والكريم
هو الجميل من حيث الذات ومن حيث الأسماء والأفعال والسمات، لذلك فهو سبحانه الذي
بتجلياته يأخذ بالألباب ويأسر القلوب ويذهل العقول وينطق الألسن بالثناء عليه
والتسبيح بحمده، فتسجد له اللطائف والكثائف والمعاني والمباني.
ومن حيث الاسم "الكريم" فكل ما
اقتضاه الله تعالى جميل، وما اقتضاه هو الآيات والقوانين والسنن، فمن فقهها سيذهله
جمالها، وهو الذي له الكمال وتفاصيله وتجلياته ومقتضياته من مكارم الأخلاق
والمعاني والآثار، فالصفة إنما تشرف به إذا نسبت إليه، وهي إنما تكتسب معناها
وتتعين بهذا الانتساب، وهو الذي له الكمال المطلق الجامع لا بمعنى أنه جامع لأشتات
الكمال بل لأن كل كمال ظهر أو سيظهر إنما هو من مقتضيات وتفاصيل ومظاهر كماله الذي
جلّ عن الإدراك والوصف.
ويشير
الاسم الإلهي "الأكرم" إلى أفضلية الله المطلقة على كل ما هو من دونه من
حيث سمة "الكرم"، فهو الأكرم مطلقا، وهو الأكرم عند مقارنته بالكيانات
الأخرى أو بمن أظهر بهم سمته تلك، فهو يشير إلى شدة ظهور السمة، وأشد ظهور لها هو
في الإنسان، ولذا خلقه بيديه وعلمه البيان، وجعله الخلاصة وسخر له الأكوان، وأسجد
له الملائكة وكرَّمه وحرَّم أن يهان، وباسم الله الأكرم ينبغي للإنسان أن يقرأ
القرءان.
والاسم
"الأكرم" هو الذي اقتضي أن يكون التفاضل بين الناس والأكرمية بالتقوى،
ذلك لأن التقوى هي جماع كل ما يجب أن يتحلى به قلب الإنسان من مكارم الأخلاق التي
هي من مقتضيات الأسماء الحسني.
*****
ومن حيث البِنْية اللغوية: "كريم" صفة مشبهة
للمتسم بالكرم، على وزن فعيل من الفعل كرُم.
والفعل كرُم هو من الأفعال التي تشير إلى
السمات الذاتية اللازمة، أي التي هي للكيان الذاتي الإلهي، فهو يشير إلى أنه أصل
الحسن والكمال ومكارم الأخلاق، وخاصة سمات الحسن التي تجتذب القلوب، وسمة الكرم
متعدية بالضرورة، فلها تجلياتها التي لا تتناهى.
والرمز
يشير إلى أن كل سمات الكمال مترتبة في أنساق متتابعة للمحكم فيها التقدم على
المفصل وهذا يقتضي توالي وتتابع ظهورها وتفصيلها، وهذا هو أصل ظهور كل شيء،
والتفصيل مستمر إلى أن يتم الظهور؛ لذلك فلا نهاية له لأن تفاصيل الكمال المطلق لا
تتناهي، وكذلك التجليات مستمرة ليعود كل فرع إلى أصله وكل جزء إلى كله وكل آخر إلى
أوله، وتمام ظهور تاصيل الكمالات يتصل بها في إحكامها الأولي، فالاسم بذلك هو حلقة
إلهية محيطة بكل ما هو من دون الله من عالمي الخلق والأمر.
والاسم
"الكريم" يقتضى أن الحياء له، وأن الحياء منه، ولذا كان منه هذا العتاب
المؤثر: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)الَّذِي
خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)}
(الانفطار)، أي: أما كان لك أن تستحي من ربك وقد خلقك فسواك فعدلك؟ وفى الصورة
التي اقتضتها قوانينه وسننه قدَّرك ثَّم على شاء من خلقه كرَّمك، ثم هو الذي
بالقلم علَّمك فكان لك التمييز والإدراك وملكة التحليل والتأليف وغيرها من الملكات
الذهنية، فهو أكرم من كل من تعلَّـقت به وشُغِـلتَ به عنه، إذ هو الذي أخرجك من
العدم ونجاك من شر الظلم، فمن تجليات هذا الاسم أوجد الإنسان وكرمه وسواه فعدله
وفضله، والجود والإعطاء إنما هما من تفاصيل هذا الكرم ولكنهما ليسا كل الكرم.
وقد
قال تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} العلق
فالقراءة
ينبغي أن تكون باسم الرب الأكرم الذي له الأسماء الحسنى والمثل الأعلى، فبهذا
الاسم يبلغ الأمر مداه، والاسم "الأكرم" هو الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ،
عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، والقلم هو أداة التفصيل التمييز
والانتقاء والكتابة.
وحواس
الإنسان وملكاته هي من تجليات هذا القلم، أما شكله الصوري فإنما يناسب العالم الذي
يكون فيه، ولقد رأى الإنسان في هذا العالم صورا عديدة وجديدة له، فبهذا القلم الذي
من تفاصيله حواس الإنسان وملكاته القلبية الذهنية يتعلم الإنسان ما لم يعلم،
فالعلم يتعلق بالتفاصيل وبالتفصيل يتم ظهور الكمال.
ولأن
الذي علم الإنسان بالقلم هو الاسم "الأكرم" كان الإنسان هو الكائن
المكرم، وكان ثمة ارتباط موجب بين العلم وبين كون الإنسان مكرما، كما يتبين أن
الكيانات الإنسانية التي تجلّ العلم وأهله ستكون هي الأكرم، والآيات تبين للكائنات
حقيقة الإنسان ولماذا كرم، ولقد كُرِّم الإنسان لأنه قابل لأن يتعلم بالقلم، وما
ذلك إلا لأنه الأداة المثلي للتفصيل والتمييز وإظهار الكمالات.
*******
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق