الأربعاء، 25 يونيو 2014

حقيقة الخلافـة (ج1)

حقيقة الخلافـة

 

إن الخلافة فى الأرض هى المهمة المنوطةُ بالإنسان من حيث أنه إنسان، فهو لا يملك مع ربه شيئا وإنما هو مستخلف فيما جعله ربُّه مستخلفاً فيه، والإنسان خليفةٌ لأنه هو الذى حمل الأمانة، ومن لوازمها الإرادةُ الحرة والاختيار، كما أن لديه الملكات التى اقتضتها المنظومة الكلية للأسماء الحسنى.
فالإنسان مستخلف فى الأرض بمعنى أنه الظاهر فيها بمقتضيات وآثار الأسماء الحسنى، ولذلك فقد سُخِّر له كلُّ ما فيها وأوكل إليه حقُّ الانتفاع بها والقيامِ بشؤونها والتصرفِ فى مقدراتها، والمقصد الدينى الأعظم على المستوى الفردي هو إعدادُ الإنسانِ المؤهلِ لهذا الاستخلاف العارفِ بحقوقه وواجباته القادرِ على أدائها على أفضل وجهٍ ممكن، فمن الاستخلافِ فى الأرض أن يظهرَ الإنسان فيها بالتحكم والسيطرة والتصرفِ واستغلال الموارد واستعمارِ الأرض والسيادة على الكائنات الأرضية.
إن الخلافةَ في الأرض لا تكون إلا بالجعل الإلهي، فهي مهمةٌ كونية يقوم بها الإنسان بأمرٍ إلهي وبمقتضى سننٍ إلهية، فالإنسان هو الخليفةُ في الأرض، بمعنى أن له التقدمَ والعلوَّ على كل ما فيها من الكائنات الأرضية، وذلك كخليفةٍ من بعد من كان قبله من الكائنات في هذه المهام، وكل قرنٍ من الناس هو يخلف من كان قبله من القرون، ولقد استخلف الله تعالى آدمَ في الأرض وحمَّله الأمانة من بعد من كانوا قبله ممن كانوا يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض.
والخليفةُ هو أيضاً الظاهرُ بملكٍ ما أو بولايةِ أمرٍ ما، وليس له ذلك بالأصالة وإنما بالجعل، والإنسان خليفةٌ في الأرض من حيث أن له الظهورَ بالتحكم في كل ما فيها، ولقد أعلن الله سبحانه ذلك في الملأ الأعلى، واستخلاف الإنسان في الأرض هو السبيل الذي اختاره الإله الأعظمُ ليتم به الظهورُ التفصيلي للكمال المطلق، ولذلك جَعل الإنسان مؤهلا ليعلم كل الأسماء بأن جعل في حقيقته أو ماهيته ما يوافق كلاً منها وما هو من مقتضياتها، إذ لا سبيل إلى معرفة اسم ما إلا بالملكة التي اقتضاها، وبذلك أيضا كُرِّم الإنسان وفُضِّل على كثير من الخلق تفضيلا، فالإنسان الخليفة هو الظاهر لسائر الكائنات بمقتضيات وآثار الأسماء الحسنى.
والخلافة ليست رخصةً للإنسان ليختلس لنفسه سماتِ ربه، ولا ليعلو في الأرض، ولا ليطأ الناس أو يفترسهم ولكنها أمانةٌ ومسؤولية، ولذلك تضمنت آيات الاستخلاف تهديدا ووعيدا، قال تعالي: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(165)} (الأنعام)، {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُه}ُ (فاطر: 39)}.
ولما أعلن الله سبحانَه لداود عليه السلام وهو من عبادِه الأخيار أنه جعله خليفة في الأرض أمره أن يحكم بين الناس بالحق وألا يتبع الهوى وحذره من الضلال عن سبيله، ولم يقل له تصرفْ في الناس كيف تشاء أو احكم عليهم بما تشاء أو ضع قدمك فوق أعناقهم، كذلك لم يجعلْه فوق القوانين والسنن، وإنما حذَّره وأنذره بعد أن ابتلاه وفتنه، قال تعالي:
{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ(26)} (ص).
وكذلك عندما استخلف موسي عليه السلام هارونَ في قومه وكان رسولاً نبياً مثله قال له:
{اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ(142)} (الأعراف).
ولم يغضب هارون، ولم يقل له: "كيف تقول لي هذا الكلام وأنا نبيٌّ مثلك؟"
والخلافة هي أيضاً العملُ بمقتضى السننِ والأوامرِ الشرعية الدينية عند القيام بأي أمر من الأمور، وهي حق لكل مؤمن مؤهَّلٍ التأهيلَ الكافي، والخلافة في أمور الأمة الكبرى لابد لقيامها من توفر الحد الأدنى من التزام ذوي الحيثية والنفوذ والقوة بالدين وإيمانهم به، وهذا يقتضي الرجوع إليهم أو إلى طائفة منهم عند اختيار القائم بالأمر.
قال تعالى:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة30، {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ }ص26، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }الأنعام165، {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ }يونس14، {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ }يونس73، {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً }فاطر39.
-------
والخلافة الراشدة هي التي تكون وفق الأوامر الإلهية وما سنَّه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ كولي أمرٍ لقومه، أما الملك العضوض فهو في اتباع سنن المتسلطين على أمور الناس دون مشاركةٍ فعلية من هؤلاء الناس في تقرير أيِّ أمرِ من أمورهم بل إنهم يعاملون كتراث تتوارثه أسرة واحدة، فهو حكم الغلبة والتسلط والقهر، ولقد كان من أكبر الخدع والمخازي التاريخية المثيرةِ للازدراءِ والاشمئزاز اعتبارُ النظمِ الأموية والعباسية والعثمانية خلافات إسلامية، وهذا من أكبر الأسباب التي صدَّت الناس قديما عن سبيل الله، ومازالت أفعال هذه الخلافات أمضى سلاح يوجهه أعداء الإسلام إلى الإسلام والمسلمين.
والإسلام يلزم المسلمين بتكوين أمةٍ تحكمُ نفسها بنفسها وتكون السيادة فيها لكلمة الله تعالى؛ أي تكون كلمة الله فيها هي العليا، وهذا يعني أن يكون كتاب الله تعالى هو مصدر الشرعية والسلطات بالنسبة لهذه الأمة، وكل فرد في هذه الأمة آمر وحاكم في مجال تخصصه وتأهيله وما يعطيه له وضعه الاجتماعي، وهو مأمور ومحكوم في غير ذلك، هذه الأمة تكون ملزمة بالقيام الأركان الملزمة للأمة في دين الحق ومأمورة بالعمل على تحقيق مقاصد الدين العظمى، وهي بذلك ملزمة بالتعايش السلمي مع الأمم الأخرى وباحترام حقوق وكرامة الإنسان.
والأمة ليست هي الدولة، والدولةُ وشكلُها من الأمور المتروكة لظروف العصر والمصر، والإسلام باعتباره الدينَ العالميَ الشامل الصالح لكل العصور والأمصار لم يكن ليلزم الناس بشكل معين لنظام إدارة شئونهم ولا يجمد ما هو بطبعه سيال متطور.
ولا يوجدُ ما يلزم المسلمين بالاندماج السياسي في كيان واحد، وكل من حاول ذلك بالطرق الحربية فقد خاض خوضاً في دماء المسلمين وقتل منهم عمداً ما لا يُحصى عدده، ومن حاول ذلك لم يكن يبغي أبداً إلا توسيع سلطانه وملكه ليورث ما يستولي عليه لأبنائه من بعده.
فالخلافة ليست شكلا من أشكال الدولةِ بالمعنى الحديث، ولم يكن نظام الخلافة منذ أن تسلط أهل البغي على الحكم إلا نظاما إمبراطورياً وراثيا كنظام الإمبراطورية البيزنطية أو الإمبراطورية الفارسية مثلا، بيد أن نظام الخلافة كان يتفوق على سائر النظم في العتوّ والاستبداد والإجرام والإفساد في الأرض وازدراء حقوق الإنسان.
أما خليفة الرسول في مهامه فهو من يقوم بالمهام التي كانت منوطة به مثل الدعوة إلى الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الناس آيات الكتاب وتزكيتهم والتبشير والإنذار والحكم بين الناس بالقسط .... الخ، وهذه المرتبة متاحة لكل من يسعى للقيام بها إذا كان حقاً أهلا لها.
-------
إن تعريف الخلافة بأنها موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا هو محض اجتهاد ممن وضعه، وهو مناقض للتعريف القرءاني للخلافة ولتعريف النبوة ويتضمن إحداثاً في الدين، كما أن الخلافة غير الإمامة، ولا يجوز الخلط بينها وبين الإمامة.
فالخلافة بالمعنى المذكور هي مصطلح محدث توصل إليه القرن الأول باجتهاد منهم ولقبوا به من يقوم بأمورهم وأمور دولتهم الوليدة، وهي ليست بالطبع مصطلحاً دينيا، وكان المقصود به خليفة الرسول من حيث أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ كان ولي أمر الأمة الوليدة، وبالطبع فإن مهام الرسول الأصلية كانت تفصيلا لكونه رسولاً نبيا، فلا يمكن أن يكون له خليفة في كافة مهامه، ولم يكن من الجائز تحويلُ مصطلح الخلافة إلى أمر مطلق أو إضافته إلى الله، ولقد كان الشاعرُ النصراني الأخطل هو أول من لقب متسلطاً أمويا بخليفة الله عندما وصف أحدهم في بيت شعر نصفه يقول: "خليفة الله يُستسقى به المطر"!!! ، ولقد عدل عمر بن الخطاب من قبل عن هذا اللقب وفضَّل أن يلقب بأمير المؤمنين.
-------
إن عصور الخلافة المحسوبة ظلما على الإسلام أي العصور الأموية والعباسية والعثمانية كانت بصفة عامة عصور ظلم وجور وبغي وعدوان وسفالة وانحطاط عام وجواري وغلمان وشذوذ وخمر وجهل ونفاق وجشع وانتهاك لكافة حقوق الإنسان وكرامته وقتل للإنسان بأبشع الطرق، إن الإسلام بريء من هؤلاء الطغاة الظلمة المجرمين الذين كانوا عار هذا الجنس البشري.
-------
إنه لا يجوز اعتبارُ ما كان يسميه المسلمون بالخلافة نظاماً إسلاميا، فقد كان نظاماً إمبراطوريا طغيانيا استبداديا وراثياً دمويا لا علاقة له بدين الحق من قريب أو بعيد، ولا يجوز لأحد الآن الخوض في دماء المسلمين بحجة أنه هو أو حزبه قد نيط بهم من دون الناس إحياء هذه الخلافة.
والمؤمنُ الحقيقي لا يسعى أبدا إلى التسلط على الناس ولا إلى تولي أي أمر من أمورهم، ولكن إيمانه وصلاحه وتقواه وتأهيله وقوته كل ذلك هو الذي يزكيه ويجعل ولاية الأمر هي التي تسعى إليه، فولاية الأمر هي أمانة ومسئولية جسيمة وليست وسيلة للتربح ولا لتمكين المحاسيب والأقارب والعشيرة من مفاصل الدولة، وليست بوسيلة للعلو في الأرض والإفساد فيها وخيانة الأمانة والتحالف مع أعداء الأمة والتعهد بحماية مصالحهم والرضوخ لمطالبهم.
-------
عندما تولى أبو بكر الأمر بعد السقيفة احتاروا في اللقب الذي ينادونه به ثم اختاروا له لقب خليفة رسول الله، فلما تولى عمر بقرار منفرد من أبي بكر (قرار لم يشرك فيه أحدا) أرادوا أن يسموه خليفة خليفة رسول الله فقال هذا أمر يطول وعدلوا عنه إلى لقب أمير المؤمنين، فلم يكن مصطلح الخليفة بمعنى حاكم سياسي معلوما للقرن (الجيل) الإسلامي الأول!!!!! وبذلك فكل المرويات التي تعتبر الخلافة مرتبة سياسية دينية لا أصل لها، وتم وضعها لاعتبارات سياسية مذهبية، وهي في كل الأحوال تاريخ وليس دين!
أما عبيد (الصحابة) فبدلا من أن يسموا الأشياء بأسمائها ويقولون إن هذا القرار الاستبدادي مخالف للشريعة فقد جعلوه من الشريعة بحجة أن أفعال (الصحابة) من الدين؛ أي بتعبير أكثر صراحة اعتبروهم أربابا مشرعين!!
هذا رغم الإقرار بأن اختياره كان الأفضل في الظروف التي وضع هو الناس فيها، وغفر الله للجميع!!
والنجاح في القيام بمقتضيات الخلافة لا يبرر مخالفة الأوامر القرءانية الملزمة، فأمور المؤمنين يجب أن تكون شورى بينهم، وليس لأحد أن يفرض على الناس من يلي الأمور من بعده ولا أن يورث الأمة لقريب أو بعيد، فالمؤمنون هم أمة من الأحرار.
*******
مقتضيات الاستخلاف
إن الله تعالى هو الذي له الكمالُ المطلقُ الذي من لوازمه الأسماء الحسنى، والإنسان قد جُعل خليفةً في الأرض بسبب قابليته لتعلم الأسماء وقبول آثارها والإظهار التفصيلي لكمالاتها، لذلك فهو مستخلف في الصفات التي تشير إليها الأسماء الحسنى، وعليه أن يظهر بآثارها بالنسبة لغيره من البشر ولما هو دونه من كائنات الأرض، فهو بذلك مأمور بالاتصاف ما أمكن بصفات الكمال الممكن، وأصل تلك الصفات هو الأسماء الحسنى، فعلى سبيل المثال عليه أن يظهر بالحكمةِ والعلم والرحمة واللطف والود لتلك الكائنات، ومن لوازم الاستخلاف أن يتعرف الإنسان على ما جُعِل مستخلفا فيه وأن يعظم ما استخلفه ربُّه فيه، فذلك إجلال لمن استخلفه وشكر لعظيم نعمته، ولا يليق بمن تلقى إحسانا كبيرا أن يعرض عما تلقاه أو أن يزدريه أو ألا يأبه به فإن ذلك من إساءة الأدب مع الرب الجليل الذي سخر كل شيء للإنسان وأسجد له ملائكته وطرد من أبى السجود له، فالإنسان مطالب بأن يعلم ما هو مستخلف فيه وبأن يقوم بواجبات الاستخلاف ومقتضياته وإلا فإنه يخلع نفسه بنفسه ويتحول إلى دابة من الدواب التي كان عليه أن يقوم بحقوقها.
والاستخلاف في الأرض يقتضي أن يحترم الإنسان كل صور الحياة وكل ما خلقه الله تعالى وأن يتعرف عليه وأن يطالع آيات الله تعالي فيه، ويترتب على ذلك ضرورة الإحجام عن الإفساد في الأرض، قال تعالي: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ(56)} (الأعراف)، {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(85)} (الأعراف)، {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ(205)} (البقرة)، والكف عن الإفساد في الأرض يقتضي الكف عن الإسراف في الصيد أو إبادة دواب الأرض بدون مبرر أو حق، كما أن عليه ألا يضيِّق على تلك الدواب أسباب عيشها وموارد رزقها بتجفيف الأنهار وإبادة الغابات، وعليه أيضا ألا يقدم على ما من شأنه الإخلال بالتوازن البيئي، وكذلك عليه أن يرحم دواب الأرض التي يستأنسها وأن يوصل إليها رزقها برفق، كما أن عليه الحفاظ على البيئة وعلى نباتات الأرض، فالعدوان منهيٌّ عنه نهياً باتاً، والإفساد في الأرض بتلويث البيئة والقضاء على موارد الأرض هو عدوان بشع على حقوق الأجيال القادمة من البشر فضلا عن حقوق سائر الكائنات الأرضية، والله سبحانه الذي خلق كل شيء وأتقن صنعه لا يحب من يفسدُ ما خلق.
*******
الرفق بدواب الأرض
إن الرفق بدواب الأرض هو من لوازم تحقيق المقصد الديني الأعظم الخاص بالإنسان فهو من مقتضيات قيام الإنسان بحقوق الخلافة، فعلى الخليفة حقوقٌ تجاه كل ما هو مستخلف فيه، ولقد استخلف الله سبحانه الإنسان في الأرض، وذلك يرتب علي الإنسان حقوقاً تجاه كل ما خلقه الله فيها من كائنات حية وجمادات، فهو مطالب بأن يعامل دواب الأرض بالرحمة فيحسنُ إليها، ولا يضيق عليها أسباب عيشها، وكذلك هو مطالب بمعرفة الحكمة من وجودها ومطالعة آيات الله فيها، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ(38)} (الأنعام).
ولذلك وجب على أمة الإسلام من حيث أنها خير الأمم أن تكون كذلك في التعامل مع دواب الأرض وطيور السماء، لقد صرحت الآية بوضوح أن كل الدواب والطيور هي أمم أمثالنا فتأمل قوله تعالى: {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} فإنه يستحث الإنسان على أن يعاملها بما يرتضيه لمن هو مثله، وفي هذا القول أيضا بيان بأن دواب الأرض تشبه الإنسان، وبالتالي يمكن للإنسان بدراستها أن يزداد معرفة بنفسه وبجسمه، وفيه أيضاً بيان بأن لكل أمة من الدواب خصائصها المميزة وعلومها الفطرية والتي يمكن للإنسان أن يفيد منها لو عرفها ودرسها، ولو تنبه السلف إلي ذلك لتحقق لهم الوعد الإلهي: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(53) (فصِّلت)}، ولتحققت الطفرة العلمية الهائلة علي أيديهم لا علي أيدي علماء الغرب، وهناك تهديد مبطن في قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}، أي أن لهذه الأمم من الدواب والطيور ربا يرجعون إليه فهو قائم بمصالحهم يمدهم بما يحفظ عليهم أسباب وجودهم، وهو لا يرضى لهم أن يعاملوا بقسوة كما لا يرضى لهم الظلم، هذا الرب هو رب كل شيء وخالق كل شيء وهو الرحمن الرحيم.
ولقد رويت أحاديث عديدة تأمر بالرفق بالحيوان وتبشر من يحسن معاملته بالغفران والنعيم المقيم وتنذر من يسئ معاملته بالعذاب الأليم، كما أن الإنسان برفقه بالحيوان إنما يعمل لما فيه صلاح أمره فإن القضاء على بعض الدواب استجابة للمعايير والموازين والمقاييس البشرية القاصرة هو من باب الإفساد في الأرض، وسيكون الإنسان أول من سيدفع ثمن ذلك غاليا، ويجب العلم بأن الرفق بالحيوان وحسن معاملته هو من مقتضيات أسماء إلهية عديدة مثل الرحمن والرحيم والرحمن الرحيم والرحيم الودود والرءوف الرحيم واللطيف، ولذا فبالرفق بدواب الأرض يرقي الإنسان وتسمو ملكاته الوجدانية، فالمسلم مأمور بالرحمة بالدواب والرفق بهم من حيث :
1-          أنه خليفة في الأرض فهو متخلق بأخلاق من استخلفه من رحمة ورأفة ورفق.
2-          أن دواب الأرض وطيور السماء هم أمم أمثالنا فلها علينا حقوق الأمم فيجب كف البأس عنها وعدم العدوان عليها كما يجب رعايتها والرأفة بها.
3-          أن إبادة الدواب وسفك دمائهم بلا مبرر هو من الإفساد في الأرض المحرم تحريما قاطعا.
4-          أن الحفاظ على دواب الأرض هو من الإصلاح في الأرض وإعمارها.
5-          أن كل فعل يصدر عن الإنسان من حيث التزامه بما سبق سيعود نفعه عليه في الدنيا وسيؤدى إلي رقي باطنه بما يرفع درجته في الآخرة.
6-           أن كل دابة في الأرض هي آية من آيات الله تعالى يجب النظر إليها ومعرفتها ودراستها.
7-          أن الله تعالى لم يخلق شيئا عبثا وإنما بالحق.
ويجب العلم بأن الله سبحانه ما خلق شيئا إلا بالحق، ولقد سميت سور عديدة في الكتاب بأسماء دواب الأرض مثل البقرة والأنعام والنحل والنمل والعنكبوت والفيل، وأخبر سبحانه بأنها تسبح بحمده وأنه يوحى إليها، كذلك أمر بالنظر إلى الإبل وأقسم بالعاديات ضبحا، وكل ذلك تنويه بشأن ما خلق الله تعالي من الكائنات، ولذا فالقيام بحقوق دواب الأرض هو من التعبد لمن خلقها واعتني بأمرها.
إن الخليفة يجب أن يتحلى بكل مقتضيات الأسماء الحسنى وأن يتطهر من كل ما يناقضها، لذلك وجب عليه الرحمة والرأفة والرفق بكل دواب الأرض.
*******
مقتضيات الاستخلاف تجاه ما في السماوات والأرض والجماد
إن ما يسميه الإنسان جمادا في السمـوات والأرض إنما هو مسبح بحمد ربه ساجد له، وهو من آيات الله تعالى التي أمر بمعرفتها والنظر إليها وتدبرها والتفكر في خلقها، ولقد سميت بعض سور الكتاب بأسماء تلك الجمادات مثل الطور والحديد والشمس والقمر، وكذلك سميت سور عديدة في الكتاب بأسماء الظواهر الطبيعية في السمـوات والأرض مثل: الرعد والذاريات والنجم والتكوير والبروج والفجر والليل والضحى والعصر، كما أقسم سبحانه ببعض هذه الظواهر التي هي من آياته التي أمر الناس أن ينظروا إليها وأن يتفقهوا فيها وأن يروا فيها مقتضيات أسمائه الحسني وصفاته.
فللجماد على الإنسان حقوق باعتباره من آيات الله تعالى التي أبدعها وجعلها دالة على أسمائه وباعتبار أن الإنسان مستخلف في الأرض مأمور باستعمارها وإصلاحها ممنوع من الإفساد فيها، إن الإفساد في الأرض يؤدي إلى اختلال الميزان الذي وضعه الرحمن فمن سعي إلي الإفساد ارتضي أن يكون كالشيطان، والانتهاء عن الإفساد في الأرض هو من مقتضيات مقاصد الدين العظمى فالإنسان مستخلف في الأرض وكل ما هو فيها مسخر له، ولذا فمن السفه أن يفسد فيها وأن يقضي بنفسه على مقومات وجوده وأسباب رزقه ومجال خلافته وأسباب بقاء ذريته، والإفساد في الأرض يعنى ارتكاب أي شيء من شأنه الإخلال بالتوازن البيئي كإبادة أمم من الدواب أو الحشرات أو تجفيف الأنهار أو تلويث البيئة أو إبادة الغابات...الخ.
أما حق ما في السمـوات من أجرام لا يملك الإنسان لها ضرا أو نفعا وكذلك ما يحدث فيها من ظواهر فهو أن يعرفها وأن يفقه القوانين التي تسيرها حتى يستمد من ذلك مزيدا من العلم بآيات ربه، إن ما في السمـوات وما في الأرض هي الأسباب التي ترتب عليها الوجود الإنساني ولذا فلها على الإنسان حق الأسباب على النتائج؛ فعليه ألا يفسد فيها وعليه أن ينظر ما في السمـوات وما في الأرض من آيات ربه.


*******

هناك تعليق واحد: