الاثنين، 30 يونيو 2025

بين "دين الحقّ" والتصوف

 بين "دين الحقّ" والتصوف

سؤال منهجي:
هل كانت تربية النبي ﷺ للمؤمنين تُشبه في جوهرها التربية التي يمارسها شيوخ الطرق الصوفية على مريديهم؟

جواب تحليلي:
كلا. هناك فارق جوهري بين المنهجين، ليس فقط في الوسائل، بل في الرؤية الوجودية، والمقاصد النهائية، والمكوّن البنيوي للتربية نفسها.

 

التصوف والإسلام: علاقة الحاجة بالبديل

ليس الإسلام في صورته الكاملة بحاجة إلى إضافات من خارج منظومته، فبنيته تحتوي على كل ما يلزم لتحقيق المقاصد الكبرى: تزويد الإنسان بأرقى وأصدق علم بربه، إعداد الإنسان الرباني الفائق ذي الصلة الوثيقة بربه، إعداد الأسرة الصالحة، إعداد الأمة الخيرة القائمة بمهام حمل الأمانة والخلافة في الأرض، تزويد الأمة بما يلزم من قيم وسنن للتعايش السلمي البناء المثمر مع الآخرين، تحرير الإنسان من عبوديته لغير الله.

ولكن الذي حلّ محل الإسلام الحق عبر التاريخ، خاصة منذ التحوّل الأموي، كان دينًا طقوسيًا شكليًا، أُفرغ من جوهره التربوي والوجداني، وأُعيد تشكيله ليخدم أغراض السلطة، وتدجين الشعوب، وتقديس الأسلاف، حتى ولو كانوا من المنافقين أو المنقلبين على الرسالة.

في هذا السياق، ظهرت الحاجة إلى سدّ الفراغ الوجداني والتربوي في هذا "الدين الأعرابي الأموي"، فالتفت الخاصة، من التوّاقين إلى الكمال والعارفين بمآزق الروح، إلى تجارب الزهاد والعُبّاد في الأمم الأخرى، خصوصًا تلك التي حملت تراثًا روحيًا غنيًا كالمسيحية والهندية والفارسية، فتم استعارة عناصر من هذا التراث، بعد تعديلها وتأطيرها لتتناسب – في الظاهر – مع ما تبقّى من الشريعة. وجُمعت هذه العناصر في ما عُرف لاحقًا بالتصوف.

هكذا، يمكن القول إن التصوف لم ينبع من صلب الإسلام الحق، بل ظهر كردّ فعل على خلوّ النسخة الرسمية من الدين من جوهره التربوي والروحي. فهو أقرب إلى أن يكون محرّكًا خارجيًا أُلصق بسيارة تعطّل محركها الأصلي، أو رادارًا خارجيًا أُضيف إلى طائرة فُقد رادارها المدمج.

 

طبيعة التصوف داخل النسق الأعرابي الأموي

رفض التيار السلفي – الذي كان حريصًا على نقاء البنية الأمويّة – التصوف جملة وتفصيلًا، لا لأنهم أدركوا حقيقته الناقصة، بل لأنهم تمسكوا بقشور الطقوس وخافوا من كل ما يهدد سرديتهم المؤسسة على النقلانية الجامدة وتعظيم السلف.

وفي المقابل، قبِل أكثر المتصوفة الدخول في المنظومة السنية الأموية، بل وزايدوا عليهم في تأليه السلف وسدنة الدين الأعرابي الأموي، فأصبح بعض الخلفاء ومؤسسي المذاهب أقطابا وأوتادا.

وهكذا نشأ تيار تصوفي متصالح مع التقديس المرضي للتاريخ والمقابر والطرائق.

أما العوام فوقعوا فريسة هذه الصيغة الشعبية من التصوف، فغرقوا في شرك القبور وانتقلوا للعيش في عالمٍ من الخيال والأوهام، وابتعدوا عن مقاصد الدين الحق، فصاروا أقرب إلى "أُمّة نائمة تدعو ولا تفكر، وتتضرّع ولا تُنتج".

 

التربية النبوية مقابل تربية الطرق الصوفية

في دين الحق، كانت التربية النبوية تهدف إلى بناء الإنسان الكامل: عاقلًا، حرًا، متزنًا، مسؤولًا عن ذاته وأمّته، جامعًا بين الروح والعقل والجسد، وبين الحق والعدل. وهذا النموذج تجسّد في قمّته في شخص الإمام علي بن أبي طالب، رمز العقلانية الإيمانية والبطولة الروحية والسياسية والعلوم النافعة والقيم النبيلة.

أما في الطرق الصوفية، خاصة بعد أن أصبحت مؤسسات دينية وسياسية، فكانت التربية في معظمها قائمة على التلقين، والخضوع المطلق للشيخ، وامتحان المريد بتجارب طقوسية، تجعل منه عبدًا للرمز، لا حرًّا باحثًا عن الحقيقة. وكانت نتيجة هذه التربية أمة ضعيفة، تغرق في الدعاء بدل المبادرة، وفي الخرافة بدل التخطيط.

وخير مثال ذلك ما حدث عندما وصل الجيش الفرنسي العلماني إلى القاهرة، واستعدوا لعبور النيل، وبدلا من أن يتركهم الجيش المملوكي يقومون بهذا العبور الخطر عبر هو إليهم لفرط جهله واستخفافه بهم.

أما في الضفة الشرقية فقد احتشد رجال الطرق الصوفية بكافة أعلامهم وبيارقهم ومعهم الأهالي يشقون عنان السماء بالدعاء بالنصر للمماليك، فكانت النتيجة هزيمة ساحقة سريعة للمماليك وتشتيت شملهم وتفريق جمعهم وفرارهم إلى الصعيد، وعلى رأسهم الحاكم وقائد الجيش مراد بك.

بينما انسحب إبراهيم بك شريك مراد بك في الحكم والوالي العثماني إلى الشام وجنودهم، ولم يشتركوا في القتال، ولم يقاوموا.

كانت جموع الشعب المتصوف تدعو، وتنتظر "الكرامة"، وكانت النتيجة: هزيمة سريعة، تشتت عسكري، وفرار القادة.

هكذا كان الحال في ذروة سطوة التصوف في تلك المرحلة: شعب مريض، ضال جاهل مشرك، يدعو للخليفة العثماني الذي كان يستنزفه، بدل أن يسعى إلى خلاصه.

 

التصوف ومقاصده مقابل مقاصد دين الحق

دين الحق يحمل مقاصده الواضحة: ومنها تحرير الإنسان، إقامة العدل، تحقيق المعرفة التوحيدية، بناء أمة شاهدة على الناس. أما التصوف – وإن سعى إلى مقاصد روحانية – فإنه فقد بوصلته حين انعزل عن العقل، وتخلّى عن الواقع، ورضي بالعزلة بدل المسؤولية.

ومع ذلك، فإن التصوف الراقي، في لحظاته النادرة، حين اقترن بالعقل والتجديد والصدق، قدّم بعضًا من أفضل النماذج في التاريخ الإسلامي: من أمثال ذي النون المصري والجنيد البغدادي وأحمد الرفاعي ونجم الدين الكبرى والنفري وأبي الحسن الشاذلي وابن عطاء الله السكندري، والفاروقي السرهندي وغيرهم، وهؤلاء لم يكونوا تابعين للمنظومة الرسمية، بل غرباء عنها، كما هو حال "دين الحق" نفسه.

 

خلاصة

  1. الإسلام الكامل ليس بحاجة إلى التصوف، لأنه يتضمن الجوهر الذي افتقدته النسخة الرسمية من الدين.
  2. التصوف جاء كردّ فعل على فقر تلك النسخة، فأُضيف إليها كجهاز خارجي يعوّض غياب الجوهر وضعف المحرّك الداخلي.
  3. التربية النبوية تحقق مقاصد الدين العظمى، ومنها إنساء أمة حية فعالة إيجابية، بينما تربية الطرق الصوفية قد تنتج رجالا متفوقين على المستوى الوجداني، وذلك على المستوى الفردي الخاصّ، بينما تكرّس العجز والخضوع. والشرك وعبادة المشايخ والمقابر على المستوى العام.
  4. رغم ذلك، فإن التصوف الراقي – حين يخلو من الخزعبلات – يظل أفضل ما هو متاح للمسلمين الذين حُرموا من دين الحق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق