الاثنين، 10 أبريل 2017

الأمة والدولة والخلافة ج1

الأمة والدولة والخلافة ج1
الأمة
كان للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ مهام عديدة مذكورة في القرءان، وهي باختصار:
1.       الرسالة والنبوة
2.       الدعوةُ إلى الله.
3.       التبشير.
4.       الإنذار.
5.       التبليغ.
6.       تبيين آيات القرءان للمؤمنين.
7.       تلاوةُ القرءان عليهم.
8.       تزكيةُ أنفسهم.
9.       تعليمُهم الكتاب والحكمة.
10.    تعليمهم ما لم يكونوا يعلمون.
11.    ولايةُ كافة أمور أمة المؤمنين من بين الناس.
12.    الحكم (القضاء) بينهم.
13.    أخذُ الصدقات منهم وتوزيعُها عليهم.
14.    الصلاة عليهم.
15.    تشريعُ بعض الأمور بإذن ربه مثل جعل الحج مرة واحدة في العمر.
16.    سن بعض الأذكار والأدعية مثلما هو الحال في الصلاة.
17.    الشهادةُ على أمته.
18.    الشهادةُ على شهداء الأمم.
19.    ختم النبوة.
والرسول أسس أمة هي أمة المؤمنين الذين اتبعوه، وكان هو ولي أمورها، ولكن لم يكن له سلطان على من كانوا يتعايشون مع المؤمنين في المدينة من أهل الكتاب، وكان مخيرا في شأن الحكم (القضاء) بينهم، أما سلطانه على المؤمنين فكان مستمدا من قوة إيمانهم، فهو لم يكن عليهم جبارا أو حفيظا أو وكيلا أو مصيطرا؛ أي لم يكن عليهم ملكا؛ بل إن هذه هي التهمة التي يرميه بها أعداؤه قديما أو حديثا.
والأمة هي مجتمع من الناس تجمع بين أفراده وحدة القصد، وله بنية Structure، فتوجد شبكة من الصلات والوصلات بين كافة مكوناته بحيث أنهم يمثلون كيانًا إنسانيا واحدا كبيرا، ولذلك فثمة أوامر دينية كبرى ملزمة لهذا الكيان ولا يمكن لفرد واحد أن يقوم بها، لذلك فهو غير مكلف بها أصلا، فلا يجوز الخلط بين الأوامر الخاصة بالفرد وبين الأوامر الخاصة بالأمة.
وبحكم عالمية الدين فليس لهذه الأمة شكل سياسي محدد، بل يمكنها التعايش مع أي نظام سياسي أو داخل أي نظام سياسي، ولا يمكن إلزام بلد هائل شديد التعقيد بعادات وتقاليد ونظام قبيلة صحراوية شديدة البدائية، فيمكن للمسلمين في أمريكا مثلا أن يشكلوا أمة تتعايش سلميا مع الدولة والناس هناك، ذلك لأن الإسلام هو أساسا دين، وليس نظاما سياسيا، والإسلام لا يلزم أمة المسلمين بمحاولة الاستيلاء على الكرة الأرضية، ذلك ظنُّ طائفة من المجرمين والمفسدين في الأرض، وهؤلاء هم الذين كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ، وكلما ظهرت طائفة منهم حدث واحد من الأمرين:
1.     أن يُلقَى بأسهم بينهم، وهذا يحدث عندما لا توجد قوة خارجية تتصدى لهم، وهذا ما حدث مع الأجيال الإسلامية الأولى، فقد ألقيت الفتن بينهم وذاق بعضهم بأس بعض وهلك أكثرهم في تلك الفتن.  
2.    أن يُسلَّط عليهم بذنوبهم وإجرامهم من لا يخافهم ولا يرحمهم، وهذا تكرر كثيرا على مدى التاريخ ومازال يحدث إلى الآن.
فهذه قوانين كونية صارمة لا مفر منها ولا محيص عنها، والسنن الإلهية لا تحابي أحدا، ولقد حاقت هذه السنن بالأجيال الإسلامية لما اعتدوا على الشعوب المسالمة ونهبوا أموالهم وسبوا نساءهم وطَغَوْا فِي الْبِلَادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ، وما كانت الفتن التي ضربتهم فأهلكت أكثرهم إلا بسبب ذلك، لقد ابتلوا بإقبال الدنيا فتنافسوها، ولم يثبتوا لفتنتها، فكان ما كان.
ولم يكن من أهداف الرسول أبدًا بناءُ مملكة أو إمبراطورية أو دولة موحدة بالمفهوم الحديث أو القديم، ولم يكن من مقاصده غزو العالم كله، ورسائله إلى حكام العالم كانت تتضمن ما جاء في الآية:
{.... تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُون} [آل عمران:64]
وللدعوة وسائلها السلمية المبينة في القرءان، قال تعالى:
{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين} [النحل:125].
والقتال ليس من وسائل الدعوة، وهو يكون فقط ضد المعتدين البادئين بالقتال:
{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين} [البقرة:190].
وحالة السلم هي الحالة الطبيعية التي يجب بذل قصارى الجهد للحفاظ عليها، والله تعالى هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ، وهو لم يعين أحدا من الناس وكيلا أو حفيظا أو مصيطرًا أو جبارا عليهم.
فالرسول لم يؤسس دولة واحدة مدمجة مثلما كان الحال في الدولة الفارسية أو الدولة البيزنطية، وكان يترك كل شيخ قبيلة أو حاكم في مكانه طالما أسلم، وكان يكتفي بإرسال من يقضي بينهم وفق أحكام الإسلام ومن يعلمهم أمور دينهم، ولم يرسل حامية عسكرية لتلزم الدولة أو القبيلة التي اعتنقت الإسلام بطاعته، وهذا هو الأمر الطبيعي، فالدين الخاتم يجب أن يكون عالميا صالحا للتطبيق في كل زمان ومكان ملبيا لحاجات أي فرد في أي بيئة وُجد فيها، ولا يوجد في الإسلام ما يلزم المسلمين بإشعال الأرض نارا وإثارة الاضطرابات في كل مكان للاستيلاء على السلطة في أي مكان وُجدوا فيه، وكل مسلم هو مأمور بطاعة الرسول كرسول، فهذا أمر ديني ملزم.
إن الوضع في الحجاز قبل وأثناء العصر النبوي كان يسمح بقيام أمة خالصة موحدة تتعايش مع أمم أخرى على نفس الأرض، وهذا ما حققه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، ولذلك كان الأمر يستدعي تنظيم العلاقة مع الأمم الأخرى، ولم يكن هناك أي أثر لوجود دولة أو مواطنة أو أي شيء من هذه الأمور، وهكذا لم يكن التعامل مع اليهود كأقلية تعيش مع المسلمين في وطنٍ واحد ولكن كقبائل تعيش بالقرب منهم أو معهم في نفس الأرض مع استقلالهم بأمورهم.
والوثيقة أو المعاهدة التي تم عقدها مع يهود بني عوف تقرر بكل وضوح أن المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس، وأن يهود بني عوف أُمَّة مع المؤمنين، فهي تعتبرهم أمة أخرى بلا أدنى شك، وتميز أمة المؤمنين عنهم فتقول: لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم، وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم‏، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة .... الخ‏.
فالمعاهدة لا تقرر أنهم يشكلون دولة واحدة ولا أنهم يشكلون كيانا سياسيا واحدا ولا تعلن وجود أمة واحدة لها دستور واحد، بل هي تعتبر كلًّا من أمة المسلمين وأمة اليهود كيانين مستقلين متميزين تماما وهم يتعاهدون على هذا الأساس، هذا مع أن الأمتين تعيشان وتتعايشان في نفس المدينة، وهذا كافٍ تماما لبيان حقيقة الأمر.
فالمعاهدة ليست أبدا دستورا لدولة واحدة تندمج عناصرها لتشكل شعبا واحدا، هذا أمر واضح تماما، ولذلك كان لليهود قانونهم المستقل، ولم يكن الرسول حاكما عليهم أو فيما بينهم، وعندما لجئوا إليه ليحكم بينهم نزلت آيات تتعجب من تصرفهم هذا!! وتجعله هو مخيرا في ذلك:
{....فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)} المائدة
هل ثمة ما هو أوضح من ذلك؟! فهو لم يكن مطالبا بأن يحكم بينهم، وهو بالأحرى ليس مطالبا بما هو أكثر من ذلك، ومن هم دونه من الناس هم بالأحرى غير مطالبين بذلك، فليس لأحد أن يقاتل الناس ليلزمهم بأحكام الإسلام ولا ليكونوا أمة واحدة مع المسلمين ولا ليندمجوا معهم في كيانٍ سياسي واحد.
ولكن الذي سبب اللبس هم أصحاب ما يُسمَّى بنظرية الإسلام السياسي الذين استعملهم الشيطان للقضاء على المسلمين وعلى إمكانية تطورهم السلمي وتعايشهم مع الآخرين، فهو الذي وضع لهم الأسس ليظلوا حربا على العالمين وعلى أنفسهم إلى يوم الدين، ولكن للأسف المعركة خاسرة بالطبع، وسينقرض المسلمون قبل غيرهم بسبب هذا الضلال الذي رسخ في أنفسهم، ولن يبقى إلا اليهود والنصارى وغيرهم، وعليهم ستقوم الساعة.
فالذي أسسه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ هو أمة المؤمنين، وكان هو يعيش بينهم كرسول نبي وولي أمورهم ومربيهم ومعلمهم وكقاضٍ بينهم وولي أمورهم مع أولي الأمر منهم، ولكن ليس كملك أو جبار أو حفيظ أو وكيل أو مسيطر عليهم، ولذلك كانت الآيات تنزل لتحثهم على طاعته وتحكيمه فيما شجر بينهم والرضا بأحكامه، وكان من الممكن أن تنزل آية تقرر تعيينه رئيسا أو ملكا عليهم لتغني عن كل ذلك، فقد كانت كلمات الملوك هي الدستور والقانون في ذلك العصر، وهذا ما سيلتزمون هم به من بعد الرسول.
وكان لابد من توفر ما يلزم لكي تتعامل هذه الأمة مع الكيانات الأخرى القريبة ولكي تحمي نفسها من اعتداءات الآخرين.
وتقسيم الغنائم كان يصلح عندما توجد أمة بلا دولة، وعندما يكون المقاتلون هم كل من يقدر على حمل السلاح من الأمة، ويكون المقاتل هو الذي يجهز نفسه أو يجهزه أحد المحسنين، أما الموجود الآن فهو الكيانات المسماة بالدول، ولا يجوز لمكونات هذا الكيان أن تتكسب بقرابات أو أنساب.
أما كل ما استجد بعد ذلك فهي أمور دنيوية وتاريخية كان على المسلمين أن يجتهدوا للوصول إلى ما يتفق مع دين الحق بشأنها وأن يتحملوا نتائج اجتهاداتهم، ولا يتحملها الإسلام في شيء، فهناك فرق هائل بين الدين بنصوصه وعناصره وبين تصرفات الناس المحسوبين عليه.
فأقصى ما يُطالب به المسلمون كجماعة الآن هو أن يكونوا داخل أي كيان سياسي أمة صالحة خيرة تعيش بالإسلام للإسلام وتتعايش سلميا مع الآخرين وتدعو إلى الخير وتمثل منظومة القيم الإسلامية للناس وتجذبهم إلى الإسلام بسلوكها الرفيع، ومن مفاصد الدين العظمى توفير ما يلزم من القيم والسنن اللازمة لذلك.
فالرسول لم يسع أبدا إلى إدماجهم في كيان سياسي واحد، وكان يكتفي من شيخ القبيلة بإعلان الإسلام وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهذا هو إسلام الأعراب الذي تحدث عنه القرءان:
{قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} [الحجرات:14]
ومن المعلوم أن أكثر من مائة ألف قد أسلموا بعد فتح الحديبية ولم يهاجروا ولم يتعلموا إلا القليل عن الإسلام، فلم تكن المصاحف متاحة للناس كما هو الحال الآن، وكان حفظة القرءان والمعلمون قليلين، وكان لابد من ولي أمر للأمة الوليدة جدير بأن يستكمل المهام النبوية بالنسبة لهم، ولقد فاز بهذه الولاية الإمام عليّ بعد أن أثبت جدارته بها طوال العهد النبوي؛ كان متفوقا تفوقا هائلا على المستوى الجوهري، وكان دائما في مقدمة الصفوف بينما كان يكتفي غيره بالفرجة أو يفرون عند الخطر، وكان ينجح حين يفشل الآخرون، فضلا عن أنه تربى في بيت النبوة، ولذلك أعلن الرسول أنه منه بمنزلة هارون من موسى وأنه ولي لكل من كان هو له وليا، وهذا أمر ثابت لا يجوز المماراة فيه، أما عبيد خال المجرمين وزعيم الداعين إلى النار فإنه لا يجوز لأحد أن يأبه بهم في مثل هذه الأمور.
فمن الأمور الثابتة أن الرسول قال للإمام علي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي"، وقال أمام الآلاف من المسلمين بعد حجة الوداع: "مَن كنتُ مولاه ُفعليٌّ مولاهُ اللهمَّ والِ من والاُه وعادِ مَن عادَاهُ".  
فتولية الإمام علي وليا لأمر الأمة كان أمرا في الغاية من الوضوح، ولكن تم إساءة تفسير ما حدث عند غدير خُم لأسباب مذهبية، وكما سبق القول لم تكن هناك دولة ليتم تعيينه ملكا عليها أو رئيسا لها.
أما القرشيون فقد عملوا على تجاهل هذه الولاية لأسباب قبلية وغيرها، وأهم سبب تذرع به القرشيون هو أنه يكفي بني هاشم أن النبوة كانت فيهم!! وبالطبع لم تنسَ بطون قريش للإمام عليّ أنه قتل من مشايخهم المقدسين من قتل.
أما ما حدث في السقيفة وأسبابه فهي مسألة تاريخية، لا يجوز الاحتكام في شأنها إلى متمذهب، وما ترتب عليها كذلك هي أمور تاريخية لا علاقة لها بالدين وعقائده، ومن الخير للمسلم غير القادر على البحث المستقل ألا يشغل نفسه بها وألا يكون بوقا أجوف يردد كلام أي مذهب من المذاهب.
ومن اجتمعوا في السقيفة لم يكونوا أبدا يمثلون كافة طوائف الأمة، وما جرى فيها من جدال وتلاسن لا علاقة له بالإسلام ولا حتى بالقيم العربية، وما حدث في السقيفة لا يثبت إلا براعة ممثلي الحزب القرشي وطيبة وسذاجة الأنصار، وسيدفعون من بعد ثمن ذلك غاليا.
ومن الناحية التاريخية ومن ناحية تاريخ الأديان لا يجوز الاستهانة بما حدث في السقيفة، فما لا حصر له من الناس قُتلوا على مدى التاريخ بسبب ما ترتب على ما حدث فيها، وقد تمزقت الأمة وتفرق الدين بسبب ذلك، فلم يُوقَ المسلمون شر الفلتة التي حدثت في السقيفة.
والأنصار عندما اجتمعوا في السقيفة كانوا يعلمون حقيقة الولاية المذكورة، ولكنهم اجتمعوا لينظروا في أمر مدينتهم بصفة أساسية، وليس لينازعوا ولي أمر الأمة مكانته أو ولايته، ولم يكن خافيا أنهم كانوا يتطلعون إلى التخلص من سيطرة القرشيين عليهم مثل كل العرب الذين انتفضوا في الجزيرة العربية، ولكن كانت المشكلة هي في العداء الرهيب بين الأوس وبين الخزرج، فلم يكن لقبيلة منهما أن تقبل بتسلط الأخرى عليها.
وبخصوص بيعة أبي بكر فقد أخرج البخاري في صحيحه، وأحمد في مسنده، والحميدي والموصلي في الجمع بين الصحيحين وابن أبي شيبة في المصنف وغيرهم عن ابن عباس في حديث طويل أسموه بحديث السقيفة، قال فيه عمر: إنما كانت بيعة أبي بكر فَلْتَة وتمَّت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرَّها... مَن بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايَع هو ولا الذي بايعَه تغرَّة أن يُقتَلا.
وفي رواية أخرى: ألا إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، وقى الله المؤمنين شرَّها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه.
ذكر هذا الحديث من علماء أهل (السنة): السيوطي في تاريخ الخلفاء، وابن كثير في البداية والنهاية، وابن هشام في السيرة النبوية، وابن الأثير في الكامل، والطبري في الرياض النضرة، والدهلوي في مختصر التحفة الاثني عشرية، وغيرهم.
والحق هو أن وقائع التاريخ قد أثبتت أن شرها كان مستطيرا، ومازال الإسلام والأمة يدفعون باهظا ثمن شرها، ومع ذلك فربما كان ما حدث هو أفضل الممكن بالنظر إلى الأحوال التي كانت سائدة.
*******
إن الإسلام هو دين عالمي، صالح لكل زمان ومكان، يمكن أن يعتنقه أي فرد أو أية جماعة داخل أي كيان سياسي مثل غيره من الأديان، وليس لهذه الجماعة أن تجعل من نفسها حربا على من تتعايش معهم، والرسول أسس أمة دينية، وليس مملكة دنيوية، هذه الأمة استخلف عليها هارون الأمة وسابقها الإمام علي، وقال بكل قوة ووضوح: "اللَّهُمَّ مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ" وذلك في واقعة هي من أشد الوقائع ثبوتًا في العصر النبوي.
وولاية الرسول على الناس مستمدة من الرسالة والنبوة، فهي ولاية دينية، وليست ملكا بأية صورة من الصور، بل إن قريشا والناس من بعدهم هم الذين اتهموه بأنه أسس ملكة، فهو بنص القرءان لم يكن عليهم وكيلا ولا حفيظًا ولا مصيطرا ولا جبارا، وهذا نفي بات لكل مقتضيات الملك أو الرئاسة الدنيوية، فحق الطاعة له على الناس كان لأنه رسول، لذلك اقترن كل أمرٍ بطاعته بهذه الصفة.
والأنصار كانوا يعلمون ذلك جيدا، واجتماعهم في السقيفة كان للتشاور في أمور مدينتهم، ولكن حضور وفد المهاجرين جعل الأمور تأخذ منحىً آخر.
وكان من أسباب تمرد القبائل العربية هو أنفتها من أن تخضع سياسيا لقريش، وكان ما سُمِّي بحروب الردة هو حروب تأسيس الدولة، والامتناع عن دفع الزكاة هو لأنهم كانوا يعلمون أنها تؤدى للرسول بصفته، فليس لحاكم قرشي أن يُطالب بها.
وكل ما حدث من بعد انتقال الرسول هو أمور دنيوية، والقوم كانوا مبتلين مثل غيرهم، ولقد حذرهم القرءان قديما مما يمكن أن يحدث بعد انتقال الرسول، قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِين} [آل عمران:144].
ولقد رفضوا وأصروا على رفض العمل بوصية الرسول، واستمروا في النظر إلى ولاية الأمر وكأنها ملك دنيوي يجب أن يظل دولة في قبائل قريش وألا يذهب إلى عترة الرسول لعلمهم بأنهم لو تولوا الأمر فلن يخرج من بينهم.
ولكن نظرًا لرفضهم العمل بوصية الرسول فقد أخذت الأمور منحىً آخر، ولم تحظ الأمة بما كان سيترتب على العمل بالوصية من أمور ذكرها لهم الرسول، وصُبغ التاريخ الإسلامي بصبغة دموية إقصائية إرهابية مازال المسلمون والبشرية يعانون منها إلى الآن.


*******

هناك تعليق واحد: