الأربعاء، 3 ديسمبر 2025

من كتابنا " نظرات في آيات مترابطة "، آيات "وَلَهُ الْحَمْدُ"

 

من كتابنا " نظرات في آيات مترابطة "، آيات "وَلَهُ الْحَمْدُ"

*آيات "وَلَهُ الْحَمْدُ"

قال تعالى:

{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) } [سورة القصص]

{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)} الروم

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) } [سبأ]

{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)} الجاثية

{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) } [التغابن]

سمة "الحمد" هي اسم الفعل "حمُد" المشير إلى التسمي الذاتي بكل السمات التي يستحق الله تعالى بها الحمد استحقاقًا ذاتيا واستحقاقا من حيث الأفعال في المجالات المعتبرة، وهذا يعني لغويا أن الاسم "الحميد" هو اسم فاعل ذاتي معنوي مؤكد (صفة مشبهة)، ولا يعني أنه اسم مفعول بمعنى محمود.

وهذا بالطبع لا ينفي أن الله هو المحمود، ولكنه بيان للمعنى الحقيقي لسمة الحمد وفعلها، فهو يشير إلى السمة التي اتسم بها الله فاستحق بها على كافة المستويات أن يُحمد.

والله تعالى هو الحميد من قبل خلق السماوات والأرض.

فالله تعالى يُسمَّى بما هو له، وليس بما تفعله مخلوقاته تجاهه.

ولذلك فالاسم الإلهي "الحميد" هو لغويا: اسم فاعل ذاتي معنوي مؤكد (صفة مشبهة) على زنة فعِيل من الفعل اللازم "حمُدَ، يحمُد"، وكذلك اسم فاعل معنوي مؤكد (صفة مشبهة وصيغة مبالغة) على وزن فعِيل من الفعل المتعدي بنفسه وبحرف "حمِد، يحمَد".

فالاسم "الحميد" هو اسم الله من حيث أن له الذات التي استحق بها الحمد والمدح استحقاقا ذاتيا، فهو حميد في ذاته بذاته لذاته، وبذلك كان له أيضًا السمات التي استحق الحمد والمدح بها، فكل ما تريده المخلوقات هو لديه.

فهو الحميد الذي حمُد بذاته، وهو الحميد بما له من السمات الحسنى التي بها يستحق الثناء، فالحميد يُشير إلى السمة المحكمة التي استحق بها استحقاقًا ذاتيا واجبا أن يُثنى عليه.

وله الحمد أيضًا بكل ما ظهر من مقتضيات أسمائه الحسنى من كائنات عالمي الخلق والأمر.

*******

تتشكّل هذه الآيات، على تباعد مواضعها في القرءان، كأنها سلسلة من اللآلئ تنتظم حول مركز واحد جامع: الربوبية المطلقة التي تتجلّى في الخلق، والاختيار، والتكوين، والعلم، والحكم، والملك، والحمد، والتسبيح، والمصير. وتكشف القراءة السياقية والبلاغية أنّ هذه النصوص، رغم ورودها في سياقات مختلفة من سور القصص والروم وسبأ والجاثية والتغابن، تتضافر في بناء رؤية قرءانية عميقة، يمكن وصفها بـ"البنية التوحيدية الكبرى"، التي تجمع مفاصل الوجود الإلهي في النفس والكون والتاريخ.

تبدأ السلسلة بقوله تعالى:
{ ورَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
وفيها تقرير لمبدأين عقديين متلازمين: الإرادة الخالقة والإرادة الموجِّهة. فالخلق هنا ليس إقامة الموجودات فحسب، بل إنشاء نظام القدَر كلّه، بما يشمل خصائص الأشياء وترتيبات التاريخ ومسارات الرسالات. ومن البناء اللغوي يتبيّن أنّ "يخلق" تتعلق بالأصل، و"يختار" تتعلق بالتدبير؛ أي إن الربوبية ليست مجرد القدرة على الإيجاد، بل القدرة على توجيه المصائر وفق الحكمة العليا. أمّا الجملة: ما كان لهم الخيرة، فهي تقرير لنفي أيّ مشاركة بشرية في تحديد مجرى الكون؛ ذلك أنّ اختيار الله فوق كل إرادة، وأنّ التدبير الحقّ لا يمكن أن يكون إلا لمن أحاط علمًا وحكمة، وهو وجه من أوجه التنزيه الذي جاء مباشرة بعده: سبحان الله وتعالى عما يشركون. هذا التعقيب البلاغي يشير إلى أن أصل الشرك هو زعم القدرة على معارضة اختيار الله باختيار من دونه.

ويأتي قوله تعالى بعد ذلك:
{ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ }
ليربط بين الخلق والاختيار من جهة، والعلم المحيط من جهة أخرى. فليس الخلق فعلًا منفصلًا عن العلم؛ بل يتأسس عليه. وصيغة "ما تكنّ صدورهم" تعبّر عن خفايا الشعور وأسرار النوايا، بينما "ما يعلنون" يشمل الأقوال والأعمال. والآية بذلك تُسقط كلّ احتمالات المعارضة البشرية للمشيئة الإلهية؛ إذ إنّ من لا يعلم خفايا ذاته لا قدرة له على إدارة مصيره، ومن لا يدرك حركة قلبه لا يمكن أن يحتجّ في اختيار مصيره على علم ناقص.

ثم يجيء التركيب الجامع:
{ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
وهذا انتقال من تقرير الصفات الفعلية (الخلق، الاختيار، العلم) إلى تأسيس الصفة الجامعة: التوحيد، الذي تُبنى عليه كل الصفات.

و"له الحمد" تتكرّر في القرءان بصيغ مختلفة، غير أنّ ارتباطها هنا بـ"الأولى والآخرة" له دلالة تاريخية–كونية: فحمْدُ الله هو الإطار الوجودي الذي يسبق خلق العالم ويمتدّ إلى ما بعد فنائه، أي إلى ما يُسمّيه القرءان "اليوم الآخر".

أما "له الحكم" فهي صيغة حصرية، تشكّل قاعدة المفهوم القرءاني للسيادة: الحكم هنا ليس فقط تشريعًا، بل تدبيرًا للوجود، وفصلًا في المصائر، وإحكامًا للسنن.

و"إليه ترجعون" هي نهاية الدائرة التي بدأت بـ"يخلق ما يشاء": إذ كلّ مسار قدر ينتهي إلى حضرة الحكم الإلهي التي لا يشوبها نقص ولا جهل.

وحين ينتقل الخطاب إلى سورة الروم يتخذ السياق منحًى مختلفًا، لكنه يخدم البنية نفسها:
{ فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون }
هنا تأتي العبارة في صيغة أمرٍ غير مباشر، إذ "فسبحان" ليست أمرًا لفظيًا، لكنها تستدعي الامتثال. و"حين تمسون" و"حين تصبحون" تقسمان اليوم إلى قطبيه الأوّليين، بينما "عشيًّا" و"حين تُظهرون" في الآية التالية تقسمانه إلى أوسطه وآخره. وهذا التقسيم الزمني ليس اعتباطيًا، بل يرسم "خارطة عبودية يومية" تربط الإنسان بالكون عبر إيقاع الزمن. فالتسبيح –من الناحية البلاغية– ليس فقط تنزيهًا، بل إعلانٌ عن خضوع الكائن لهيمنة الخالق.

ثم تأتي الجملة المفصلية:
{وله الحمد في السماوات والأرض}
لتبيّن أن الحمد ليس مجرد فعل بشري، بل "نظام كوني"، وأن كل مخلوق يسهم في هذا النظام بطريقته: حركة الكواكب، نمو النبات، جريان الماء، ولادة الأحياء وموتهم. وبعد الحمد يأتي قانون التكوين الكوني:
{يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي}
وفيه بيان لسنّة التحوّل التي بُني عليها الوجود؛ ليس من الناحية الحيوية فقط، بل من الناحية العقدية أيضًا: فالهداية قد تنشأ من قلب الضلال، والضلال قد يخرج من بيئة الإيمان، وكل ذلك داخل مجال القدرة الإلهية لا خارجها. ثم جاءت آية:
{ ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون }
لتربط بين المشهد الطبيعي والبعث، في تشبيه بلاغي عميق يجعل من دورة النبات رمزًا لدورة الإنسان، ومن سنن الأرض برهانًا على القدرة على الإعادة.

وفي سورة سبأ تتسع الدائرة:
{ الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض }
هنا يصبح الحمد بيان ملكية: لا ثناء بلا ملك، ولا ملك بلا علم. و"وله الحمد في الآخرة" تشير إلى أنّ يوم القيامة ليس يومًا بلا نظام، بل يوم يتجلّى فيه الحمد الكامل؛ إذ لا يُرى هناك إلا وجه العدل والرحمة والحقّ. ثم يأتي بيان العلم الشامل في الآية التالية:
{ يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها }
وهذه أربعة محاور تصنع "هندسة الكونية" في القرءان: الداخل والخارج (الأرض)، والنازل والصاعد (السماء). والآية تضع الإنسان أمام تطابق القدرة والعلم والرحمة، فكأنّ الكون كلّه "منظومة مراقبة إلهية" دقيقة، لا تفلت منها حركة ذرة أو نبضة قلب.

ويأتي ختم الجاثية:
{ فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين }
وفيه التقاء الحمد بالربوبية؛ أي أن الحمد ليس مجرد ثناء، بل اعترافٌ بالهيمنة الكاملة على نظام الكون. و"له الكبرياء" تعني السيطرة الكاملة التي لا يحدّها شيء، وهي وصف يعادل في البلاغة القرءانية تنزيه الله عن مشابهة الخلق. أما "العزيز الحكيم" فتجمع القوة المحكمة بالحكمة الهادية.

وتختم سورة التغابن هذا البناء بقوله:
{ يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير }
هنا يتكرّر الثالوث التوحيدي: التسبيح (تنزيه)، الملك (سلطان)، الحمد (كمال). ثم تُورد الحقيقة الإنسانية:
{ هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن }
لتبيّن أن اختلاف المصائر ليس صدفة، بل يدخل ضمن نظام الابتلاء، وأنّ الله بصير بأعمال الجميع. ويتعزّز المعنى بقوله:
{ خلق السماوات والأرض بالحق }
فالحقيقة ملازمة للخلق، وليست عارضة. ثم تأتي الآية:
{ وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير }
لتربط بين جمال التكوين وجمال النهاية. وتختم السلسلة ببيان العلم الباطني:
{ يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور }
ليُغلق البناء التوحيدي على العلم الكامل، كما بدأ بالخلق الكامل.

وهكذا، يقدّم هذا الطيف القرءاني المتكامل بنيةً معرفية تُظهر أن:
الخلق ابتداء، والاختيار تدبير، والعلم إحاطة، والحكم سيادة، والحمد إطارًا للكون، والتسبيح نَفَسَه، والملك نظامه، والبعث نهايته. إنها منظومة واحدة تُقرأ في ضوء بعضها، وتُفهم بوصفها عمود التوحيد في القرءان.

*******

كأنّ هذه الآيات، المتناثرة على صفحات سورٍ متباعدة، تتواشج لتنسج نسيجًا واحدًا متينًا، وتشكّل معًا لوحة توحيدية كبرى، تتلألأ خطوطها بين الخلق والاختيار، وبين العلم والحكم، وبين الحمد والملك، وبين سرّ الوجود ومصير العودة. وحين يُقرأ هذا الطيف الواسع من الآيات بروحٍ محبة للمعنى، وقلبٍ يصغي إلى النداء العميق المختبئ خلف الكلمات، يتبدّى للقارئ أنّ القرءان لا يقدّم معارف منفصلة، بل يبني كيانًا معرفيًا حيًّا نابضًا، له جذع واحد، وفروع تمتدّ في الوجدان والكون والتاريخ.

في البدء يصدح صوت الجلال:
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}
والخلق هنا ليس مجرد إحداثٍ للموجود، بل هو فتح باب الوجود من غيب القدرة إلى مشهد الشهادة. "يخلق" هي لحظة الميلاد الكوني، و"يختار" هي لحظة التوجيه؛ فالله لا يطلق الموجودات سدى، بل ينظم مصائرها بميزان الحكمة. وما كان للخلق أن يعارض الخالق، وما كان للمحدود أن يقف في وجه المطلق: {ما كان لهم الخِيَرَةُ}. إنّها صياغة قرءانية تُسقط كلّ دعوى بشرية تزعم حقّ التدبير المطلق، وكلّ قلب يتوهّم أنّ خطواته تُدار من خارجه لا من علم الله المهيمن عليه.

ثم ينتقل النصّ إلى عُمق النفس:
{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ}
إنه خطاب يضع الإنسان أمام حقيقة هشاشته الداخلية؛ فكلّ ما يُدفن في أعماق القلب، من رغبة أو خوف، من نية أو خاطر، هو مكشوف لعينٍ لا تنام. وما نعلن، وما نُخفي، وما ننسى نحن أنفسنا وجوده فينا—كله تحت علمٍ لا يحجبه شيء. وبهذا العلم يتأسس الحكم الإلهي، ويتجلّى العدل الحقّ، إذ لا يُحكم على إنسان بظاهرٍ مزيف، ولا تُغفل حركة سرّه.

وحين يتوّج النصّ بقوله:
{وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ}
يصبح الحمد إطار الوجود، لا فعلًا لغويًا فحسب. فالحمد هو اعتراف المخلوقات بأنّ الوجود هِبة، وأنّ مسار التاريخ ليس عبثًا، وأنّ النهاية عودة إلى الجمال الأول. وله الحكم… فليس الحكم مجرّد تشريعٍ، بل سيادة على حركة الكون، وترتيبٌ للمصائر، وإحكام للسنن. وعندما يقول: {وإليه تُرجعون} تنغلق الدائرة بأكملها: فمنه البدء وإليه الانتهاء، وبينهما مسافة الامتحان التي تُنضج الأرواح.

ثم يمضي النصّ إلى سورة الروم، فيعيد بناء العلاقة بين الإنسان والكون عبر الزمن:
{فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون}
إنّه ليس أمرًا بالتسبيح فقط، بل دعوة للاندماج في إيقاع العالم، وللاتساق مع سنن الوجود. تمسون… تصبحون… تعشون… تظهرون… كأنّ الإنسان يُساق ليعيش يومه على بساط الذكر، لا يقطعُه عن خالقه غفلة ساعة. فالزمن في الرؤية القرءانية ليس إطارًا جامدًا، بل سُلّم صعود للروح.

ويأتي سرّ من أسرار التكوين:
{يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي}
إنها حركة الأضداد التي تُدير الكون: حياة تولد من رماد، وموت يخرج من أتون حياة. وهو القانون نفسه الذي يحكم الروح: من قلب الجحود قد تنبت الهداية، ومن قلب الإيمان قد يخرج الانحراف، لأنّ الإنسان كائن مُختبر، لا كائنٌ مؤتمَن بطبيعته. ومن إحياء الأرض بعد موتها تُستمدّ حجّة البعث؛ فكما تتحول التربة الميتة إلى جنة خضراء، تُبعث الأجساد كذلك، وتنهض الأرواح من نومها الطويل.

وفي سورة سبأ يتسع الكون أكثر فأكثر:
{الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض}
هذا الحمد إعلان ملكية كونية: فما من ذرة تتحرك إلا وهي ضمن حدود سلطان الله. وما من سرّ يُدفن في الأرض إلا ويدركه علمه، وما من مطرٍ يسقط أو روحٍ تعرج إلا وهو في قبضته. بين "ما يلج" و"ما يخرج" تتحدد حركة الأرض، وبين "ما ينزل" و"ما يعرج" يُرسم هندسة السماء. وكلّ ذلك يلتقي تحت المثنى الذي يغمر الوجود بالرحمة والمغفرة: {الرَّحِيمُ الغَفُورُ}.

وفي خاتمة الجاثية يظهر مشهد الجلال:
{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
كأنّ الوجود كله ينحني في لحظة تقديس واحدة، تمتدّ من أعماق المجرة إلى قطرة الندى. ولله الكبرياء… وهي كبرياء حقانية؛ كبرياء كمال؛ كبرياء يليق بمن يملك ولا يُملك عليه، ويحكم ولا يُحكم عليه، ويعلم ولا يُجهل عليه.

وتجيء التغابن لتغلق الحلقة الأخيرة في البناء العظيم:
{يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير}
التسبيح هنا ليس فعلًا صوتيًا، بل قانونًا وجوديًا؛ فكل شيء يُسبّح، ولو لم يسمعه الإنسان. ثم يواجه النصّ حقيقة الإنسان:
{هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن}
فالتنوع الروحي ليس عبثًا، بل ساحة امتحان، ومحراب اختيار، ومسار عودة. وقد جُبل الإنسان على الاختلاف، لكن حكم الله يربط النتائج بالحقّ. ويختم النصّ بالعلم المطلق:
{
والله عليم بذات الصدور}
ليبيّن أن الختام كالبدء: علمٌ يحيط بالخفايا قبل الظواهر، ويزن القلوب قبل الأفعال.

وهكذا تتجمع هذه الآيات في بُنية واحدة تمتد من لحظة الخلق الأولى إلى لحظة البعث الأخيرة، مرورًا بقوانين الكون، وتحوّلات النفس، وحركة الزمن، وإيقاع الوجود. إنه توحيدٌ كونيّ—لا يُدرك بالعقل وحده، ولا بالقلب وحده، بل باندماجهما معًا في نورٍ واحد.

*******

في هذا النسيج القرءانيّ تتجلّى وحدةُ المقصد، وتنامي الإيقاع الكونيّ الذي يربط بدايات الوجود بنهاياته، ويصهر الزمن في بوتقة التوحيد؛ فهذه الآيات من سورٍ متباعدة تشير، في عمقها، إلى مركزٍ واحد: الحمْد أصلُ الوجود، والتسبيحُ نَفَسُه، والحُكمُ غايته، والرجوعُ إليه تمامُ دائرته.

يتضمن الخطاب الإعلان المهيب: وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ؛ إعلانٌ كأنما تُنتزع به الأوهام من جذرها، وتتساقط أمامه كلُّ الصور الزائفة للسلطة والمعنى. ليس التوحيد هنا فكرةً تُدرَس، بل لحظةُ انكشافٍ كونيّ تشير إلى أن كلّ ما عدا الله مشروط، وكلّ ما هو سواه قائمٌ به، وأن الوجود نفسه لا يشقّ صدره نورٌ إلا من تلك الحقيقة الأولى التي تتقد في مركزه.

ومن هذا المركز تتفجّر الحقيقة الثانية: لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالْآخِرَةِ.
فليس الحمدُ مجرّد ثناءٍ لفظي، بل هو بنية الوعي حين يكشف عن أن الخير المطلق أصلُ الأشياء، وأن النظام الأخلاقي للكون مبنيٌّ على حكمةٍ لا تتبدّل. إنّ أولى الدنيا وآخرة الآخرة تنعقدان في نقطةٍ واحدة هي: ملكيةُ الله المطلقة للوجود، لا بوصفه مالكًا فحسب، بل بوصفه القيمة العليا التي تتوجّه إليها القلوب وتنتظم حولها الأزمنة.

وهكذا يرتبط الحمد بالحكم: وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
الرجوعُ ليس حركةً قدرية فقط، بل عودة الوعي إلى أصله، وعودة الأشياء إلى منبع معناها. فإذا كانت الحياة سلسلةً من التشتتات والانبعاثات، فإنّ الرجوع لحظةُ اكتمال، تلتئم فيها شظايا التجربة الإنسانية في معنى واحد هو: أن النهاية لا تحمل غموضًا، بل كشفًا وانفتاحًا على الحقيقة التي كانت ترافقنا منذ البدء.

ثمّ تُفتح نافذة جديدة، لا تنفصل عن الأولى، لكنها تُخرج القارئ من التجريد إلى المشهد الكونيّ المحسوس:
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ
إنّها العلامة على أنّ الزمن نفسه تسبيح ممتدّ، وأن لحظات اليوم الأربع –المساء، الصباح، العشيّ، الظهيرة– ليست تقسيمات فلكيّة فحسب، بل أركان المعنى في حركة الإنسان. فكلُّ انطفاءةِ ضوءٍ أو ميلادِ ضياءٍ هي شهادة على أن الوجود قائمٌ على التنزيه، وأن الإنسان حين يسبّح لا يضيف شيئًا إلى جلال الله، بل يكشف شيئًا من ذاته هو.

وتستأنف الآيات فتعمّق هذا الوعي:
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ
إنه قانون التحوّل الذي يبني الكون كلّه: الحياةُ تخرج من غلاف الموت، والموتُ يتعرّى من بين أصابع الحياة. ليست هذه الصورة انتقالًا مادّيًا فقط، بل رمزًا لجدل الوعي: فالإيمان يولد من قلب الحيرة، والنور يخرج من الحجاب، والإنسان يكتشف نفسه حين يفقدها، ثم يستعيدها في لحظة يقين. وكما تُحيَى الأرض بعد موتها، كذلك الإنسان يُبعث حين يخرج من يبس الغفلة إلى نضارة الذكر.

وهذا الجدل الكوني هو نفسه الذي تعلنه سورة سبأ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
إنّ هيمنة الحمد هنا تعادل هيمنة الملك، وكأنّ القرءان يعيد تشكيل مفهوم الملكية نفسه: ليست الملكية سيطرةً، بل احتواءٌ حكيم، يتكشّف في كلّ خلية، وكلّ معنى، وكلّ قدر. ولذلك يجيء الوصف: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير؛ أي إنّ العالم ليس عشوائيًا ولا صادمًا، بل مكتوبٌ على ناموسٍ ينتهي في الحكمة، ويبدأ فيها، ويمتدّ على ضوئها.

ثم تُختتم الصورة في التغابن:
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
هنا يتجلّى البعد الكوني للتسبيح: الأشياء كلُّها أصوات، والوجود كلُّه جوقة. ولو أنّ الإنسان صمت لسمع صمت الأشياء وهو يتلو نشيده الداخلي. الملك والحمد هنا وجهان لعملة واحدة: سلطانٌ محضٌ يفيض منه جمال محض، وعلى هذا الجمال يقوم الكون ويتحرّك ويعود.

هكذا تتجمع هذه الآيات، رغم تباعد السور، في لوحة واحدة:
التوحيد نقطة البدء، والحمد نَفَس الوجود، والتسبيح نَسِيجه، والحكم قمّته، والرجوع محطته الأخيرة.
إنها دورة كونية، تبدأ من الله وتنتهي إليه، وتكشف أنّ الإيمان ليس فكرة في الذهن، بل تجربة وجودية يدرك فيها الإنسان أنه جزء من معمارٍ لا ينفصل عن جلال خالقه ولا عن حكمته ولا عن نَفَسه الممتد في الأشياء.

 

*******

*******

*******

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق