الاثنين، 10 أبريل 2017

الأمة والدولة والخلافة ج4

الأمة والدولة والخلافة ج4
الدولة
من الناحية اللغوية فالدَّوْلةُ والدُّولةُ هي العُقْبة في المال والحَرْب، فالدَّوْلة في الحرب أَن تُدال إِحدى الفئتين على الأُخرى، يقال: كانت لنا عليهم الدَّوْلة، والجمع الدُّوَلُ، والدُّولة، بالضم، في المال؛ يقال: صار الفيء دُولة بينهم يَتَداوَلونه مَرَّة لهذا ومرة لهذا.
وفي مقاييس اللغة: الدال والواو واللام أصلان: أحدُهما يدلُّ على تحوُّل شيءٍ من مكان إلى مكان، والآخر يدلُّ على ضَعْفٍ واستِرخاء.
أمَّا الأوَّل (وهو ما يلزم هنا) فقال أهل اللغة: انْدَالَ القومُ، إذا تحوَّلوا من مكان إلى مكان، ومن هذا الباب تداوَلَ القومُ الشّيءَ بينَهم: إذا صار من بعضهم إلى بعض، والدَّولة والدُّولة لغتان.
ويقال بل الدُّولة في المال والدَّولة في الحرب، وإِنَّما سُمِّيا بذلك من قياس الباب؛ لأنّه أمرٌ يتداوَلُونه، فيتحوَّل من هذا إلى ذاك، ومن ذاك إلى هذا.
أما الدولة بالمفهوم المعاصر فهي تجمع سياسي يؤسس كيانا ذا اختصاص سيادي في نطاق إقليمي محدد ويمارس السلطة عبر منظومة من المؤسسات الدائمة، وبالتالي فإن العناصر الأساسية لأي دولة هي الحكومة والشعب والإقليم، هذا فضلا عن جيش للدفاع عن هذا الكيان، وكل ذلك بالإضافة إلى السيادة والاعتراف بهذه الدولة، بما يكسبها الشخصية القانونية الدولية، ويمكنها من ممارسة اختصاصات السيادة لاسيما الخارجية منها، فالدولة تتضمن الأرض والشعب والحكومة والسيادة.
والناس يخلطون عن جهل أو عمد مفهوم الدولة بمفهوم الخلافة بمفهوم الأمة، ولم تعرف الشعوب المحسوبة على الإسلام أبدا مفهوم الدولة بالمعنى المعاصر إلا أيام محمد علي الذي أسس دولة حقيقية في مصر، وكلمة دولة ومشتقاتها مستعملة في القرءان بمعناها في اللسان العربي، فلم يكسبها أي معنى اصطلاحي، قال تعالى:
{مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [الحشر:7]، {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِين} [آل عمران:140]
وهي لم ترد في البخاري كتاب أهل (السنة) الأقدس إلا كتفسير لمسمى دائرة!! 
والدولة في التراث الإسلامي تعني التغير والتحول والتداول، وفي الفكر الغربي تعني الثبات والديمومة، فالشعوب المحسوبة على الإسلام لم تعرف هذا الكيان السياسي المسمَّى بالدولة بالمعنى المعاصر وإنما عرفوا مفهوم العائلة الحاكمة Dynasty، وكانوا يضيفون لقب الدولة إلى اسم الأسرة باعتبار أنها هي التي دال إليها الأمر، أو كانت لها الدولة على غيرها من الأسر المنافسة، أما الخاضعون لتلك الدولة فلم يكونوا شعبا بالمعنى الحديث وإنما كانوا أشياء مقهورة بالسيف لا حق لهم عند من قهرهم بسيفه، وليس لهم إلا أن يخضعوا تماما له، وقد تمَّ صياغة الأمر في عبارات مقدسة في المذهب (السني): "من قهرك بسيفه وجبت عليك طاعته، أطع الحاكم وإن جلد ظهرك ونهب مالك"، وكان أبشع أنواع القتل والمثلة في انتظار أي خارج على المتسلط المسمى بالخليفة أو السلطان.
ولقد ظهرت مذاهب عديدة لتحل محلّ الإسلام وتصد الناس عن سبيله، وكان انتشار المذهب (السني) وتغلبه هو بسبب أنه الأنسب للسلطة الغشيمة المتحكمة وليس لقوة منطقه أو حججه، وكان جعل الخضوع للمتسلط أمرا دينيا ملزما معناه القضاء على أية إمكانية للتطور السياسي لهؤلاء الخاضعين الخانعين، وكان تحويل النظام الإجرامي الدموي الاستبدادي المسمَّى بالخلافة إلى نظام مقدس أثره الكارثي على هذه الأمة وعلى البشرية جمعاء، وسيظل النظر إلى هذا النظام كمثل أعلى وكأملٍ عزيز مصدر إلهام لشياطين الإنس والجن يدمرون به المسلمين قبل غيرهم ويسعون به في الأرض فسادا ويوقدون به نيران الحروب.
ومن المعلوم أن الرسول أسس أمة، ولم يؤسس دولة بأي معنى قديم أو معاصر، أما الذي حدث من بعده في السقيفة فيًسأل عنه من تورط فيه، وعمر بن الخطاب قال عنه: "إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي تابعه تغرة أن يقتلا"!! وهذا إقرار صريح بأن أية محاولة للزعم بأن الرسول استخلف أبا بكر بالتصريح أو بالتلميح هي باطلة.
وأبو بكر لم يحتج في السقيفة على الناس بآيات من القرءان الكريم ولا بأقوال الرسول وإنما احتج عليهم بالقول "ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسبا ودارا"، فهل عرف العرب بالفعل هذا الأمر لهذا الحي من قريش؟ الذي حدث أنهم لم يعترفوا به، بل إنهم تمردوا كلهم ضده باستثناء مكة والطائف والبحرين، وترتب عليه أن تأججت نيران حروب دموية طاحنة هلك فيها الآلاف من المسلمين، وكاد يُستأصل فيها حفظة القرءان الكريم ومن كانوا أشد الناس صحبة للرسول، هذا هو ما حدث بالفعل، ولكن لا يستطيع أحد أن يحدد بيقين عواقب أي اختيار آخر!
وقول أبي بكر كان من الممكن تفنيده بعدة طرق، فإذا كانت القرابة من الرسول هي مصدر السيادة والشرعية يكون الأولى بها بنو هاشم، ولكن القرءان يقرر أن الأفضلية والأكرمية بالتقوى والعمل الصالح وأن الأمر يجب أن يكون شورى بين أولي الأمر، فكان يمكن عمل هيئة من أولي الأمر يمثلون كافة بطون قريش والأنصار وقبائل العرب الكبرى، ولم يكن يجوز ردّ مثل هذا المطلب الشرعي بقول مثل ما قال عمر: "هيهات أن يجتمع سيفان في غمد واحد"، فهذا القول ليس بآية قرءانية لُيحتج به، كما أن هذا الأمر لم يكن غريبا على البشرية، فقد كان يقود أثينا في ذروة أمجادها مجموعة، وكانت روما في ذروة أمجادها جمهورية، كان يرأس حكومة الجمهورية الرومانية قنصلان يُنتَخبان سنويًا باقتراع عامٍ يُشارك فيه جميع المواطنين، ويأخذان بمشورة مجلس الشيوخ الذي يتألَّف من مسؤولين ينتخبهم الشعب أيضا، فالقيادة الجماعية هي التي نقلت روما من مدينة صغيرة إلى إمبراطورية كبرى استمرت لقرون عديدة، والإسلام جاء ليرقى بالبشر، وليس ليؤصل الاستبداد، وهو يتحدث عن أولي الأمر كمجموعة وليس كفرد واحد ويجعل الشورى هي آلية اختيار القرار الأمثل فيما بينهم.
ولكن الذي حدث هو تأسيس دولة قرشية بالمعنى القديم للدولة، أي أصبحت الدولة والغلبة لقريش على غيرهم؛ أي كان لقريش على العرب الدولة، ولم تمد قريش حجتها إلى غايتها، بل توقفت فقط عند قريش كقبيلة مع الإصرار على استبعاد أقارب النبي حتى يظل الأمر دولة بين بطون قريش، ولكن الذي حدث تدبير أكابر القرشيين انقلب عليهم، وكانت الدولة للأمويين؛ أشد بطون قريش دهاءً ومكرا ومكيافيلية ونفاقا وتحللا من مثل الإسلام وقيمه، وهذا كان أمرا طبيعيا ونتيجة متوقعة، وتم القضاء على كل قرشي حاول منافسة الأمويين، ولم يبق منهم إلا من قبل أن يكون طوع أمرهم أو من كان طامعا في شيء من أموالهم التي نهبوها من الناس.
فما سُمِّي بحروب الردة كان في الحقيقة حروبا ضد رفض العرب والأعراب الخضوع لسلطة مركزية واحدة وإلى شخص واحد، ولم يتم إقناع العرب والأعراب بالرضوخ لقريش إلا باللغة التي كانوا يفقهونها ويقرونها بل ويقدسونها؛ لغة القوة، وهذا الأمر هو ما يلزم أي قطيع بدائي، بل هو ما يلزم أي قطيع بصفة عامة كما هو معلوم، وذلك لازم من أجل البقاء والتطور.
وبانتصار قريش صارت لهم الدولة بالمعنى اللغوي المشار إليه، وعندما انتصر المسلمون بقيادة خالد بن الوليد على الفرس ووصلت الغنائم الهائلة المذهلة إلى المدينة جمع أبو بكر القرشيين وقال لهم: "يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، عَدَا أَسَدُكُمْ عَلَى الأَسَدِ فَغَلَبَهُ عَلَى خَرَاذِيلِهِ، أَعَجَزَتِ النِّسَاءُ أَنْ يُنْشِئُوا مِثْلَ خَالِدٍ " فأرجع سبب النصر إلى مهارة واقتدار "أم خالد" القرشية في إنشائه!!!
وقد صار الأمر كما أرادت قريش، وسنَّ عمر بن الخطاب سنة توزيع الأموال طبقا للأسبقية في دخول الإسلام فتكدست ثروات العالم القديم التي تمَّ نهبها في بيوت أكابر القرشيين، وعندما أدرك خطورة ما حدث أزمع على إعادة توزيع الثروة فتم اغتياله في مؤامرة لم تنكشف كل خيوطها إلى الآن.
وهذا بعض ما قيل عن ثروات بعض أهل القرن الأول:
عثمان بن عفان: كان له يوم مقتله ثلاثون مليون درهم وخمسمائة ألف درهم ومائة ألف دينار، بالإضافة إلى ما قيمته مائتا ألف دينار من الاصول.
الزبير ابن العوام: كان لديه 35 مليون درهم ومائتا ألف دينار، ويقال 51 مليون درهم او 52 مليون درهم، بالإضافة إلى مساكن وعقارات وخطط في الفسطاط والاسكندرية والبصرة والكوفة، كما ترك غابة او بستانا هائلا.
عبد الرحمن بن عوف: ترك ذهبا كانوا يقطعونه بالفؤوس حتى محلت أيدي الرجال منه.
طلحة بن عبيد الله: كان إيراده من أرضه في العراق ألف درهم يوميا أو ما بين 400 الي 500 ألف درهم سنويا في رواية اخري، وترك بعد موته 2.2 مليون درهم ومائتي ألف دينار، وترك أصولا وعقارات بثلاثين مليون درهم، وترك مائة بهار مليئة بالذهب في كل بهار ثلاثة قناطير أو اثنين من الارادب، أي ترك 300 أردبا ذهبا أو 200 قنطار ذهبا، هذا ما جاء في طبقات ابن سعد والمسعودي؛ مروج الذهب.
عمرو بن العاص: ترك عند موته سبعين بهارا من الذهب، أي 210 قنطارا او 140 أردبا من الذهب، وأثناء احتضاره عرض هذه الاموال على أولاده فرفضوا وقالوا: حتى تعطي كل ذي حق حقه، فلما مات عمرو صادر معاوية هذا المال وقال "نحن نأخذه بما فيه" أي بما فيه من سحت وظلم، (خطط المقريزي).
ويذكر المسعودي في مروج الذهب أن زيد بن ثابت ترك من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس سوي الاموال والضياع، ومات يعلي بن امية وخلف خمسمائة ألف دينار وديونا على الناس وعقارات تبلغ 300 ألف دينار.
وبالطبع فإن ثروات الخلفاء الأمويين مثل معاوية والمروانيين كانت أكبر من ذلك بكثير، فقد كان بيت مال الأمة ملكا شخصيا للخليفة نفسه ينفق منه كيف يشاء.
فالثروات الهائلة التي ذكرتها المراجع التاريخية لبعض (الصحابة الأجلاء) من أهل القرن الأول تثبت أن ما تم نهبه من أموال وثروات الأمم المفتوحة قد تحول الي أطنان من الذهب لدى أفراد قلائل، ولا توجد أية مبالغات في الأرقام المذكورة في أمهات كتب التاريخ (الإسلامي)، وربما كانت أقل من الواقع بكثير، فقد كان منطقة الشرق الأوسط هي أغنى بقاع الأرض وأكثرها تقدما وأعرقها حضارة، ولقد تراكمت ثروات هائلة لدى إمبراطوريتي فارس والروم العريقتين، ولقد قيل إن سعد بن أبي وقاص وجد في خزائن كسرى ثلاثة آلاف ألف ألف ألف دينار؛ أي ثلاثة آلاف مليار دينار (الدينار = 4.25 جرام من الذهب)، هذا فضلا عما لا حصر له من الجواهر والسجاد والأمتعة وما وجدوه في قصور الأمراء والنبلاء .... الخ، أما عن السبايا الفارسيات فلم يكن يحصيهن العدد، ولقد احتل العرب مساكن الناس وطردوهم منها!!! وتم توزيع أراضي العراق على كبار القرشيين بالأمر المباشر من عمر بن الخطاب أو عثمان بن عفان، فقد كان للخليفة أن يوزع الأراضي والإقطاعات على من يشاء وأن يحرم من يشاء دون خوفٍ من رقيب أو حسيب.
أما جباية العراق فقيل إنها كانت مائة مليون درهم (الدرهم = حوالي 3 جرام من الفضة)، ومصر قيل إنها كانت 14 مليون دينار ذهبي، كل ذلك كان يتم توزيعه على العرب والأعراب وفقا لتراتبية ثابتة؛ أسبقية اعتناق الإسلام، وبذلك تمَّ إفساد مَن مِن المفترض أنهم كانوا الأفضل والأعلم إلا قليلا ممن أنجى الله منهم!! ولم يكن ذلك بالطبع مقصودا.
أما ما استولوا عليه من النساء والأموال من بلاد الأمازيغ والأندلس فلا يمكن إحصاؤه!
من يعلم ذلك عليه أن يشكر لله أن وصل إلينا القرءان سليما رغم كل المحاولات للإضافة إليه أو للحذف منه! فقد كانت فتنة لم ينج منها إلا القليل الذي يكفي لحفظ القرءان بالكاد!
ويجب مع ذلك العلم بأن الصراع بين الدولة الإسلامية الوليدة من ناحية وبين إمبراطورية الفرس من ناحية أخرى كان صراعا مصيريا، ولم يكن من الممكن أبدًا تجنبه، وقد تمَّ وفق منطق العصور الوسطى، يجب دائمًا أخذ ذلك في الاعتبار.
وقد تسببت هذه الأموال والانحراف عن العدالة في التعامل معها في إشعال نار الفتنة بين أهل القرن الأول رغم ما كان بينهم من قرابة وزمالة جهاد، فانتهي بهم الأمر الي العداء والاقتتال، خاصة وأنه كان من بين أهل القرن الأول من رفضوا هذا المسلك وهذا التوزيع غير العادل للثروة وحاول إرجاع الأمر الي ما كان عليه في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، وكان على رأسهم الإمام علي بن ابي طالب الذي عانى في خلافته الشاقة العسيرة التي استمرت حوالى 5 سنوات، وكانت تركته 700 درهم فقط ويقال 600 ويقال 250 درهما، وهذا هو الفارق بين لم تفتنه الدنيا أو تغره وبين من تنافسوها وقاتلوا دفاعا عما اكتنزوا من الاموال الحرام، وحقّ له أن يقول:
"إليك عنّي يا دنيا، غرِّي غيري، إليَّ تعرّضت أم إليَّ تشوّقت؟ هيهات هيهات! فإنّي قد طلقتك ثلاثًا لا رجعة لي فيك؛ فعمرك قصير، وخطرك كبير، وعيشك حقير".
وبالطبع كان لنظام التراتبية الذي أحدثه عمر لتوزيع أموال الأمم المنهوبة وتشبث به عثمان وزاده فسادا الأثر الأكبر في ظهور طبقة كانزي الأموال في الأمة، وكان من الأسباب أيضًا عملية توزيع الأموال ذاتها، فهي مجرد تعميم للتقاليد الأعرابية القبلية، فهي ليست عملية خليقة بأمة تحمل رسالة إلى العالمين، وكان من الأولى بالطبع استعمال هذه الأموال لتقوية بنيان الأمة وتحصين مكة والمدينة، وكان من الممكن الاستعانة بخبرات الأمم المتحضرة لضمان حسن استثمار هذه الأموال بدلا من سياسة التوزيع الساذج على العرب والأعراب.
وكان ذلك من أسباب الفتن التي عصفت بالأمة وراح ضحيتها بعض أكابر السابقين الأولين وأدت إلى استيلاء أهل البغي والمنافقين على السلطة وقيامهم بالقضاء على خير أمة أُخرجت للناس وبمحاولة القضاء على الإسلام نفسه باجتثاثه من جذوره، ولكنهم فضلوا الإبقاء عليه مع تحويله إلى أيديولوجية للتوسع الإمبريالي الاستيطاني.
ولا يمكن أن يكون الإسلام مسؤولا عما حدث بالمخالفة عن أوامره، وكذلك لا يمكن تحويل المخالفين إلى أرباب معصومين، فالإسلام جاء ليضع المظالم والآصار والأغلال عن كاهل الناس وليس ليستبدل ظلما بظلم ولا ليوقد نيران الحراب ويمكن للمفسدين في الأرض أو يعمم الفساد على أوسع نطاق.
وكان يكفي تماما تحطيم قوة الفرس والروم ثم تحقيق العدالة الشاملة للشعوب التي تحررت من نيرهم، ولم يكن يجوز أبدًا نهب أموالهم وتوزيعها على فئة قليلة من الناس، كما لم يكن يجوز سبي نسائهم ولا تقسيم أراضيهم على الغزاة.
وجاء عثمان وحقق للقرشيين فوق ما تخيلوه، ولكن بدأ يتحقق أيضًا أسوأ ما تخيلوه وهو بدء استئثار الأمويين الفاسقين بالأمر بكل فجر وتبجح، غلبوا عثمان على أمره واستبدوا بالرأي من دونه وسعوا في الأرض فسادا، ولم ينل عامة العرب والأعراب -وكانوا هم مادة الحروب والغزوات- ما يظنون أنهم يستحقونه من الثروات الهائلة التي تدفقت على المدينة، لم ينل العرب والأعراب الذين استقروا في البلدان المفتوحة ما كانوا يتطلعون إليه، إذ كان همّ الولاة إرسال أكبر قدرٍ منه إلى الخليفة حتى لا يعزلهم مثلما فعل مع قادة الفتح الأصليين مثل عمرو بن العاص، أدرك أكابر القرشيين أن آمالهم في تولي السلطة من بعد عثمان ستتبدد، وهكذا أصبح المجال مهيأً تماما لثورة يشترك فيها القرشيون والأعراب ومسلمو البلدان المفتوحة، ولم يكن الأمويون مستعدين للتخلي عن أي شيء من مكاسبهم فدفعوا بعثمان إلى مصيره المحتوم ليتاجروا بقميصه من بعد.
وعندما قبل الإمام علي أن يتولى الأمر بناءً على إلحاح شديد من قادة الثورة كان من الطبيعي أن يثور ضده قادة الحزب القرشي، فقد كان هذا دائما أخشى ما كانوا يخشونه، فثرواتهم في هذه الحالة ستكون مهددة، هذا بالإضافة إلى إنهم كانوا يعتقدون أنه لو ذهب الأمر إلى بني هاشم فلن يخرج منهم، كانت هذه عقيدتهم المركزية Their core tenet، وكانوا على استعداد للقتال لمنع تحقيقها حتى آخر قطرة من دمائهم، ولكنهم لم يكونوا على دراية بكل أبعاد الأمر، وأنه لن يستفيد في النهاية من كافة جهودهم إلا خال المجرمين وإمام أهل البغي والداعين إلى النار القابع في دمشق.
أما الأنصار فقد كان مصيرهم أسوأ مما كان يخشاه الحباب بن المنذر عندما صرخ فيهم قائلا في السقيفة لما رأى تخاذلهم واختلاف أمرهم: "أما والله لكأني بأبنائكم على أبواب أبنائهم قد وقفوا يسألونهم بأكفهم ولا يسقون الماء"، وقوله لأبي بكر: "إذا ذهبت أنا وأنت جاءنا بعدك من يسومنا الضيم"، والذي حدث أنه جاءهم من سامهم القتل وانتهاك الأعراض، وليس الضيم فقط!
أما قول أبي بكر لهم: "فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا نفتات دونكم بمشورة ولا تنقضي دونكم الأمور" فقد علم الناس مصيره!
فلما آل الأمر إلى الأمويين أي كانت لهم الدَّوْلة على الآخرين نشأ نوع من السلطة المركزية جمع بين مساوئ الحكم البيزنطي وبين مساوئ جاهلية الأعراب، وبدأ تحريف الدين على نطاق واسع ليظل الحكم في الأمويين إلى الأبد، ولذلك ومِن ذلك كان المتسلطون يُلقبون بخلفاء الله وأمراء المؤمنين، قال الشاعر النصراني الأخطل مادحا عبد الملك بن مروان؛ أحد أكابر المجرمين والمفسدين في الأرض:
إلى امرئٍ لا تعدّينا نوافلهُ---أظفرهُ اللهُ، فليهنا لهُ الظفرُ
الخائضِ الغَمْرَ، والمَيْمونِ طائِرُهُ----خَليفَة ِ اللَّهِ يُسْتَسْقى بهِ المطَرُ
ولو قال "يُستمطَر به الحجر" لكان أصدق!
ولكن كل الناس كانوا يئنون تحت وطأة التسلط الأموي الغشيم، ولم تهدأ أبدا الثورات ضدهم رغم أن الأمويين حاولوا التخلص من الناس بقذف البلدان القاصية شرقا وغربا بهم، وفي النهاية تغلب عليهم العباسيون وأبادوهم، ولكنهم فيما يتعلق بنظام الحكم بدأوا من حيث انتهى الأمويون، وقد أضافوا إلى مقومات نظامهم ما أخذوه عن الفرس، ودخل في خدمتهم صنف من رجال اللادين أكملوا صياغة المذهب الذي بدأه رجال دين الأمويين، واصطبغت الدولة بصبغة ثيوقراطية.
وعندما تحول الخليفة إلى دمية بأيدي الجند المرتزقة واستقلت الأمصار صار مجرد رمز، أصبح الأمر أشبه بنظام عصبة الأمم، ولكنها الأمم المتنافرة المتناحرة، فكل متسلطٍ في بلدٍ ما كان يناصب كل ما يجاوره من دويلات العداء، وعندما كان أحد مؤسسي الأسر الحاكمة يموت كان أبناؤه وورثته يقتسمون الأراضي التي استولى عليها ثم ينخرطون فورا في صراع معقد ومرير مثلما حدث في الأسرة الأيوبية، وكان بعضهم يستعين على البعض الآخر بالصليبيين الذين ما استولوا هم على السلطة إلا بحجة محاربتهم!!! 
ولكن المشكلة هي فيمن صوَّر للناس أنه كان يوجد نظام ملائكي للحكم اسمه الخلافة، وأن إقامة هذا النظام تقتضي البدء بإبادة كل المسلمين الآخرين، وقد غرهم بعض الانتصارات العسكرية التي حققتها الأسر المتسلطة على الأمم الأخرى في فترات ضعفها، وهم يتجاهلون حقيقة أن كل هذه الأمم قد استيقظت واستطاعت أن تقتص لنفسها.
ومدرسو التاريخ في كل ديار همجستان يقصون على الصبية بكل فخر قصة الاعتداء الأموي السافر على إسبانيا وغيرها دون أن يقصوا عليهم الآثار البعيدة لهذا الاعتداء والتي لا يزالون هم يدفعون ثمنها باهظا!
وقد كان استيلاء عبد الله بن الزبير على السلطة في الحجاز من بعد انهيار دولة معاوية آخر محاولة قرشية لاسترداد السلطة من الأمويين، وقد حدث الانهيار بعد تخلي معاوية الثاني حفيد معاوية عن السلطة وإقراره بأخطاء وجرائم أبيه وجدِّه، وبانهيار الدولة الأموية الأولى التي أقامها معاوية ذهبت جهوده ليبقى الحكم في أسرته سدى، وأعلنت الأمصار استقلالها أو بايعت عبد الله بن الزبير، لم يبق للأمويين غير الشام فقط، بل كان الشام منقسما وكان يوجد فيه حزب موال لعبد الله بن الزبير.
بعد تخلي معاوية الثاني عن السلطة أُسقط في يد هيئة المنتفعين بالحكم الأموي، ولكنهم وجدوا ضالتهم في الوزغ الشهير مروان بن الحكم (طريد الرسول) الذي كان أهل المدينة قد أخرجوه هو وعائلته من المدينة، تم تعيينه خليفة، أفلح في ضم مصر إلى إمبراطوريته، وكان ذلك يعني عمليا أنه سيتغلب حتما على أعدائه.
كان ابن الزبير قد أرسل أخاه مصعب إلى العراق، ولو كان يفقه لتحالف مع ثوار العراق ضد الأمويين، اقترف هناك مجازر مروعة وغير مبررة ولا حاجة لها في شيء، أكسبته هذه المجازر عداء الناس، لذلك تخلوا عنه عندما هاجمه المروانيون.
تجسدت في ابن الزبير بحكم شخصيته مزايا ومساوئ القرشيين، كان كفرد هائل القوة، وكان شديد الولاء لقضية الحزب القرشي كارها بشدة لبني هاشم ويتمنى أن يقضي عليهم، وكان شديد البخل ولا يعرف فن قيادة الرجال ولا الاستفادة من الفرص السانحة، ولو خرج إلى أحد الأمصار الغنية لما انهارت دولته بهذه السرعة وبهذه الطريقة المهينة.
وبقتل ابن الزبير وصلبه انتهت آخر آمال القرشيين في تولي السلطة، وأصبحوا في كل ثورة من بعد ذلك أنصارا لبني هاشم!!!!!

*******

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق