمال الحارقة، يجرّ أنفاسه المتبقية، وأحسّ بأن الأفق يسخر منه. وفي اللحظة التي استسلم فيها للموت، انشقّ السراب عن هيئة إنسان!

لم يصدّق عينيه. فتحهما بصعوبة، فرأى رجلاً يقترب، يحمل حقيبة جلدية، ويلبس نظارة سميكة، وله لحية مهذّبة ووجه بارد لا تنعكس عليه حرارة المشهد.

قال ضلضل، بصوتٍ مخنوقٍ بالأمل:
النجدة... ماء... أنا أموت عطشًا...

اقترب الغريب بهدوء، جلس القرفصاء بجانبه، وأجابه ببرود:
وكيف عرفت أنك تموت عطشًا؟

نظر ضلضل إليه في ذهول:
ألا ترى وجهي الشاحب، وجسدي الجاف، وأنفاسي المتقطعة؟ ألا ترى أن حالي أفصح من كل بيان؟

هزّ الرجل رأسه بتثاقل، وقال:
حواسك تخدعك يا صديقي، كما خدعت ملايين البشر عبر العصور. لا يمكنك أن تثبت صدق حالك لمجرد الإحساس به. هذا ليس برهانًا كافيًا.

اتّسعت عينا ضلضل، وسأله بيأس:
من أنت بحق السماء؟ وماذا تفعل هنا؟

أنا الأستاذ فلسف، الفيلسوف الجوّال. أعيش على تأمل المعاني، وأتنفس البراهين، وأموت دفاعًا عن المبادئ. لا أصدق إلا ما تثبته المنطقية الصارمة، ولا أعترف بأي دعوى بلا دليل عقلي متماسك.

صرخ ضلضل، وقد أرهقه العطش أكثر من الفلسفة:
إذًا، اسمعني جيدًا. أنا عطشان. أكاد أموت. هذه حقيقة وجودية، لا تقبل الجدل، أفهمت؟!

ردّ فلسف ببرود:
قولك "أنا عطشان" دعوى تركيبيّة، تحتمل الصدق أو الكذب. تحتاج إلى إثبات. وما دمت عاجزًا عن تقديم دليل فلسفي متين، فلا يحق لك افتراض صدقها.

أي دليل أقدّمه، يا رجل، وأنا على شفير الموت؟! ما أعلمه أن الإنسان لا يعيش بلا ماء، وأنا لم أشرب منذ ثلاثة أيام...

هذا يسمى استقراءً ناقصًا، وقد أثبت فلاسفة العلم محدوديته. لا يمكنك تعميم ملاحظاتك السابقة على المستقبل أو الحالات الجديدة. لا يقين في التجربة، ولا ضمان في العادة.

صمت ضلضل لحظة، ثم سأل وهو يلهث:
إذًا، كيف يمكنني إقناعك بأنني بحاجة إلى الماء؟

يجب أن تقدّم برهانًا فلسفيًا لا يعتمد على المقدمات الكونية أو الحسية، ولا يقوم على التجربة، ولا يشوبه الدور. هل تستطيع؟

بالله عليك! ما هذا الجنون؟!

أجاب فلسف وهو يشدّ على حقيبته:
هذه ليست فلسفة، بل صرامة العقل، والانضباط المنهجي. والآن، هل لديك شيء آخر؟

صرخ ضلضل، وقد بلغ حد الغليان:
اسمعني! البشر جربوا، ومرضوا، وماتوا، آلاف المرات، بسبب العطش. أليس هذا كافيًا؟

تلك نتائج عملية، لا تهم الفلسفة. صحة التطبيق لا تعني صحة النظرية. هذه هي المعضلة.

لا أريد نظرياتك! أريد ماءً! قطرة واحدة فقط!

بشرط أن تصوغ طلبك صياغة فلسفية صارمة.

ضحك ضلضل، ضحكة كادت تمزق حنجرته الجافة، ثم قال:
أعدك! فقط اسقني الآن، وسأؤلف لك مجلدًا في المنطق الصوري!

أجابه فلسف بهدوء قاتل:
هيهات! إن كنت لا تؤمن ببرهانك وأنت في أمسّ الحاجة إليه، فكيف ستؤمن به وأنت في غنًى عنه؟

أنت تتركني أموت!

بل أنقذ مبادئي من الابتذال... هذا أعظم من إنقاذ جسدك.

ساد صمت ثقيل. كان ضلضل قد وصل إلى حدود اليأس المطلق، لكن شيئًا غريبًا دبّ في عروقه، شعور قديم، بدائي، ربما كان غضبًا نقيًّا، أو بقايا كرامة بشرية. تناول سكينًا صغيرًا كان في جيبه، واستجمع ما بقي من طاقته، وطعن فلسف في بطنه.

شهق فلسف، وتراجع إلى الوراء، ينظر إليه مذهولًا، والدماء تنزف منه بغزارة.

صرخ:
أي جنون هذا؟ ما المنطق الذي تستند إليه؟ ما المذهب الفلسفي الذي يبرر هذا الفعل؟

قال ضلضل وهو يلفظ أنفاسه:
كل من طُعن هكذا قد مات... لكن من يدري؟ ربما تنجو. ألا تؤمن أن ذلك استقراء ناقص؟ لا يصلح كبرهان فلسفي صارم؟ وداعًا.

سقط الاثنان على الرمل، الشمس لا تزال تلتهب في السماء، والصحراء تحتفظ بسرّها، كما كانت دائمًا.

*******

هناك تعليق واحد: