الخميس، 14 سبتمبر 2017

آية الأنفال 17

آية الأنفال 17

{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)} الأنفال

إنه لو كان السلفية الأثرية متسقين مع أنفسهم وقواعدهم فلن يستطيعوا تفسير مثل هذه الآية وسيجدون فيها اختلافا لن يستطيعوا تبريره، ولكن بما أنهم ألد أعداء العقل والمنطق فإنهم سينقلون ما يقوله غيرهم دون أن يروا أي تناقض ودون أن تهتز منهم شعرة، وهم لن يستطيعوا اللجوء إلى القول بالمجاز الذي لا يعترف به ربهم ابن تيمية وينفي وجوده في القرءان.
أما الأشاعرة فسيستدلون بها على صحة قولهم بأن الله يفعل عند الأشياء لا بها وأن الفعل إنما هو لله وليس للأسباب الظاهرة وأنه ليس للإنسان إلا ما يسمونه بالكسب وليس الفعل، هذا رغم أن الآية لا تنفي نسبة الأفعال إلى من صدرت عنهم، وإنما تثبتها لهم، والكسب عندهم هو قدرة تحدث للإنسان عندما يهم بالفعل لكي يُنسب الفعل إليه، ولا أثر لها في حدوثه، بل الحدوث بالقدرة الإلهية.
أما المعتزلة فلن يجدوا حرجا من القول بأن الأفعال المذكورة هم الذين خلقوها أو أوجدوها، وسيحاولون التملص من نسبة الأفعال في الوقت ذاته إلى الله بأي حيل لغوية أو باللجوء إلى القول بالمجاز.
أما المتصوفة من أصحاب عقيدة وحدة الوجود فسيعتبرون الآية نصا على عقيدتهم، فهم سيقولون إن الله الظاهر بصورة الرسول هو الذي رمى؛ فالرمي المنسوب إلى الصورة الظاهرة يجب أن ينسب إلى المتجلي الذي له الوجود الحقيقي.
أما طبقا لدين الحق الذي نعلمه فإن كل فعل صدر عن إنسان وكان من مقتضى سمات كمال فإنما ينسب إلى الله تعالى بالأصالة لأنه هو المصدر الأوحد للكمال والحسن في الوجود، فهو أولى به من غيره، والفعالية والإيجابية والتأثير من كمالاته اللازمة، كما أنه لا يتحقق فعل أو عمل إلا بسريان قوانينه وتحقق سننه، أما من صدر عنهم الفعل من الناس فهم محض آلات لله يحقق بهم ما أراده، ولما كانت الحكمة من سماته اللازمة فلقد دبر الأمر واختار لتحقيق مراده من هم الأصلح لذلك لتوفر ما يلزم من صفات الكمال لديهم ولصدق عزمهم على تحقيق ما أراد الله منهم ولكونهم قدموا إرادته وأوامره على مطالبهم الذاتية، فمن حيث مرتبة هذا العالم فالأعمال الصالحة المذكورة صدرت عنهم بالفعل، ولكنهم لم يخلقوها بل تحققت بمقتضى قوانين الله وسننه، وهم لكل ما ذُكر سيكونون محل آثار هذه الأعمال الصالحة التي حققها الله بهم، أما هو سبحانه فهو معهم وقريب منهم ولكنه أيضا العلي الأعلى المتعالي عليهم، فهو ليس عين وجودهم ولا المتجلي بصورهم ولا الظاهر مقيداً بمراتبهم، وهم ليسوا بصور متعددة له ولا بأعيان ثابتة تطالع صورها في مرآة وجوده، فهم من مخلوقاته التي خلقها وقدرها ليحقق بهم مقاصده، وهم أشبه بالعدم عند المقارنة به ولا وجود حقيقي لهم إلا بالنسبة إلى بعضهم البعض.
من يكون آلة لتحقيق أمر معين لن ينجح فيه إلا بقدر وسعه وعزمه وقصده، وقد لا ينجح، وفي غزوة بدر التي يتحدث عنها سياق الآيات كان المقصد هو ما نصَّت عليه الآيات:
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)} الأنفال
ونزول الملائكة كان لتثبيت الذين آمنوا، وهم بالطبع لم يقاتلوا، وملك واحد قادر على إبادة جيش قريش كله، ومن الأولى أن يقضي الله تعالى عليهم بكلمة منه، ولكن كل ذلك يتنافى مع وجوب تحقيق المقاصد الوجودية، ولذلك قال تعالى:
{وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)} محمد، {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} آل عمران.
ولو تقرر أن يقاتل ملك من الملائكة لأخذ صورة إنسي، ولقاتل بوسائله، قال تعالى:
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُون} [الأنعام:9]
ولكي يكون الإنسان محض آلة إلهية عن بصيرة وإدراك كالعبد الصالح صاحب موسى يجب أن يتطهر تماما من كل أهوائه وإرادته الخاصة وأن يعيش لله بالله في الله.
*****
حاول دعاة وحدة الوجود الاستناد في دعواهم إلى أمثال هذه الآية فجعلوا منه سبحانه عين المخلوقات أو عين وجودهم، وصالوا في ذلك وجالوا وجاءوا بكل غريب، ولكن الحق هو أن الآيات تفيد استناد كل الأفعال إلى الله تعالى من حيث انتهاء كل سلاسل الأسباب إليه ومن حيث أن كل السنن التي يسير عليها أمر الكون إنما هي من مقتضيات أسمائه وسماته ومن حيث أن كل المخلوقات هم آلاته وأدواته، ولكن استناد كل الأفعال إليه طبقا لهذا البيان لا ينفي صدورها عمن صدرت عنه ولا مسؤوليته عنها، فالله سبحانه لا يستخدم أداة أو آلة إلا بما يوافق طبيعتها، وكذلك يجعلها محل آثار الفعل الصادر عنها، فإذا اقتضى الأمر قتل بعض المشركين ممن حق عليهم القول ولم يعد ثمة مجال لإيمانهم فإن أفضل من يمكن أن يستخدم لذلك هم المؤمنون ففي ذلك ابتلاء لهم ورفع لدرجاتهم وإمكانية اتخاذ شهداء منهم، وكما يصدر فعل قتل المشركين منهم فإنهم سيكونون أيضا محل النتائج المترتبة على ذلك الفعل، وكما يجعل الحق من عباده آلات لتنفيذ ما أراده وما قضى به فإنه ينسب إلى نفسه ما فعلوه.
والآيات تشير أيضًا إلى رضى الله تعالي عما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ والذين معه، وهو يعلن بها تأييده ومساندته لهم.
هذه الآية توقع السلفية والمشبهة والمجسمة وأهل التفسير الحرفي في حرج بالغ، فالظاهر والبادي تماما للعيان هو أن المؤمنين هم الذين قتلوا من قتلوا من المشركين في موقعة بدر، ومع ذلك فالآية تؤكد أنهم لم يقتلوهم، وتؤكد أن الله هو الذي قتلهم، وذلك في حين أن الآية تنسب إليهم فعل القتل أيضًا، ولذلك يجب التأكيد دائما على أن القرءان يخاطب قوما يعقلون ويفقهون ويتدبرون ولديهم السليقة العربية ويعلمون الأساليب العربية أيضا.
فالمؤمنون كانوا مجرد آلات لتنفيذ ما قضى الله تعالى به وأراده وذكره في القرءان:
{...وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)} الأنفال، {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)} آل عمران.
وقتل الكافرين تمَّ بمقتضى حكم الله وقضائه وبالتوافق مع قوانينه وسننه، ولذلك فهو في الحقيقة له، وفي الظاهر للآلات التي استعملها لتحقيق ذلك.
والرمية التي قام بها النبي قد أثبتها الله تعالى له من حيث أنه الآلة الإلهية الظاهرة، ونفاها عنه من حيث أن الفعل الحقيقي والتأثير لله تعالى وحده وبمقتضى قوانينه وحده وسننه وأمره، ولذلك أثبتها الله تعالى لنفسه، فالفعل من حيث هو تأثير محض لا يكون بالأصالة إلا لله تعالى.
ولا يجوز هاهنا الأخذ بمزاعم القائلين بوحدة الوجود من المتصوفة، والحدود واضحة تماما والبون واسع بين الله تعالى وبين خلقه.  
فالله تعالى لا يباهت الناس فيما يرونه، ولا ينفي عن أحد ما صدر عنه من فعل، ويحاسبه عليه، ولكن هذا الفعل لا يتم إلا إذا توافق الإنسان مع السنن الكونية السارية على الناس.


*******

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق