تشكل سمة المجد—التي
نُسبت في النص القرءاني إلى الله، وإلى قرءانه—سمةً كلية
(Meta-Attribute) تُمثل البنية العلوية للكمال الإلهي من
حيث الرفعة، السيادة، اتساع الفضل، وامتداد أثر العطاء. وليس المجد
وصفًا طارئًا أو تابعًا، بل هو ثابتٌ أنطولوجيًّا (Ontological Constant)،
تُشتق منه سائر تجليات الرحمة والحكمة والإحسان في الوجود.
تلتقي في هذا
النسق ثلاثةُ تجليات إلهية قرءانية:
- المجيد (Al-Majîd)،
- الحميد المجيد Al-Ḥamîdul-Majîd
- ذو العرش
المجيد (Possessor of the Glorious Throne)،
لتقدّم تصورًا
متكاملًا عن عظمة الذات الإلهية وامتداد الفضل وسيادة الأمر وطلاقة الإرادة.
أولًا: التحليل اللغوي لبنية الاسم "المجيد
Al-Majîd"
كلمة المجيد هي اسم
فاعل ذاتي معنوي مؤكد، على وزن فعيل، وهو من صيغ الاتِّسام الثابتة التي تعبّر عن
الرسوخ والاستمرار.
وتدل
مادة م–ج–د لغويًا على: العلو، الرفعة،
الشرف، السَّناء، والتمام.
ويكشف ذلك عن
بُعدين متكاملين:
|
البنية |
الدلالة |
|
مَجُدَ، فعل لازم |
ثبوت العزة والرفعة والعظمة في الذات |
|
مَجَدَ، فعل لازم ومتعدٍّ |
ظهور أثر العزة والرفعة والعظمة وامتدادها |
ثانيًا: دلالة الاسم كرمز
الرمز يدل على أن الله هو أصل كل جلالٍ
وجمالٍ ودوامٍ وكرامةٍ، فهو الكامل في ذاته وأسمائه وأفعاله، لا يطرأ عليه تغير،
ولا تنقطع مظاهر سُننه في العالم، وهو يشير إلى ثبات كل سمات الجلال والحسن والخير
التام لله وإلى أنها واجبة باقية ثابتة، لا تزول ولا تتغير، وإلى أنه أصل كل ما
ظهر وتجلى من تفاصيلها وإلى أن تلك السمات
تقتضي بذاتها مجالات ظهورها.
المجيد = الذي مجدُه من ذاته، لا من
شهادات خلقه.
العظمة
هنا مطلقة غير إضافية.
المجيد هو الله ذو العظمة المطلقة في
ذاته، التي لا تُكتسب ولا تُقارن، وتتجلى في الخلق سعةً في الفضل،
وامتدادًا
في العطاء، وعلوًا في الشأن لا حدّ له.
أي باختصار شديد: المجيد: عظمة الذات،
وامتداد الفضل، وعلوّ لا يُحد
فالمجيد
هو الذي يظهر بكمال الجلال، فيثبت مجده ويمتد أثره في كل شيء
فهو اسم جامع
بين "العظمة" و"الكرم" و"السعة" بحيث يعمّ الوجود
كله، فلا يخرج شيء عن إشراقه ولا يفوته أحد من عطائه الممتلئ بالفيض الدائم الثابت
ثالثًا: المثنى "الحميد المجيد Al-Ḥamîdul-Majîd
"
إن الجمع بين
الاسم الحميد والاسم المجيد لا يأتي للتزيين اللغوي، بل لتأسيس سمة وجودية واحدة Unified
Divine Attribute تُظهر:
أ. أن
الذات تُحمد لذاتها (Intrinsic Worthiness of Praise)،
ب. وأن
آثارها تتجلى مجدًا ممتدًا في الوجود (Transcendent Manifestation).
فالحميد يشير
إلى أصل الكمال،
والمجيد
يشير إلى امتداد ذلك الكمال في صورة فضلٍ وعطاءٍ وسيادةٍ ورحمةٍ.
ولهذا يمنح هذا
التركيب إطارًا يفسّر ما يتجاوز المألوف من أمر الله:
{قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ
رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ
مَّجِيد} [سورة هود: 73]
فالآية تربط الرحمة
والبركات بكونه حميدًا مجيدًا، لتقرر أن مصادر الخير غير محصورة في السنن المعتادة؛
إذ هناك قوانين فوق العادة (Meta-law) تعمل وفق
مقتضيات سماتٍ استأثرها الله لنفسه.
رابعًا: الاسم "المجيد، Al-Majîd"
يتضمن الاسم "المجيد"
معنيين متلازمين:
1.
كمالٌ باطنٌ
ثابتٌ لا يُكتسب
2.
وفعلٌ ظاهرٌ
ممتدٌّ يفيض آثار الشرف والعطاء
وهذا يضع اسم المجيد
في موقع الاسم الجامع المظهر لجلال سائر الأسماء الإلهية؛ فهو ليس مجرد صفة من
صفات الله، بل مستوى علويٌّ تُرى من خلاله جميع الصفات في أفق طلاقتها وكمالها.
المجيد =
كمال
الذات + ظهور الامتداد + رفعة بلا حد + عطاء بلا نفاد.
والاسم "المجيد" يشير إلى سمة هي من تفاصيل السمة التي يشير
إليها المثنى "الحميد المجيد"، وتلك السمة هي من لوازم حقيقة الله
الذاتية كما أنها من لوازم ما هو له من السمات وما يتجلى به من سمات، فالمجد
هو عظمة وجلال كل سمة وطلاقتها ولا تناهيها ووجوبها الذاتي، ولقد اتسم بهذه السمة وعرشه، وكذلك اتسم بها قرءانه، قال
تعالى: {بَلْ هُوَ قرءان مَّجِيد} [البروج:21]
وهذا من لوازم
صدوره عنه، وهذا يعني أيضا أن المجد هو لمن اعتصم به ولم يكن في صدره حرج منه فاتبعه واعتصم به وتمسك به، وهذا يعني
أيضًا أن الخزي والذلة والمهانة هي لمن هجره وأعرض عنه وهو يزعم أنه من المؤمنين،
ولقد قال الله تعالى عنه لرسوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ
تُسْأَلُون} [الزخرف:44]
خامسًا: سمة المجد في سورة البروج: هندسة
لاهوتية–كونية
ترسم سورة
البروج معمارًا متكاملاً لسمة المجد:
إِنَّهُ هُوَ
يُبْدِئُ وَيُعِيدُ — دائرة الخلق
(Ontological Initiation)
وَهُوَ
الْغَفُورُ الْوَدُودُ — دائرة الرحمة
والعلاقة (Divine Relationality)
ذُو
الْعَرْشِ الْمَجِيدُ — دائرة السيادة
الكونية العليا (Cosmic Sovereignty)
فَعَّالٌ
لِمَا يُرِيدُ — دائرة الإرادة
المطلقة (Unrestricted Will)
هذه الرباعية
تُظهر أن المجد ليس جمالًا فقط، بل نظامًا،
وليس
رفعة فقط، بل فعالية،
وليس
شرفًا فقط، بل امتدادًا حاكمًا.
وبذلك يصبح المجد
بنيةً تتخلل: الخلق، والهداية، والتقدير، وجريان المقادير.
سادسًا: المجد في القرءان
عندما يصف الله
كتابه بقوله:
{بَلْ هُوَ قرءان مَّجِيد} [البروج:21]فذلك
يعني أن:
- كماله في
المبنى،
- وجلاله في
المعنى،
- وسموّه في
الهداية،
- وشرف أثره
في الوجود—
جميعها صدرت عن
مصدر المجد نفسه.
ومن هنا جاءت
آية الزخرف:
{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ
وَسَوْفَ تُسْأَلُون} [الزخرف:44] فالقرءان ينقل المجد؛
من
مصدره الإلهي إلى من يحمل نوره ويقوم بحقه.
سابعًا: المجد ومتطلبات الوجود الإنساني
الكون كلّه نشيد
صامت للمجد الإلهي:
أ. انتظام
الحركة
ب. تناغم
القوى
ت. حتمية
السنن
ث. تناسق
المقادير
كلّها حمدٌ عملي
وثناء وجودي.
غير أن الإنسان—بما
لديه من وعي، خطاب، إبداع، وحرية مشروطة Moral &
Cognitive Agency— هو ذروة
التجلي المجيدي؛ لأنه:
أ. يدرك
ما لا تدركه الكائنات عن نفسها،
ب. يكشف
للوجود جوانب الكمال الإلهي،
ت. ويُتم
الحلقات المعرفية والوجودية في الكون.
إن الإنسان—إذا
صَفَا—يغدو مرآةً عاكسةً لجلال الأسماء.
ثامنًا: جهة افتقار الكائنات:
لماذا تحتاج
الكائنات إلى المجد؟
من حيث الاسم الحميد
المجيد فإن كل كائن يفتقر إلى الله لأنه:
أ. مصدر
الإفاضات،
ب. ومصدر
القيمة،
ت. ومصدر
الرحمة والبركات.
والأصفياء—أهل
البيت الحقيقيون، وأهل الصفاء في كل عصر—تظهر فيهم آثار هذا الاسم، وتنبثق منهم الرحمة
والبركات التي تُشار إليها في النص القرءاني.
تاسعًا: البعد العملي: المجد وتجاوز
العادة
اسم الحميد
المجيد هو البوابة التي ينفذ منها غير المتوقع في حياة الأنبياء وأهل الاصطفاء؛ إذ
تتجلى من خلاله قرارات الإرادة الإلهية التي لا تحدّها القوانين المشهودة.
ولهذا كان أقرب
مقامات التوجّه في الصلاة على النبي ﷺ هو التوجّه إلى هذا الاسم، حيث تنزل الرحمة ويتجدد
التكريم.
سمة المجد هي
السمة التي تعني:
1.
للذات الإلهية كمالها،
- وللصفات
الإلهية جلالها،
- وللإرادة طلاقتها،
- وللرحمة بهاءها،
- وللقرءان رفعة
خطابه،
- وللعرش سيادته،
- وللإنسان شرف
مقامه،
- وللوجود سمته
الجمالية العليا.
إن المجد هو الوهج
العلوي الذي منه يشرق الكمال كلّه، وإليه يعود، وبه تستنير السماوات والأرض وما
بينهما.
وهو سرّ
الانفتاح، ومفتاح البركات، والأفق الذي تُكسَر عنده حدود الممكن.
فمن
توجّه إلى الحميد المجيد جاءته الرحمة من مشكاة العظمة، وامتد ذكره، وارتفع مقامه،
واتصل نوره بنورٍ لا يزول.
*******
سمة المجد — حين يتجلّى العلوّ بنور العطاء
ليس المجد في
اللغة مجرّد رفعةٍ تلامس حدود الخيال البشري، ولا شرفًا يزداد بزيادة الشهود، بل
هو سناءٌ سابقٌ على الوجود، علوٌّ غير مُكتسَب، سيادةٌ لا تحتاج إلى شاهدٍ من خلق،
وكرمٌ لا ينفد ولا يُقاس بمكيالٍ من نفع أو خير.
فالله
المجيد—من حيث هو—كان ولا شيء معه، ولو لم يكن
سواه موجودًا لبقي مجيدًا كما هو؛ لأن المجد صفةٌ من ذاتٍ لا تحتاج إلى مؤيّد، ولا
تفتقر إلى مظهر خارجي لتثبت أنها سامقةٌ فوق القياس والمقارنة.
إن المجد في
التصور الإيماني ليس تفوقًا نسبيًا يميل إلى المفاضلة أو يقيس الكمال بالكمال،
وإنما هو العظمة بصيغة المطلق: العظمة التي لا
تُكتسب، ولا تُنتزع، ولا تُمنَح من خارج، بل تفور من ذاتٍ هي أصل كل بهاء، ومنبع
كل حسن، ومصدر كل نور.
إنه
علوّ الذات، وامتداد الفضل، وفيض العطاء، وسيادة الإرادة، واتساع الرحمة، وكرمٌ
تتسع له حافات الوجود فلا تضيق.
حين يخبرنا النص
القرءاني عن الحميد المجيد فهو لا يضاعف الصفة ولا يجمّل المعنى، بل يُظهر اتحادًا
عجيبًا بين كمال الذات (الحميد) وامتداد العطاء (المجيد)؛
فالحميد
يستحق الحمد لذاته،
والمجيد
يفيض من عطائه ما يجعل الوجود بحد ذاته تسبيحًا صامتًا ونشيدًا معلَنًا بلغة
النجوم، والحركة، والقوانين، والمقاصد، والمصائر.
إن الكون—بما
فيه من اتساق وانتظام—ليس مجرد دليل وجود، بل مرآة مجد؛
وكل
شروق فجر هو صفحة جديدة لأثر من آثار المجد؛
وكل
حياة تتشكل في رحمٍ صغير هي مماسات خفية لرحمةٍ مجيدة تنسج قوانينها في صمت.
وحتى
الظلمات—بما فيها من عمق—تكشف مجد الخالق الذي يرى في العمق نورًا وفي الغياب
حضورًا.
لكنّ الإنسان،
هذا الكائن الذي جمع بين التراب والنَفَس، بين الضعف والبيان، بين الحاجة والحرية،
هو ذروة المرايا التي ينعكس عليها المجد الإلهي في أعلى درجاته؛ لأنه وحده يستطيع
أن:
1-
يُدرك ما لم
تُدرك الكائنات عن نفسها،
2-
ويُسمّي ما لم
تُسمّ المخلوقات ذاتها،
3-
ويُحب حبًا هو
عطاءٌ حرّ،
4-
ويشتاق إلى معنى
يتجاوز حدوده المادية،
5-
ويبحث عمّا
يفوقه، دون أن يملك سببًا ماديًا واضحًا لهذا التوق.
فحين يرقى
الإنسان بروحه ويصفو، يغدو مَجْلى للمجد لا مجرّد مخلوقٍ نُقِش على صفحة الوجود.
وحين
يحمل القرءان في قلبٍ طاهر، يصبح المجد كلمة تمشي على قدمين، ويصبح وجوده شهادةً
للآخرين على أن الله—من حيث المجيد—لا يزال يفيض،
ويهدي، ويكرم، ويتجلّى.
إن المجد ليس
زينة الملوك، ولا صفة الأقوياء، ولا هالةً على رؤوس أصحاب السلطان، بل هو نورٌ في
الضعف، وعلوٌ في الخفاء، وكرامةٌ في الصبر، وسناءٌ في الصدق.
إن
المجد الإلهي لا يحتاج مظاهر القوّة كي يثبت قوته، ولا ينتظر من يضع له تاجًا، فهو
تاج الوجود كله.
وعندما تنفتح
النوافذ على عالم الغيب، ويتجلى ما فوق المألوف، وتتبدل المسافات، ويقع ما لا
يتوقعه البشر، فإن سمة المجد هي المفتاح، لأن الحميد المجيد هو الاسم الذي تُصنع
عنده العطايا فوق السنن، وتُفتح الأبواب التي ظنّ الناس أنها مغلقة بالأبدية.
ومن كان نصيبه من هذا المجد أن يتصل به—ولو بقدرٍ يسير—فإنه
يرتفع بقدر ما يصدق، ويزداد نورًا بقدر ما يطهر قلبه، ولا يحتاج إلى شهودٍ
يرفعونه، لأن المجد لا يُعار، ولا يستعار، ولا يُشترى، بل يُوهب من عند الحميد
المجيد.
*******
*******
*******