الجمعة، 28 أبريل 2017

سورة التوبة 122

سورة التوبة 122

{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون} [التوبة:122]
اتخذ حزب الشيطان من هذه الآية دليلا يوجب إحداث طبقة كهنوتية تختص بأمور الدين، ولا تسمح لأحد آخر بالحديث فيه أو حتى النظر في نصوصه وتدبرها، ومن المعلوم أن هذه الآية من آيات سورة التوبة التي نزلت من بعد أن دخل الناس في دين الله أفواجا، ولم يعد من الضروري الهجرة إلى المدينة لتقوية الأمة، كما لم يعد من الضروري خروج كل المؤمنين مع الرسول عندما يُضطر إلى الخروج لتأديب بعض المعتدين.
وبذلك أصبح من الممكن أن تكتفي كل قبيلة بإرسال جزء من قوتها -وليس كلها- لتجاهد مع الرسول ولتتعلم منه ومن المؤمنين الآخرين أمور الدين، فلم يكن هناك وسائل اتصال مثل المتاحة الآن، وهؤلاء بمجرد عودتهم سينقلون ما تعلموه للناس، ثم يعودون إلى أعمالهم، ثم في مرة قادمة سينفرون هم أو غيرهم.
فالآية لا تلزمهم باختلاق طبقة كهنوتية كالتي عند أهل الكتاب.
وبالطبع لن يعبأ أتباع المذاهب بكلامٍ كهذا يمس موارد رزق أربابهم الحقيقيين، أما هؤلاء الأرباب المزعومون فسيدافعون عن مناط جاههم ومورد رزقهم، وعندها يجب إحالتهم إلى أربابهم من (الصحابة) وإلى ما يسمونه بفهم السلف، هل سمعتم أن أحدًا من (الصحابة) قد تفرغ للتكسب بالدين و(الفقه) بعد نزول هذه الآية؟
أعيدوا الآن قراءة الآية لتعلموا أنه لو كان المقصود إنشاء طبقة كهنوتية تختص بالدين من دون الناس لأتت الصياغة مختلفة تماما.
*****
الفقه هو ملكة ذهنية مثل الفهم مجالها الدين وغيره، بل إن الناس اعتادوا أن يستعملوا كلمة "فهم" مكان كلمة "فقه"، وهذا استعمال خاطئ.
والتـفقه هو إعمال ملكة الفقه، فهو نشاط قلبي ذهني هادف يؤدى إلى فقه الدين والقوانين والسنن الشرعية والكونية واستيعابها والتمكن منها بما يزيد من تفوق الإنسان المؤمن على كل من هم من دونه.
والأمر بالتفقه في الدين يتضمن أنه يوجد أمور أخرى يجب التفقه فيها أيضًا ولا يقصر التفقه على المجال الديني، ويمكن لكل مسلم أن يستخلص هذه الأمور من القرءان، قال تعالى:
{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون} [الأنعام:65]
والتـفقه في الدين يكون بتدبر آيات الكتاب العزيز ومعرفة سننه وحِكَمه ومقاصده ومعرفة سبل تزكية النفس، وتلك هي المهام التي نيطت بالرسول بالنسبة إلي قومه ونصّ عليها الكتاب، ولقد كان المسلمون الأوائل جميعا ملزمين بأن ينفروا بمعنى أن يتركوا مواطنهم وبيوتهم ويلتحقوا بالرسول عند الحملات العسكرية إلا بإذن منه، وكان هذا أمرا معلوما لديهم جميعا، فلما كثر المسلمون وآمنت قبائل تسكن أراضي شاسعة مترامية الأطراف لم يعد ثمة حاجة إلى أن ينفروا جميعا فرخص لهم أن ينفر من كل قبيلة طائفة تصاحب الرسول في غزواته وتجاهد معه بالنفس والمال وتتعلم منه وتتزكى بالتلقي المباشر عنه وتتفقه في الدين بالمعنى الواسع للتفقه والذي يشمل آيات الكتاب والأوامر الواردة به وسلوك الرسول وسيرته وطريقته في معالجة الأمور، ولا يعنى ذلك أبدًا أن يحترف بعض الناس التكسب بالدين، ذلك لأن المقصد من التفقه هو إنذار قومهم إذا رجعوا إليهم ولا يحدث الإنذار بتعليمهم شكليات الشعائر، كما أن تلك الطائفة إنما تنوب عن باقي القبيلة ثم تنقل إليها ما تعلمته، فإذا ما تحتم القيام بغزوة أخرى فإنه يمكن أن يستبدل بهم غيرهم، فلم يكن من سنة الرسول ولم يسمح أبدا بأن يتحول الدين إلى حرفة يتكسب الإنسان منها.
فالآية لم تفتح الباب أبدا لاختلاق كهنوت ما، ولم يكن المقصود أن تتعلم الطائفة النافرة ما سيصطلح الناس في القرن الثاني أو الثالث الهجري علي أنه هو الفقه فإن الإحداث في الدين لا يسرى بأثر رجعى، والآية تلزم المسلمين إلي قيام الساعة بأن ينفروا في سبيل الله تعالي وأن يتفقه منهم في الدين كل من كان قادرا علي ذلك وأن ينفع الناس بما فقهه، والدين ليس بمحصورٍ أبدا في الأشكال الخارجية للعبادات والمعاملات والعقوبات، فالدين أعظم مدي وأرقي من ذلك بكثير، فمن أراد التفقه فيه فليتفقه في مقاصده العظمي وليعمل علي تحقيقها وليتـفقه في منظومات قيمه وسننه وليعمل علي الالتزام بها، وكل مسلم مطالب بأن يتفقه في دينه ما استطاع إلي ذلك سبيلا، وليس ثمة في الآية ما يوجب حصر التفقه في طائفة بعينها تتكسب منه وتتسلط علي الناس به، فمن مقاصد الإسلام القضاء علي الكهنوت وعلي كل ما يمكن أن يسمح باستنباته، وإن تخصص البعض في دراسة بعض الكتب التراثية لا يعطيهم الحق في فرض أنفسهم علي الناس ولا في التميز علي الناس بلباس يحسب علي الدين ولا في أن يحسبوا هم أنفسهم علي الدين دون أن يتلقوا إعدادا روحانياً كافيا، هذا مع العلم بأن معظم ما في هذه الكتب لا يصلح إلا لإيقاف عجلة التقدم وتكريس الجهل والتخلف وصد الناس عن سبيل ربهم والحيلولة بين المسلمين وبين معايشة عصرهم، وهو في نفس الوقت لا يحرك وجداناً ولا يزكي نفسا، إن الإسلام لم يأت ليستبدل كهنوتا يستعمل عمامة سوداء بآخر يستعمل عمامة بيضاء وإنما أتي ليجتث الكهنوت من قواعده وأصوله وليقضي علي كل ما يمكن أن يؤدي إلي إعادة استنباته وليقول للناس ها أنتم أولاء وربكم وهو أقرب إليكم من غيره بل من أنفسكم وهو أولي بكم من كل ما هو من دونه وهو وحده الذي يقبل التوبة عن عباده ولا شفاعة عنده إلا بإذنه أي وفق قوانينه وسننه.
ولقد جعل الكتاب التفقه في الدين مرتبطا بالخروج جهادا في سبيل الله تعالى وصحبة الأئمة المجاهدين الفائقين الصالحين، إن الآية ألزمتهم بأن ينفروا ليتفقهوا وليس بأن يجمدوا، فالتفقه في الدين يكون بالممارسة العملية والجهاد وليس بالعكوف عند قدمي شيخ لتلقى آراء الأسلاف وحواشيهم وتعليقاتهم، فالفقه يتطلب العمل والممارسة والحركة والسير في الأرض وإعمال الملكات والنظر في الآفاق وفى أنفسهم وتدبر آيات الكتاب والتفكر في السنن الإلهية والكونية، ولا يكون بالانكباب على التراث وتقليبه ولا بالتنقل من شيخ إلى شيخ ولا بالأخذ عن قائمة هائلة من المشايخ، لكل ذلك يجب القول بأن الحرية الفكرية هي الجو الأنسب والأصلح لإتمام ظهور الدين فليس لدى الإسلام ما يخشاه، والحرية هي البيئة اللازمة للتفقه الحقيقي في الدين.
ولقد بيَّن القرءان كيف يتفقه الإنسان، وها هو بيان بوسائل التفقه كما وردت في القرءان:
1-       أن ينفر الإنسان في سبيل الله تعالى ليتعلم دينه عبر الممارسة العملية وعبر التأسي بمن سيراه من الأئمة الصالحين.
2-       تدبر آيات الكتاب وإدمان النظر فيها وتلاوتها.
3-       النظر في الآيات الكونية الآفاقية والنفسية.
4-       النظر في الوقائع والأحداث التاريخية.
5-       معرفة القوانين والسنن الإلهية والكونية والاجتماعية بكل أنواعها.
*****
إنه لا ينبغي ولا يجوز للناس استخدام تلك الآية ذريعة لإيجاد طائفة كهنوتية متبعين في ذلك سنن الغابرين التي حذروا منها ونهوا عنها، إن الآية إنما نزِّلت بعد أن انتشر الإسلام وقويت شوكته وزاد عدد معتنقيه، وبالتالي لم يعد ثمة حاجة إلى حشد كل المؤمنين في كل معركة كما كان الحال من قبل بل أصبح من الممكن الاكتفاء ببعضهم، لذلك فالآية تيسر الأمر على المؤمنين ولكنها تلزمهم في المقابل بأن يخرج من كل فرقة منهم طائفة لتشارك في الجهاد مع الرسول حتى لا يفوت فرقةً ما أو قبيلةً ما هذا الشرف ولتتفقه تلك الطائفة في الدين الذي كان وفقا للطريقة الأمية يؤخذ بالتلقي المباشر من المعلم ذاته أو ممن ارتضاه أو بالتعامل المباشر مع المؤمنين الآخرين إذ لم يكن ثمة وسائل إعلام أو مدارس، ومن ثم تصبح تلك الطائفة بذلك ملزمة بأن تنقل ما تعلمته إلى الفرقة التي تنتمي إليها، ومن البديهي أنه لكل مؤمن الحق في أن يكون من الطائفة النافرة، فلا يمكن أن يكون التفقه في الدين حكرا على طائفة بعينها.
فالتفقه في الدين يؤدى إلى إدراك معانيه وقوانينه وسننه والتحقق بروحه والتحلي بقيمه وإدراك كل ما يمكن أن ينذر الناس به وكيفية تزكية نفوسهم به، ولا يعنى فقط إدراك أحكام وأشكال العبادات والمعاملات بل هو يؤدى إلى فقه مقاصدها والحكم منها.

*******

هناك تعليق واحد: