العبرة بالخواتيم
كل إنسانٍ طالما هو على قيد الحياة هو عرضة للتغير
والتبدل، وكل عملٍ اختياري يصدر عنه له آثاره عليه، ونفسه هي ألدّ أعدائه، ولذلك
هو مأمور بتزكيتها، فلا يجوز أن يأمن الإنسان شرّ نفسه.
وحقيقة الإنسان تتضمن جانبا عشوائيا شواشيا، لذلك لا
يمكن لأحد إلا الله أن يقدر بكل دقة استجاباته وردود أفعاله، ولذلك كان الصالحون
بل والمرسلون يقدمون المشيئة ويخشون من العودة إلى ملة أقوامهم، قال تعالى:
{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ
قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ
قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ
(88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ
بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى
اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ
وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)} الأعراف، وكذلك قال إبراهيم عليه السلام: {وَحَآجَّهُ
قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا
تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ
عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُون} [الأنعام:80]
ولذلك كان على من هو مكلف بتزكية الناس أن يحذرهم
دائمًا من مكر أنفسهم، ولقد كان من مهام الرسول أن يزكي قومه الأميين، قال تعالى: {هُوَ
الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن
قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِين} [الجمعة:2]
وبالطبع يتفاوت الناس في قدرتهم على الاستجابة لجهود
المزكِّي، ولا عجب في ذلك، فلابد من تمييز المراتب والدرجات ليعلم الناس أيهم أحسن
عملا، ولقد كان أعلاهم مرتبة السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، أما سابقهم
والأول في الترتيب العام فكان الإمام عليّ، وهذا ما أعلنه الرسول عليهم بعد حجة الوداع،
ولم يكن لأحد منهم أن يجادل في ذلك، فلقد ثبت ذلك بكل ما هو ممكن من اختبارات
وابتلاءات.
ومن مقتضيات عمله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله سَلَّمَ كمزكٍّ
لقومه حذَّرهم من أن يتنافسوا والدنيا ومن أن يرجعوا من بعده كفارا يضرب بعضهم
رقاب بعض، فقد رووا أنه قال: "ما الفقر أخشى عليكم. ولكني أخشى عليكم أن تبسط
الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم. فتنافسوها كما تنافسوها. وتهلككم كما
أهلكتهم"، وقال: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضُكم رقاب بعضٍ".
وهذا يدل على قابليتهم لذلك، وليس على أنهم معصومون
منه، ولو كانوا آلهة أو أربابا أو ملائكة لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ
وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون كما يتصور عبيدهم الذين أشربوا الشرك والضلال في
قلوبهم لما كان للتحذير من معنى، فمن المحال تحصيل الحاصل، وليس من اللائق أن
يُقال لربٍّ من الأرباب أو لملَك: "لا ترجع كافرا"!
ولكن الذي حدث بالفعل أنهم تنافسوا الدنيا، وكدس
بعضهم وكنز القناطير المقنطرة من الذهب التي كانوا يكسرونها بالفؤوس ليوزعوها على
الورثة، كما ضرب بعضهم رقاب بعض في حروب مهلكة دامية، وليس من حقِّ أحد أن يفرض
توثينهم على الناس بعد أن تورطوا فيما حذرهم منه الرسول.
والإنسان قد يجتهد حتى يصل إلى درجة عالية ثم يفتتن
ولا يصمد لابتلاءات الدنيا فيضل، وفي هذه الحالة يجب على الناس ما يلي:
1.
ألا يتأسوا به
بعد ضلاله.
2.
ألا يفرضوا على
الناس تجاهل أنه ضل فيطالبوهم بمعاملته وفق حالته الأولى
3.
ألا يتجاهلوا
إنجازاته قبل ضلاله، بل يجب عليهم الانتفاع بها.
ومن ناحية أخرى قد تكون حالة الإنسان الأولى بالغة
السوء ثم يهتدي ويحقق إنجازات مبهرة، وفي هذه الحالة يجب على الناس ما يلي:
1.
ألا يتأسوا به
في مرحلة ضلاله.
2.
ألا يتخذوا من
ضلاله الأول حجة للتطاول عليه ورفض الانتفاع بإنجازاته.
3.
ألا يفرضوا على
الناس تجاهل أنه اهتدى فيطالبوهم بمعاملته وفق حالته الأولى.
والإنسان لا يُختم له إلا بما هو متسق مع حالته
الحقيقية الجوهرية التي وصل إليها كمحصلة لآثار كل أعماله الاختيارية، فلن يختم
لأحد على حالةٍ معينة بالإكراه، ومن أراد أن يعرف حالته الحقيقية فليبحث عنها في
أعماق نفسه.
*******
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق