الأحد، 8 مايو 2016

الحجر 6 إلى 15

الحجر 6-15

وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
هذا دأب أقوام الرسل مع الرسل والأنبياء والمصلحين، يقذفونهم بالاتهامات ويوجهون إليهم الشتائم ويستهزؤون بهم، فلا يجوز الآن للمصلح أن ييأس ولا أن يهتز بسبب موقف الناس منه، فإذا ما استهزئوا به فليتذكر أنهم استهزئوا بمن هم خير منه، وليعلم أن ما يلقاه منهم قد يكون سببا في تزكية نفسه إذا ما حسنت استجابته لأفعالهم ولم يغضب لنفسه وازداد اعتصامه بربه.
وأقوام الرسل يتفنون في اختلاق ما يواجهون به رسلهم، ومن ذلك أن يطلعهم على العوالم الخفية، ومن ذلك أن يريهم الملائكة، وهم يجهلون أنه لو كان يمكنهم بحواسهم العادية أن يروا الملائكة لرأوهم بالفعل، كما أن الملائكة لا تنزل إلا بالحق وليس وفق أهواء الناس، ولو تجسد لهم الملائكة لكي يمكنهم رؤيتهم لاعتبروهم بشرا ولظلوا على كفرهم.
ولقد طلبوا تعنتا من الرسل أن يصعدوا أمامهم إلى السماء أو أن يصعدوا هم إليها ليتأكدوا بأنفسهم من صدق ما جاء به الرسل، ولو تحقق ذلك لرفضوه متذرعين بأية ذريعة، فلا حدّ لعناد الإنسان ولججه.  
وكلمة "الذكر" في القرءان لها معانٍ عديدة، ولذلك يجب الرجوع إلى السياق، ومنه يتضح أن الذكر الذي تعهد الله سبحانه بحفظه في الآية 9 هو الذكر المذكور في الآية 6 التي تقول:
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) 
فهو الذكر الذي كان قوم الرسول يعلمون أنه نُزِّل عليه، وهو القرءان لفظا ورسما، ولقد حاول عبيد المرويات الظنية في سياق دفاعهم الأعمى والأهوج عنها التشكيك في دلالة الآية بالقول بأن المراد بالذكر هو الرسول نفسه وليس القرءان، أو إنه القرءان وكلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، وزعمهم هذا تقوضه الآية 6 المذكورة، وهي تؤكد أن المقصود بالذكر هو القرءان وحده، وليس أي شيءٍ آخر، فالآيتان 6 و9 وردتا في سياقٍ واحد وتتحدثان عن أمرٍ واحد، فالله تعالى يتحدث إليهم عن الذكر الذي يقصدونه هم، وليس عن الذكر كما سيعرِّفه المحدثون في الدين من بعد.
فالذكر هو القرءان المتلو بكافة تنوعاته وقراءاته وصوره اللازمة والممكنة، وهي تمثل القرءان المنزَّل برسمه ولفظه، والقرءان المنزَّل هو ذلك الروح الأمري كما تلقاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ باللسان الذي يجيده، أي هو عين الكلام الإلهي كما تمثل في القلب النبوي، فالذكر هو اسم للرسالة التي تلقاها خاتم النبيين من ربه، أما القرءان المُنْزل فهو المصحوب ببيان خاص وفقه.
فكلمة "الذكر" هي من أسماء ما أوحاه الله تعالى من القرءان، فهي اسم لهذا الوحي مثله مثل الكتاب، القرءان، الفرقان، الصدق، الهدى، النور
ولقد جاء بهذا المعنى في الآيات:
{ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيم} [آل عمران:58]، {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِين} [يوسف:104]، {وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُون} [الحجر:6]، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} [الحجر:9]، {وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُون} [الأنبياء:50].
وقال تعالى:
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقرءان مَهْجُورًا (30)} الفرقان
فالذكر الذي ضلَّ عنه هذا الظالم هو القرءان الذي اتخذه قوم الرسول مهجورا.

لذلك لا جدوى من محاولة أتباع المذاهب الشركية لتعميم لفظ "الذكر" الوارد في آية الحجر ليشمل كل المرويات الظنية ومحدثات مذاهبهم، وكان عليهم أن يعلموا أن التقول على الله هو من المحرمات ومن كبائر الإثم، قال تعالى:
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} [الأعراف:33]
وكيف تكون المرويات من الذكر المحفوظ رغم كل الاختلافات الهائلة فيما بينها ورغم كل ما قيل عنها ورغم ما يصفونه بها مما يسمونه بدرجات الصحة؛ أي احتمالات الصحة، وهي بتعبير آخر احتمالات الخطأ أيضًا؟
أما عن العبادات العملية فالاختلافات فيما بينها معلومة حتى داخل نفس المذهب من نفس المذهب، ولم تكن هذه الاختلافات هينة، بل كانت تسبب صراعات دامية كما هو معلوم.
***
ولقد سمَّى القرءان الرسول بالذكر في قوله تعالى:
{فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} الطلاق
ذلك لأنه عليه أنزل ولقد كان قلبه محلاً لتفصيله ولقد كانت مهمته الأعظم تلاوته عليهم، فهو بالنسبة لقومه كان الذِكْر بالفعل، فلكلمة "الذكر" معانٍ عديدة، والسياق هو الذي يبين المعنى المقصود.
والآية تبين أن الله سبحانه قد تكفل بحفظ كتابه بكافة منظومات أسمائه، ولقد استخدم علي مدى التاريخ عباده كآلات لإنفاذ مراده، لذلك لم يتمكن أبدًا أعداء الحق من النيل منه، ولم يتعرض لأي إلقاء شيطاني، أما محل الإلقاء الشيطاني فهو بلا ريب تلك المرويات التي أخذت مكان القرءان في المساجد، فهي فيها تُتلي وتُفسَّر ولا يستعمل القرءان إلا لشرحها وبيانها.
إن حفظ القرءان الذي تعهد الله تعالى به والأوصاف التي ذكرها لكتابه من العزة أي المنعة والعلو والندرة وكذلك العلو والمجد والكرم وأنه في لوح محفوظ وكتاب مكنون كل ذلك قد حفظ هذا الكتاب من أن يناله أدنى تحريف، لذلك لم يجد الطواغيت وشياطين الإنس والجن سبيلا إلى المساس به فعملوا على إبعاد الناس عنه وإلزامهم بهجرانه بكافة السبل الممكنة، وإذا كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ لم يتقوَّل على ربه فإنهم تقولوا هم عليه بأقوال نسبوها إلى ربه أو حرفوا ما رُوي عنه وأدرجوا فيه ما يقوِّض معناه، ثم غلوا في شأن المرويات وجعلوها وحيا ثانيا وكتابا مثل القرءان أو مثليه وكتبا مع كتاب الله تعالى فاعلين بذلك ما حذر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ والشيخان الناس منه، بل جعلوا المرويات حاكمة على الكتاب وناسخة له وقاضية عليه، واستلزم ذلك أن يبتدعوا ما أسموه بالصحبة وبعدالة الصحابة وكذلك عدالة الرواة والتي بمقتضاها يتحول من زعموا له تلك العدالة إلى ملَك لا يعصي ولا يكذب ولا يستزله الشيطان ولا يخضع لإغراء طوال حياته، وإلي رجال الكهنوت هذا السؤال: إذا كان الشيطان قد استزل بعض أكابر السابقين الأولين فجعلهم يفرون في أحد وحنين وجعل بعضهم يتخذون أعداء الله أولياء يلقون إليهم بالمودة وكل ذلك والرسول يحيا بينهم فما الذي يضمن ألا يكرر فعلته معهم أو مع من هم من دونهم بعد انتقاله؟ ومن الذي جعل عمر بن سعد بن أبي وقاص يقبل أن يقود الجيش الذي قتل الإمام الحسين وعترة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ في كربلاء؟ ومن الذي دفع معاوية إلي التمادي في القتال بعدما تبين للناس وله أنه يقود الفئة الباغية بقتله عمار بن ياسر؟ ومن ذا الذي يملك سلطة أن يعدِّل أمثال بسر بن أرطأة ومعاوية والوليد بن عقبة الذي سمي في الكتاب بالفاسق وابن أبي السرح والوزغة الحكم بن العاص وابنه اللعين مضروب القفا مروان... إلخ؟ بحيث يصبح كل قول منسوب إلى أمثال هؤلاء ومن هم أسوأ منهم ممن عدلوهم وحيا يوحى ونصا مطلقا ملزما للناس أجمعين إلى يوم الدين، أما من جرحوه لأسباب موضوعية أو غير موضوعية فلقد أصبح في نظرهم شيطانا مريدا لا يؤخذ منه، ولقد جرحوا بالطبع كل من خالف مذهبهم وكل من كان من المعارضين لطواغيت الأمويين والعباسيين وعدلوا من استسلم لهم ممن أسموهم بالتابعين.
ومن العجيب أن من فسروا قوله تعالى:  { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ كان لا يتلفظ إلا بما يوحي إليه ليلزموا الناس بمروياتهم الظنية هم من زعموا أن اليهود سحروه حتى لم يكن يدرى ما يفعل وهم من زعموا أنه نطق عن إلقاء شيطاني فرضي عنه مشركو قريش والجن فسجدوا معه، وهم من زعموا أنه كان يسابّ الناس ويلاعنهم بيد أنه شارط ربه أن يجعل ذلك حسنات في صحافهم، وهم من زعموا أنه أعلن علي رؤوس الأشهاد أن السيدة عائشة أحب الناس إليه، ورفض مناشدة ابنته الحبيبة له بأن يعدل بين نسائه بحجة أنها الوحيدة من بينهن التي ينزل عليه الوحي في فراشها، وهو الذي قال لها في المسجد علي مسمع من الناس إن حيضتك ليست في يدك، وهم من زعموا أنه أمر بالتحديث عن بني إسرائيل بلا حرج رغم أن الكتاب المنزل عليه أعلن أنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا وأنهم يودون لو أضلوا الذين آمنوا وأنهم يقولون بأنه ليس عليهم في الأميين سبيل وأنهم يلبسون الحق بالباطل وأنهم يقولون علي الله الكذب وهم من زعموا أن عمر بن الخطاب كان يصحح له ما يسمونه بالوحي الثاني، وهذا قليل من كثير مما ضمنوه ما يسمي بكتب الحديث (المرويات)، فهؤلاء بما نسبوه إليه يريدون أن يقولوا أنه كان يوحي إليه أن يخالف ما يوحي إليه !!! وأنه أمر بإتاحة الفرصة كاملة لبني إسرائيل الذين هم أشد الناس عداوة للمؤمنين ولرسالته ليقوضوا تلك الرسالة التي عاش مجاهدا في سبيلها وقاتل كل أعدائها وعلى رأسهم بنو إسرائيل.
والآية: {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)} تضيف كلمة "السنة" إلى مجالها وإلى من سرت عليهم وحاقت بهم، فالسنة هاهنا هي القانون الإلهي الكوني الذي مجاله الكائنات المخيرة، وتبين الآيات أن المجرمين لا يمكن أن يؤمنوا مهما رأوا من الآيات، وذلك أمرٌ لا جبر فيه ولا إكراه، فهم لم يستحقوا أن يوصفوا بالمجرمين إلا من بعد أن أصبحوا أعلاما على هذه الصفة وأصبحت هي علَمًا عليهم، وما حدث ذلك إلا بتراكم آثار أفعالهم الاختيارية السيئة التي كانوا فيها حريصين دائما على قطع ما أمر الله به أن يوصل.

*****

هناك تعليق واحد: