الاثنين، 10 أبريل 2017

الأمة والدولة والخلافة ج3

الأمة والدولة والخلافة ج3
حقيقة الخلافـة

 

إن الله تعالى هو الذي له الكمالُ المطلقُ الذي من لوازمه الأسماء الحسنى، والإنسان قد جُعل خليفةً في الأرض بسبب قابليته لتعلم الأسماء وقبول آثارها والإظهار التفصيلي لكمالاتها، لذلك فهو مستخلف في الصفات التي تشير إليها الأسماء الحسنى، وعليه أن يظهر بآثارها بالنسبة لغيره من البشر ولما هو دونه من كائنات الأرض، فهو بذلك مأمور بالاتصاف ما أمكن بصفات الكمال الممكن، وأصل تلك الصفات هو الأسماء الحسنى، فعلى سبيل المثال عليه أن يظهر بالحكمةِ والعلم والرحمة واللطف والود لتلك الكائنات، ومن لوازم الاستخلاف أن يتعرف الإنسان على ما جُعِل مستخلفا فيه وأن يعظم ما استخلفه ربُّه فيه، فذلك إجلال لمن استخلفه وشكر لعظيم نعمته، ولا يليق بمن تلقى إحسانا كبيرا أن يعرض عما تلقاه أو أن يزدريه أو ألا يأبه به فإن ذلك من إساءة الأدب مع الرب الجليل الذي سخر كل شيء للإنسان وأسجد له ملائكته وطرد من أبى السجود له، فالإنسان مطالب بأن يعلم ما هو مستخلف فيه وبأن يقوم بواجبات الاستخلاف ومقتضياته وإلا فإنه يخلع نفسه بنفسه ويتحول إلى دابة من الدواب التي كان عليه أن يقوم بحقوقها.
والاستخلاف في الأرض يقتضي أن يحترم الإنسان كل صور الحياة وكل ما خلقه الله تعالى وأن يتعرف عليه وأن يطالع آيات الله تعالي فيه، ويترتب على ذلك ضرورة الإحجام عن الإفساد في الأرض، قال تعالي: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ(56)} (الأعراف)، {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(85)} (الأعراف)، {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ(205)} (البقرة)، والكف عن الإفساد في الأرض يقتضي الكف عن الإسراف في الصيد أو إبادة دواب الأرض بدون مبرر أو حق، كما أن عليه ألا يضيِّق على تلك الدواب أسباب عيشها وموارد رزقها بتجفيف الأنهار وإبادة الغابات، وعليه أيضا ألا يقدم على ما من شأنه الإخلال بالتوازن البيئي، وكذلك عليه أن يرحم دواب الأرض التي يستأنسها وأن يوصل إليها رزقها برفق، كما أن عليه الحفاظ على البيئة وعلى نباتات الأرض، فالعدوان منهيٌّ عنه نهياً باتاً، والإفساد في الأرض بتلويث البيئة والقضاء على موارد الأرض هو عدوان بشع على حقوق الأجيال القادمة من البشر فضلا عن حقوق سائر الكائنات الأرضية، والله سبحانه الذي خلق كل شيء وأتقن صنعه لا يحب من يفسدُ ما خلق.
*******
الرفق بدواب الأرض
إن الرفق بدواب الأرض هو من لوازم تحقيق المقصد الديني الأعظم الخاص بالإنسان فهو من مقتضيات قيام الإنسان بحقوق الخلافة، فعلى الخليفة حقوقٌ تجاه كل ما هو مستخلف فيه، ولقد استخلف الله سبحانه الإنسان في الأرض، وذلك يرتب علي الإنسان حقوقاً تجاه كل ما خلقه الله فيها من كائنات حية وجمادات، فهو مطالب بأن يعامل دواب الأرض بالرحمة فيحسنُ إليها، ولا يضيق عليها أسباب عيشها، وكذلك هو مطالب بمعرفة الحكمة من وجودها ومطالعة آيات الله فيها، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ(38)} (الأنعام).
ولذلك وجب على أمة الإسلام من حيث أنها خير الأمم أن تكون كذلك في التعامل مع دواب الأرض وطيور السماء، لقد صرحت الآية بوضوح أن كل الدواب والطيور هي أمم أمثالنا فتأمل قوله تعالى: {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} فإنه يستحث الإنسان على أن يعاملها بما يرتضيه لمن هو مثله، وفي هذا القول أيضا بيان بأن دواب الأرض تشبه الإنسان، وبالتالي يمكن للإنسان بدراستها أن يزداد معرفة بنفسه وبجسمه، وفيه أيضاً بيان بأن لكل أمة من الدواب خصائصها المميزة وعلومها الفطرية والتي يمكن للإنسان أن يفيد منها لو عرفها ودرسها، ولو تنبه السلف إلي ذلك لتحقق لهم الوعد الإلهي: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(53) (فصِّلت)}، ولتحققت الطفرة العلمية الهائلة علي أيديهم لا علي أيدي علماء الغرب، وهناك تهديد مبطن في قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}، أي أن لهذه الأمم من الدواب والطيور ربا يرجعون إليه فهو قائم بمصالحهم يمدهم بما يحفظ عليهم أسباب وجودهم، وهو لا يرضى لهم أن يعاملوا بقسوة كما لا يرضى لهم الظلم، هذا الرب هو رب كل شيء وخالق كل شيء وهو الرحمن الرحيم.
ولقد رويت أحاديث عديدة تأمر بالرفق بالحيوان وتبشر من يحسن معاملته بالغفران والنعيم المقيم وتنذر من يسئ معاملته بالعذاب الأليم، كما أن الإنسان برفقه بالحيوان إنما يعمل لما فيه صلاح أمره فإن القضاء على بعض الدواب استجابة للمعايير والموازين والمقاييس البشرية القاصرة هو من باب الإفساد في الأرض، وسيكون الإنسان أول من سيدفع ثمن ذلك غاليا، ويجب العلم بأن الرفق بالحيوان وحسن معاملته هو من مقتضيات أسماء إلهية عديدة مثل الرحمن والرحيم والرحمن الرحيم والرحيم الودود والرءوف الرحيم واللطيف، ولذا فبالرفق بدواب الأرض يرقي الإنسان وتسمو ملكاته الوجدانية، فالمسلم مأمور بالرحمة بالدواب والرفق بهم من حيث:
1-       أنه خليفة في الأرض فهو متخلق بأخلاق من استخلفه من رحمة ورأفة ورفق.
2-       أن دواب الأرض وطيور السماء هم أمم أمثالنا فلها علينا حقوق الأمم فيجب كف البأس عنها وعدم العدوان عليها كما يجب رعايتها والرأفة بها.
3-       أن إبادة الدواب وسفك دمائهم بلا مبرر هو من الإفساد في الأرض المحرم تحريما قاطعا.
4-       أن الحفاظ على دواب الأرض هو من الإصلاح في الأرض وإعمارها.
5-       أن كل فعل يصدر عن الإنسان من حيث التزامه بما سبق سيعود نفعه عليه في الدنيا وسيؤدى إلى رقي باطنه بما يرفع درجته في الآخرة.
6-        أن كل دابة في الأرض هي آية من آيات الله تعالى يجب النظر إليها ومعرفتها ودراستها.
7-       أن الله تعالى لم يخلق شيئا عبثا وإنما بالحق.
فيجب العلم بأن الله سبحانه ما خلق شيئا إلا بالحق، ولقد سميت سور عديدة في الكتاب بأسماء دواب الأرض مثل البقرة والأنعام والنحل والنمل والعنكبوت والفيل، وأخبر سبحانه بأنها تسبح بحمده وأنه يوحى إليها، كذلك أمر بالنظر إلى الإبل وأقسم بالعاديات ضبحا، وكل ذلك تنويه بشأن ما خلق الله تعالي من الكائنات، ولذا فالقيام بحقوق دواب الأرض هو من التعبد لمن خلقها واعتني بأمرها.
إن الخليفة يجب أن يتحلى بكل مقتضيات الأسماء الحسنى وأن يتطهر من كل ما يناقضها، لذلك وجب عليه الرحمة والرأفة والرفق بكل دواب الأرض.
*******
مقتضيات الاستخلاف تجاه ما في السماوات والأرض والجماد
إن ما يسميه الإنسان جمادا في السمـوات والأرض إنما هو مسبح بحمد ربه ساجد له، وهو من آيات الله تعالى التي أمر بمعرفتها والنظر إليها وتدبرها والتفكر في خلقها، ولقد سميت بعض سور الكتاب بأسماء تلك الجمادات مثل الطور والحديد والشمس والقمر، وكذلك سميت سور عديدة في الكتاب بأسماء الظواهر الطبيعية في السمـوات والأرض مثل: الرعد والذاريات والنجم والتكوير والبروج والفجر والليل والضحى والعصر، كما أقسم سبحانه ببعض هذه الظواهر التي هي من آياته التي أمر الناس أن ينظروا إليها وأن يتفقهوا فيها وأن يروا فيها مقتضيات أسمائه الحسني وصفاته.
فللجماد على الإنسان حقوق باعتباره من آيات الله تعالى التي أبدعها وجعلها دالة على أسمائه وباعتبار أن الإنسان مستخلف في الأرض مأمور باستعمارها وإصلاحها ممنوع من الإفساد فيها، إن الإفساد في الأرض يؤدي إلى اختلال الميزان الذي وضعه الرحمن فمن سعي إلي الإفساد ارتضي أن يكون كالشيطان، والانتهاء عن الإفساد في الأرض هو من مقتضيات مقاصد الدين العظمى فالإنسان مستخلف في الأرض وكل ما هو فيها مسخر له، ولذا فمن السفه أن يفسد فيها وأن يقضي بنفسه على مقومات وجوده وأسباب رزقه ومجال خلافته وأسباب بقاء ذريته، والإفساد في الأرض يعنى ارتكاب أي شيء من شأنه الإخلال بالتوازن البيئي كإبادة أمم من الدواب أو الحشرات أو تجفيف الأنهار أو تلويث البيئة أو إبادة الغابات...الخ.
أما حق ما في السمـوات من أجرام لا يملك الإنسان لها ضرا أو نفعا وكذلك ما يحدث فيها من ظواهر فهو أن يعرفها وأن يفقه القوانين التي تسيرها حتى يستمد من ذلك مزيدا من العلم بآيات ربه، إن ما في السمـوات وما في الأرض هي الأسباب التي ترتب عليها الوجود الإنساني ولذا فلها على الإنسان حق الأسباب على النتائج؛ فعليه ألا يفسد فيها وعليه أن ينظر ما في السمـوات وما في الأرض من آيات ربه.
*******
القرءان هو المصدر الأوحد للمصطلحات الدينية، ومفهوم مصطلح الخلافة في القرءان لا علاقة له بالمفهوم الذي أحدثه الناس من بعد ثم فرضوه على الإسلام والمسلمين، هناك خلافة عامة لكل إنسان من حيث هو إنسان، وخلافة خاصة للذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا توجد خلافة لشخص بعينه بمعنى أن يكون حاكما مطلقا على الناس كما حدث من بعد السقيفة إلى الآن باستثناءات قليلة، أما استخلاف شخص بعينه فيكون بالجعل الإلهي مثلما حدث مع داود عليه السلام، وكان نبيا، أو تكون بنص صريح من الرسول النبي في مهمة محددة مثلما حدث مع هارون عندما استخلفه موسى في قومه، ومع عليّ بن أبي طالب عندما استخلفه الرسول في الولاية الدينية وولاية أمر الأمة (وليس حكم دولة).
والاستخلاف لا يضمن أية عصمة من الخطأ أو الذنوب للمستخلف حتى وإن كان نبيا، قال تعالى:
{يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَاب} [ص:26]
فهذا الكلام الموجه إلى نبي وما فيه من تحذير ونهي وتهديد لم يكن عبثا، وقال تعالى:
{.....وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين} [الأعراف:142]
وبالطبع لم يكن هذا الكلام بما فيه من أمر ونهي وتحذير عبثا.
وكل أقوال منسوبة إلى الرسول تتضمن المفهوم المحدث والخاطئ للخلافة لا تصح نسبتها إليه وهي أقوال باطلة بطلانا تاما!
وقد أثبت التاريخ دائما أن أي اعتداء على مصطلح قرءاني تكون عاقبته وخيمة ويترتب عليه هلاك الملايين ممن يتبعونه ويتمسكون به! ذلك لأن أخذ الله تعالى أليم شديد!
*******
إن المشكلة هي في ظنكم أن الرسول كان ملكًا أو إمبراطورا على مملكة أو إمبراطورية، بل أنتم ترددون ما قذفه به أعداؤه ونفاه عنه وبرأه منه ربه، فهو لم يكن عليهم حفيظا ولا مصيطرا ولا جبارا ولا وكيلا ولا ملكا ولا إمبراطورا، الرسول أسس أمة لها ولي أمر ديني، واستخلف الإمام عليّا في ولاية الأمر على هذه الأمة، وليس ليكون حاكما مطلقا Absolute ruler، ولا ليكون ملكا بالحق الإلهي Divine right of kings، ولا ليؤسس حكومة دينية Theocratic government، ولو كان يريد تأسيس أسرة حاكمة لقبل بالعرض القرشي في مكة، ولما كانت الحروب والمعاناة الطويلة.
أما سياساته مع غير العرب فمعروفه: إرسال رسل مسالمين بخطابات منه لدعوة ملوكهم وعظمائهم إلى الإسلام، فإن تولوا فإنه كان يشهدهم على إسلام الأمة. 
وقد ترك أمته إلى أنفسهم يدبرون أمورهم بأنفسهم، بعد أن علمهم وزكاهم، وهو لم يكن أباهم ليتركهم صبية بلا عائل، ليتساءل بعضهم: هل من المعقول أن يتركهم هكذا بلا وريث، لم يكن تعيين وريث من مهامه أصلا، وهو لم يكن ملكا ليورث الأمة لأحد من بعده.
كان للرسول حق الطاعة على الناس كنبي مرسل، وكان رفض طاعته يعتبر إثما دينيا من كبائر الإثم، ووجود آيات تأمر بطاعته من حيث أنه رسول تنفي تماما أية سلطة له على الناس خارج إطار الرسالة والنبوة، كان يكفي أن ينص القرءان على أنه ملك مثلا أو زعيم دولة لتجب عليهم طاعته بلا وجود حشد من الآيات يأمر بطاعته ويحذر من المخالفة عن أمره، مهام الرسول محددة بعناية في القرءان، وليس منها أبدا تأسيس دولة ولا حكم دولة بالمعنى القديم أو المحدث، وهذا ما يتسق تماماً مع سمات الإسلام كدين عالمي خاتم لا يجمد ما هو بحكم طبيعته سيال متطور، مهمة الرسول كانت إعداد أمة مؤمنة عن طريق الدعوة والتعليم والتزكية!
وقد قال الله له: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ، فهذا القول القرءاني ينفي تماما أية سلطة له خارج نطاق الرسالة.



*******

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق