الجمعة، 19 ديسمبر 2014

سورة التين


سورة التين

{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ{1} وَطُورِ سِينِينَ{2} وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ{3} لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ{4} ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ{5} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ{6} فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ{7} أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ{8}}

تبدأ السورة بقسمٍ بالتين والزيتون، وهذه إشارة إلى الأرض التي نشأ فيها المسيح عليه السلام، وهي في فلسطين، ويشار إلى ذلك بالرمز "ي"، والقسم يتضمن تنويها أيضاً بالتين والزيتون، وهي من النعم الإلهية العظيمة، والقسم بهما يجعلُهما جديرين بالاعتبار والبحث في آثارهما الإيجابية على الكيان الإنساني.
ويلي ذلك قسمٌ بطور سينين، وهو البقعة الطيبة المقدسة التي كلَّم الله تعالى فيها نبيه موسى عليه السلام تكليما، وهي طورُ سيناء مصر، وذلك يتضمن إشارةً إلى الشريعة التي تلقاها موسى وأهميتها في التطور الإنساني الجوهري، ويشار إلى طور سينين وإلى كل ما يتعلق بموسى وشريعته بالرمز "طس".
ثم يأتي قسم بمكان تواجد النبي الخاتم الذي جاء بالرسالة التامة التي بها اكتمل الدين وتمت النعمة، وهو البلد الأمين مكة، ويشار إلى كل ذلك بالرمز "ألم".
وكون الإشارة إلى الرسلِ الثلاث جاءت على هذا الترتيب المختلف عن الترتيب الزماني المعروف إشارة إلى درجاتهم التصاعدية، فأعلاهم درجة هو النبي الخاتم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، يليه موسى ثم عيسى عليهما السلام
والأقسام السابقة فضلا عن كونها أقساما تتضمن ما هو مذكور من علومٍ وإشارات.
أما المقسم عليه فهو أن الإنسان مخلوق في أحسن تقويم، فهو أفضل المخلوقات الأرضية على كافة المستويات المادية والجوهرية، وبذلك استحق أن يكون خليفة في الأرض وأن يحمل الأمانة وأن يكرمَّه ربه في البر والبحر.
فالإنسان مخلوق في أحسن تقويم، والخلق في سورة التين هو التقديرُ أو التصميم To design بالاصطلاح الحديث، فمسمَّى الإنسان هو الذي خلقه ربه أو قدَّره أو صممه أحسن من غيره من الكائنات الأرضية، فبنيانه المادي يستحق الاقتران بأجمع كيان جوهري، فهو الكيان الخالد القابل للتطور وفق آثار الأعمال الاختيارية، ولا يعني ذلك أن الإنسان وجد فجأةً من العدم أو أنه كان ثمة تمثالٌ طيني تحول إلى إنسان.
والإنسان بذلك هو خاتَم سلسلة التطور على هذا الكوكب وزينة وتاج المخلوقات الأرضية، وظهوره مؤذن بانتهاء هذه الدورة وقرب فناء هذا العالم الطبيعي، وباختفاء الإنسان من على ظهر هذا الكوكب تكون هذه الأرض بسماواتها قد حان أجلها.
فمسمى الإنسان مخلوق بالفعل في أحسن تقويم؛ أي أن خلقته منذ أن ظهر هي في أحسن تقويم، ولا علاقة لذلك بالمراحل التي سبقت ظهور الإنسان، فالمخلوقات التي تطورت لتكون إنسانا لم تكن كذلك من قبل، فالإنسان هو تاج المخلوقات الأرضية وخاتمها وذروة تطورها، ولذلك حمل الأمانة وكُرِّم وفُضِّل واستخلف في الأرض.
وهذا الأمر متكرر الآن مع خلق كل إنسان جديد، فقبل النفخ من الروح المنسوب إلى الله في الجنين لم يكن إنسانا، وبالنفخ المذكور صار إحسانا في أحسن تقويم.
ولكن الإنسان لطبيعته الخاصة مردود –إلا قليلا منهم- إلى أسفل سافلين، ذلك لأن صورة كيانه الجوهري تتشكل وفق أعماله الاختيارية، لذلك فهو من الممكن أن يهوي إلى مرتبة أضل من مرتبة الأنعام التي لا تتغير مرتبتها، وهو بنزوله ذلك سيُلقى به في جهنم وهي بئس القرار، لا ظلم في ذلك، فهو مخير في كل ما يتعلق بتحديد مصيره النهائي، ولكن تحقق ما اختاره لنفسه يتم وفق قوانين الله وسننه، ولذلك يُنسب إلى الله تعالى ما هو نتيجة لسريان سننه التي لا تبديل لها ولا تحويل.
أما من أراد الإفلات من مصير كهذا فيجب أن يؤمن بربه وبكل ما أمره ربه أن يؤمن به وأن تكون أعماله مصدقة لإيمانه هذا، فالإيمان والعمل الصالح هما السبيل إلى الجنة، فالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ، هو الجنة وهو الفردوس وهو جنات تجري من تحتها الأنهار كما ذكرت ذلك آيات قرءانية عديدة، والجنة هي التي تتضمن أعلى عليين المقابل لأسفل سافلين.
فلا جبرَ ولا إكراه في نزول الإنسان إلى أسفل سافلين، وإنما هو ينزل إليها كنتيجة لآثار أعماله بمقتضى السنن الإلهية، وحيث أن الله تعالى هو الفاعل الحقيقي وأن السنن سننه فله أن ينسب الأمر إلى نفسه.
ثم يأتي تساؤل استنكاري تعجبي عن أولئك الذين يكذبون بيوم الدين، مع أنه لابد من يوم كهذا لكونه من مقتضيات الاسم الإلهي أحكم الحاكمين؛ فلابد من محالٍّ ومجالٍ للظهور التفصيلي لهذا الاسم الذي لا تسعه الدنيا كلها، فالأحكام النهائية الخاصة بالإنسان كفرد أكثرها مؤجل إلى يوم القيامة؛ يوم الدين.
وجواب السؤال الوارد في الآية {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ{8}} هو بلى، اللَّهُ هو ِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، فله الحكم بكل معانيه، فهو الذي له سمة الحكمة المطلقة الواجبة، وهو الذي يعطي للأمور معانيها والأفعال صفاتها وتقويمها، وهو الذي يقضي بين مخلوقاته بالحق، وهو الذي يحكم بين عباده في يوم الدين، ويفصل في الأمور في يوم الفصل، وهو سبحانه الذي له الحكم النهائي البات، فهو الذي يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ، والظهور التام لذلك هو في يوم الدين.


هناك 6 تعليقات:

  1. إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ..

    ردحذف
  2. مجهود وتحليل تشكر عليهما .. وان كنت لم تأتي بجديد ..

    ردحذف
  3. لقد قرأت لك المنشور الخاص ,باسماء الله الحسنى المفردة والثنائي والحلقي ..
    وقد كان رائعا ,لم يقل بمثله احدا غيرك ..وانااتفق معك بذلك ..
    وكنت اتمنى ان تذكر ,وتوضح لنا ,هل لتلك الاسماء القولية توجد مسميات كونية فعلية تؤثر وتتأثر بالكون وما فيه ..

    ردحذف
  4. واما المدلولات الحقيقية للتين والزيتون وطور سينيين وهذا البلد الأمين ..فلديا تفسيرات اخرى لم يقل به احدا قبلي ..

    ردحذف