دين الحقّ لم
يُفعّل بعد
يشيع في بعض الأوساط الفكرية
والحقوقية المعاصرة القول بأن أديان التوحيد تُكرّس للاستبداد، وتُمعن في احتقار
الإنسان وازدراء حقوقه، بينما تُعدّ أديان الشرك والتعددية مصدرًا للحرية والتسامح
والديمقراطية.
وهذا
التصور، وإن كان مفهومًا في سياق ما شهده التاريخ من انحرافات دينية جسيمة، إلا
أنه مجافٍ للحقيقة إذا ما تم تحليل المسألة في ضوء التمييز الدقيق بين دين الحق
بوصفه وحيًا ربانيًا خالصًا، وبين ما انتحل اسمه من نظم مذهبية وسياسية
وأيديولوجيات بشرية شوهت جوهره.
حقيقة دين الحقّ
وتاريخ تعطيله
دين التوحيد الحقّ، الذي أنزله
الله على أنبيائه وخُتم برسالة محمد ﷺ، هو دين قائم على تزكية النفس، وتحرير
الإنسان من كل عبودية لغير الله، وتهذيب علاقته بذاته وبالكون وبالآخرين على أساس الحق
والعدل، والرحمة، والكرامة الإنسانية.
غير أن هذا الدين لم يُفعّل يومًا
في التاريخ تفعيلًا كاملًا، وذلك لأنه لم يُتح له أن يتحقق اجتماعيًا وسياسيًا في
بنيته الأصلية التي خُتم بها في أواخر العصر النبوي.
لقد اكتمل دين الحق قبل وفاة
النبي ﷺ، ولكن اللحظة التاريخية التي كان يفترض أن يبدأ فيها التفعيل المؤسسي
والاجتماعي الكامل له، شُوهت بفعل انقلاب مبكر بدأ عندما رفض القرشيون وصية النبي
العلنية بإمامة عليّ، وقطعوا عليه – صراحة – رغبته في كتابة الكتاب الجامع الذي لا
يضل من تمسك به، خوفًا من أن يكون "حجة" عليهم، كما قال عمر.
السقيفة وبدء
الانحراف المؤسسي
ما حدث في السقيفة لا يمكن
اعتباره امتدادًا لدين الحق، بل هو انحراف سياسي مبكر وقع في لحظة فراغ حرجة، تم
فيه إقصاء النصّ، وفرض التوافق العشائري على حساب الوحي.
نجح الحزب القرشي في إقامة دولة
لحسابهم على حساب مفهوم الأمة الخيرة القرءانية، الداعية إلى الخير، التي تقدم
للبشرية القيم الحقانية الإسلامية.
لم تستند
قرارات الخلفاء الثلاثة إلى نصوص قطعية من كتاب الله، بل غلب عليها البراجماتية والاجتهاد
الشخصي الآني، وكانت الشورى التي طُبقت لاحقًا شورى مجتزأة لا تتعدى بعض القضايا
الثانوية مثل ميراث الجدة، أو الاستئذان، أو تقدير المهور، بينما تم تجاهل الشورى
الكبرى في الشؤون المصيرية والسيادية.
وفي عهد الخليفة الثالث تحديدًا،
وقع الانحراف الأكبر، إذ أُقصي البعد القيمي في السياسة، وبدأت مؤشرات المحسوبية
والتمييز الطبقي والظلم الجهوي في التصاعد، مما مهّد لثورة غاضبة أطاحت بالحكم،
وأتت بالإمام الحق، غير أن قوى قريش – وعلى رأسها بنو أمية
– تحالفت
ضده، واستعرت الحرب بين أهل الحق وأهل البغي.
دين بديل: من
الانقلاب إلى التنميط
منذ أن تغلّب أهل البغي
والمنافقون والمنقلبون على الأعقاب، تمت إعادة صياغة دين موازٍ انتحل اسم الإسلام،
لكنه لم يحتفظ منه إلا بقشور شعائرية ومصطلحات لغوية، أما روحه ومقاصده فقد غُيّبت،
اختفت الجوانب العقلانية والوجدانية، وأصبح الدين أشبه بمدونة قانونية لإدارة شؤون
الرعية وسيفًا مسلطًا على أعناق الآخرين.
لقد ظهر دين أعرابي–تلمودي،
إقصائي عدواني، مبني على هيمنة السلف، واستبداد الحكّام، وتجميد العقول، وهو ما لا
يمت بصلة لدين الحق الذي جاء لتحرير الإنسان وتهذيب السلطة ورفع الكرامة.
وقد سادت هذه النسخة المحرّفة من
الدين إلى يومنا هذا، مع تعديلات شكلية طفيفة رفضها أصحاب التيار
"الأثري"، الذين يمثلون اليوم ما يُعرف بالسلفية. ورغم ظهور مذاهب أخرى
مثل التشيّع، وإدخال تحسينات كلامية ووجدانية، إلا أن معظمها نُسج على ذات الهيكل
الموروث، وظل يتوارث نفس الأخطاء البنيوية في التصور والتشريع والسلطة.
استثناءات فردية:
شواهد من النور
ومع ذلك، لا يخلو التاريخ من
أفراد – في كل مذهب – سعوا بصدق إلى تحصيل العلم الحق، والتعبد وفق مقتضى العدالة
والهدى. هؤلاء لم يكونوا مقلدة ولا أبواقًا للمذهب، بل كانوا باحثين عن الحق،
متحررين من عبودية السلف، يُعملون عقولهم ونفوسهم في ميزان الوحي.
لقد أدرك هؤلاء أن دين الحق ليس
انتماءً مذهبيًا، بل هو رؤية توحيدية متكاملة، تؤسس لعالم يتعبد فيه الإنسان
بإقامة العدل، وباحترام حقوق الإنسان وكرامته، وبالتحرر من الأصنام المعنوية
والسلطوية، وكل ما يُغرق الإنسان في دونيته.
هل يمكن أن يفعل دين الحق مستقبلا ولو علي المدي البعيد؟
ردحذف