الأربعاء، 25 يونيو 2025

الترف

 *الترف

الترف حالة نفسية وسلوكية يُصبح فيها الإنسان متعلقًا بالأشياء ذاتها، لا بوظيفتها كوسائل لتحقيق مقاصد الدين. فيفقد وعيه بالمقاصد العليا، ويغدو التنعم بلذائذ الدنيا وشهواتها غاية قصده ومنتهى علمه، منشغلًا بالنعمة عن المنعِم، وبالنعيم الفاني عن النعيم الباقي، حتى تصير تلك اللذائذ وهمًا في تصوراته وحياته.

الترف لونٌ من الشرك، فالمترف يجعل للأشياء مكانة في قلبه لا يستحقها إلا ربه، ويؤثر الفاني على الباقي، فهو أشقى الخاسرين.

والمترف هو الذي أطغته النعمة حتى تجاوز حد الاعتدال، فاستعلى بسببها على الخلق، وتكبر عليهم، واتبع هواه فيما أُترف فيه، فانقاد بعيدًا عن ربه، مُجرمًا في حق نفسه وفي حق خالقه. فالترف يؤدي إلى قلب نظام الأشياء، حيث يحاول المترف إخضاع الأعلى للأدنى، ويكفر بالسنن والآيات التي تُعلن أن الأشياء مسخرة للإنسان، وأنه مكرم ومسؤول.

ويتضمن الترف عدوانًا على حقوق الإنسان، وولعًا بالاستئثار بما يزيد عن الحاجة، مع إهمال الوظيفة الاجتماعية للاستخلاف في المال، مما يؤدي إلى شيوع الفسق، وإضعاف بنية الأمة ومتانتها الحضارية.

ولقد بيّن القرءان أن انتشار الترف، وتكاثر المترفين، من الأسباب الكبرى لهلاك الأمم وزوال الحضارات. وقد جاءت الآيات القرآنية شاهدة على ذلك، منها قوله تعالى:

{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود: 116]،
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]،
{لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 13]،
{وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} [المؤمنون: 33]،
{حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} [المؤمنون: 64]،
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ: 34]،
{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]،
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة: 45].

وهكذا، فإن الترف حين يتمكن من النفوس، ويغمر المجتمعات، يضعف قيمها العليا، ويهوي بها إلى الفسق والفساد، فيحل بها العذاب، وتسقط في مهاوي الهلاك.

الترف ليس ظاهرة اقتصادية أو اجتماعية فحسب، بل هو ظاهرة نفسية وحضارية ذات آثار عميقة في مصير الأفراد والأمم، وإن التصدي لآثار الترف يتطلب ترسيخ معاني الاستخلاف، والاعتدال، والشكر في الضمير الجمعي، بحيث تبقى النعم خاضعة لمقاصد الدين وغايات الاستخلاف، لا موجهة نحو التعلق بالدنيا وانغماس الذات فيها. ومن ثم، فإن محاربة الترف تمثل ضرورة حضارية لبناء مجتمع راشد قوي متماسك، يستمد بقاءه من ارتباطه بالله ومن تحكيمه لمنظومة القيم العليا.

الترف ليس مجرد إسراف في المتاع، بل هو انحراف في التصور والسلوك، يقطع الإنسان عن ربه، ويجعله عبدًا للنعيم الفاني، لا لنعيم الحق الباقي، فليحذر المؤمن أن تغلبه نعمة دنيوية على شكرها، أو أن تفتنه زخارف الأرض عن غاية وجوده، وليجعل من المال نعمةً طيبةً بين يديه، لا لعنةً تجثم على قلبه، فالنجاة كل النجاة في الاعتدال، والشكر، والقيام بوظيفة الاستخلاف أداءً للحق، ووفاءً بالعهد مع الله تعالى.

أخرج حب الدنيا والترف من قلبك، وعظِّم فيه ربَّك، فهو خيرٌ وأبقى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق