الاثنين، 15 ديسمبر 2014

سورة الضحى

سورة الضحى

وَالضُّحَى{1} وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى{2} مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى{3}

أقسم الله تعالى بآيتين من آياته الكونية وهما الضحى حيث يبلغ سطوع الشمس مداه وكذلك الليل حين يزحف ويسجو، وهو بذلك يريد إيقاظ الناس من غفوتهم وغفلتهم لينظروا بتمعن فيما ألفوه من مظاهر وليدركوا ما يحكمها من قوانين وسنن فيدركوا بذلك أن تلك الظواهر الطبيعية هي آيات إلهية نصبها لهم ليطالعوا فيها تفاصيل كمالاته وليدركوا أنها مظاهر بديع أسمائه وسماته، ولكنهم رفضوا وأعرضوا عن آياته بحجة أن الطبيعة أوجدت نفسها بنفسها أو أنها وُجدت بمحض الصدفة، أو بحجة أنها تشغلهم عنه، وهذه الاتجاهات المتباعدة تستبطن الظن بأن رب العالمين هو مجرد شخص، لذلك يرى الكفار أن عليهم نفيه ويجد الغلاة أن عليهم إثباته وفق ما لديهم من تصور عنه، ولو فقهوا لعلموا أن سمات كماله إنما تظهر بتلك الآيات المحسوسة لا في الصور الآتية من عالم الخيال.
والله تعالى يقسم لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أنه ما ودعه وما قلاه، ذلك لأن المتعبد الجاد المحب لربه مهما علا قدره وعظم شأنه تنتابه أحيانا الخشية من أمرٍ كهذا، وما أقسم عليه الله سبحانه هو أمر متحقق لكل إنسان بصفة عامة ذلك لأن الله تعالى حاضر معه بذاته وأسمائه وسماته، فهو لم يخلقه عبثا ولن يتركه سدي، بل هو معتنٍ به ويعمل على صلاح أمره مهما هان شأنه وصغر قدره في نظر الناس أو في نظر نفسه، وقد تنسى الأم طفل رحمها ولكنه هو سبحانه لا ينسى عبده، وهو يمده في كل حين بما يحفظ عليه بقاءه وأسباب وجوده، ولكنه لن يجود على إنسان بالرحمة الخاصة التي يترتب عليها سعادته الأخروية إلا إذا طلبها الإنسان بنفسه وسعى إليها بعمله، وذلك ما اقتضته قوانين الله وسننه.
أما إذا طال إعراض الإنسان عن آيات ربه حتى نسى أو تجاهل أمره ونهيه فيحق عليه القول ويعامله الرب سبحانه بما ارتضاه لنفسه، فيلقى بذلك عواقب إعراضه ونسيانه وغيه.
=======
{ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى{5} أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى{6} وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى{7} وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى{8} فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ{9} وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ{10} وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ{11}}الضحى
ثم يبشر الله تعالى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بأن الآخرة خير له من الأولى، وتلك البشرى هي له ولكل من هو من حزبه ممن تأسى به واتبعه، فهم في رقيٍّ دائم، فكل حاضر هو أفضل له من الماضي، وكل آت هو أفضل مما هو متحقق فهو في معراج دائم إلى ربه وذلك هو عين الكمال، ذلك لأن الواقف لابد من أن يُسبَق، فكل الكون ساع إلى ربه دائر في فلكه ومنجذب إليه بحبه.
ثم يبشره ربه بأنه سيعطيه فيرضى وتلك بشرى أخرى، وذلك العطاء هو عطاء خاص يفوز به هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ وكل من كان من حزبه، والرضا يترتب على الإشباع التام لكافة كيانات الإنسان، والإنسان الساعي إلى ربه يكتسب باستمرار استعدادات جديدة يترتب عليها مزيد من العطاء الإلهي، وكل عطاء هو روح من أمر الله تعالى تتسع به الذات الإنسانية وتزداد قربا من ربها باكتسابها المزيد من الكمالات، وما يكتسبه الإنسان من الكمالات يقتضى منه سلوكا خاصا في حياته العملية ومن ذلك ألا يقهر اليتيم وألا ينهر السائل وأن يحدث بنعمة ربه.
والتحديث بنعمة الرب يتضمن أولا أن يدرك الإنسان ويقر بأن كل ما لديه من الكمالات وما هو فيه من النعماء إنما هو من لدن ربه فهو أصل كل كمال، وليس لدى الإنسان من حيث هو إلا نقصه الذاتي، فلولا ربه لكان يتيماً ضالا عائلاً معدما، وكما أنه يتيم أمام ربه سائل إياه بلسان الحال والمقال والاستعداد فيجب أن يعامل الناس كما يحب أن يعامَل هو به، وبممارسة الإنسان لتلك الفضائل يزداد تحققه بها ورسوخها في نفسه فيكتسب مزيدا من الكمالات التي تقربه زلفى إلى ربه.
والتحديث بالنعمة ليس المقصود منه أن يتباهى الإنسان بما لديه من النعم أو أن يتعالى بها على الناس، ولكن عليه أن يحدث بالنعمة من حيث أنها من ربه وليس لأنه أوتيها بسبب خصائص فريدة لديه أو كمال ذاتي عنده، كذلك فالنعمة التي يجب التحديث بها هي جماع النعم الإلهية وليس فقط ما لديه منها، فيجب على الإنسان أن يحدث الناس عن كل نعم ربه، فالعالم البيولوجي عندما يحدثهم عن التركيب العضوي لجسم الإنسان مع بيان ما فيه من إتقان وكمال إنما يحدث الناس عن نعمة ربه، ومن يحدثهم عن ملائمة تقدير وتصميم ما في الأرض لهم ولبقاء نوعهم إنما يحدثهم عن نعمة ربه.
فكل إنسان مأمور بأن يحدث الناس عن نعم ربه وأن يذكرهم بها، والآية تعني أيضاً أنه على الإنسان أن يتذكر عندما يحدث أن تحدثه نفسه إنما هو بنعمة من ربه.
والتحديث ذاته هو نعمة من رب العالمين، وكل كلمة تخرج من الإنسان هي كيان لا يفنى، وهي تحدث تأثيرات بقدر القوة التي تخلقت بواسطتها وخرجت بها.
فكل إنسان مهما علت مرتبته هو مسبوق بالعدم وهو لا شيء من دون ربه، فهو لذلك بالنسبة إلي ربه سبحانه يتيم ضال عائل، فمن افتقد ربه أو افتقد هداه أو افتقد إمداده المادي والمعنوي فقد أصبح هو والعدم سواء، والعدم أو الخواء هو شر الجحيم والعذاب الأليم، ومن أدرك هذه الحقيقة وتحقق بها فقد تحقق بالعبودية وارتقى في مدارجها.
ونِعم الرب تتنوع أنواعها فمنها الأمور المعنوية ومنها الأمور المادية، ومنها كيانات من عالم الأمر وكائنات من عالم الخلق، فكل ما لدى الإنسان من نعمة هو من الله تعالى.
وسر التفوق الحقيقي المطلق للرسول الأعظم على سائر المخلوقات هو كونه العبد المحض لله تعالى، لذلك لم يكن يميل أبداً إلى التباهي بمكانته أو استعمال مواهبه الخاصة وقدراته، وكان يعيش بين الناس كأحدهم، ولقد أخطأ بعض الضالين من المجتهدين الجدد عندما زعموا أن الضلال المذكور هو ضلال كضلال قومه فضلُّوا وأضلوا وضلوا عن سواء السبيل، وهؤلاء قد جهلوا قدر الرسول وأنكروا فضائله ويُخشى عليهم أن يُحرَموا شفاعته، وعندها لن يُفلحوا أبدا!
=======
إن مطلع سورة الضحى يزكِّي في النفس الإحساس بالجمال، ذلك لأن المقابلة بين نور الضحى وضيائه الساطع وما يسببه من الحركة والنشاط وبين زحف الليل بظلامه وما يسببه من سكون تخرج الإنسان من ألفته بالأشياء وتدفعه إلى التفاعل الحي مع الطبيعة وإلى تذوقه ما فيها من آيات ومطالعة ما تجلى فيها من جلال وجمال.
وتوضح السورة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ كان منعَّماً بالتجليات الإلهية في عزلته عن العالم وأنه بلغ الدرجة الرفيعة التي فاق بها من سبقه من الأنبياء والمرسلين، ولكن إرساله للناس اقتضى أن يكابد نوعا من المشاق جديدا عليه، لذلك اشتد شوقه إلى حالته الأولى عندما كان ينعم بالمشاهد الخاصة به والتي لا يكدرها انشغاله بالناس وبتخليطهم وأهوائهم وظلماتهم، وكان يخشى أن يكون ذلك على حساب درجته الرفيعة وبسبب أن ربه قد ودعه أو قلاه، فأخبره الرب أن حالته الجديدة في الدعوة إلى ربه أفضل من حالته الأولى، وأنه سيظل في ترقٍّ دائم وعلو في الدرجات وسينال ما يريده دائما ويعطى حتى يرضى ويبلغ كماله المنشود، ولكل مؤمن نصيب من تلك السورة، فالرب الرحيم يخاطب كل عبد من عباده بها إذ كيف يودِّع عبده الذي خلقه فسواه فعدله وهداه وكرَّمه وحمَّله الأمانة واستخلفه في الأرض وأسجد له ملائكته، وذلك أيضاً لأن كل إنسان يتيم من حيث أنه لا نظير له في ماهيته وحقيقته ضال إن لم يهده ربه، ومأمور بالعمل وفق مقتضيات السورة.
فالسورة تبيِّن أن كل ما لدى الإنسان وكل ما يتصف به من الصفات الحسنة مهما علا قدره هي لله تعالى بالأصالة، ولا يملك أي مخلوق –مهما علا قدره- شيئاً منها بالأصالة، فالله سبحانه يخاطب في الرسول البشرية جمعاء ويذكرهم بهذه الحقيقة، ولم يكن يجوز لأحد أن يتخذ من هذه الآيات ذريعة للتطاول على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ.
-------
كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ يتعبد لله تعالى على ملة إبراهيم عليه السلام، من قبل أن ينزل عليه القرءان، كان هذا ما أوحاه ربه إليه، وهو لم يكن أبداً ضالا بالمعنى الذي يحاول أن يصفه به من يسمون أنفسهم بالقرءانيين أو غيرهم من الضالين الجدد، ولكن كل المخلوقات ينطبق عليهم القول: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته"، فأصل الصفات الحسنة كلها هو الله تعالى، وكل من هم من دونه مفتقرون إليه افتقاراً ذاتيا تاما، فليس لهم من حيث أنفسهم إلا الضلال والنقص وكافة تجليات العدم، أما سمات الله تعالى فكلها واجبة له ذاتية له، وصفات الخلق الحسنة كلها منه.
هذا بالإضافة إلى أن الأمور نسبية، فلا شك أن حالة النبي من بعد أن تلقى الرسالة الإلهية أفضل وأهدى من الحالة التي كان عليها، بل كل آخرة هي خير له من الأولى.
ويجب العلم بأن خطاب الله تعالى لرسله وعبده المحض هو من المتشابهات؛ بمعنى أنه لا يجوز تفسيره وفق المعاني الحرفية الدارجة، وهو يتضمن ابتلاءً للبشر مثل سائر الآيات المتشابهات!
إن لله تعالى أن يُخاطب عبده كما يشاء وأن يمتنَّ عليه كما يشاء، ولكن ليس للضالين الجدد أن يقولوا إن النبي كان ضالا مثل قومه من قبل أن يبعثه الله تعالى إليهم، وهو سبحانه أعلم حيث يجعل رسالته.

*******



هناك تعليقان (2):

  1. سبحان من بيده الخير، وهو على كل شيئ قدير..

    ردحذف
  2. الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين وعلى آله الطاهرين وعلى انفسنا معهم برحمتك يا ارحم الراحمين..

    ردحذف