الخميس، 25 ديسمبر 2025

من أوزير إلى الكريسماس: رحلة رمز عبر الحضارات


من أوزير إلى الكريسماس: رحلة رمز عبر الحضارات

شجرة الحياة والانقلاب الشتوي

تمهيد

ليست الأعياد الكبرى في تاريخ الإنسانية مجرد تواريخ عابرة أو طقوس دينية منعزلة، بل هي تجليات رمزية كبرى (Symbolic Manifestations) لعلاقة الإنسان بالزمن، والطبيعة، والموت، والبعث، والمعنى. ومن بين هذه اللحظات الكونية المفصلية، تحتل ظاهرة الانقلاب الشتوي (Winter Solstice – الانقلاب الشتوي) موقعًا مركزيًا، إذ تمثل اللحظة التي يبلغ فيها الليل أقصى مداه، ثم يبدأ النور في العودة من جديد.

هذه اللحظة، بما تحمله من دلالة الانتصار الرمزي للحياة على الموت، شكّلت أساسًا لعدد هائل من الأعياد الدينية والطقوس الاحتفالية في حضارات شرق البحر المتوسط وبلاد الرافدين وفارس ومصر القديمة، قبل أن تنتقل — بأشكال مختلفة — إلى الثقافة الرومانية ثم المسيحية.

 

الانقلاب الشتوي: عيد كوني مشترك

عرفت شعوب الشرق القديم الانقلاب الشتوي بوصفه عيدًا كونيًا للبعث والتجدد، لا مجرد ظاهرة فلكية. ففي بلاد الرافدين ارتبط بمواسم الخصوبة وعودة الإله تموز، وفي فارس ارتبط بعيد يلدا (Yalda Night – ليلة يلدا) المرتبط بميلاد الإله ميثرا، رمز النور الذي يولد من أحشاء الظلمة.

أما في العالم الهيليني والروماني، فقد ارتبط الانقلاب الشتوي بأعياد الشمس التي لا تُقهر (Sol Invictus)، وكان يوم 25 ديسمبر يُحتفل به بوصفه ميلاد النور الجديد، قبل أن يُعاد توظيف هذا التاريخ لاحقًا في السياق المسيحي.

غير أن أقدم وأعمق تجلٍّ رمزي لهذه الظاهرة نجده في مصر القديمة، ضمن الديانة الأوزيرية–الأمونية، حيث بلغ الرمز ذروة نضجه الفلسفي والطقسي.

 

أوزير: الموت الذي صار حياة

في العقيدة المصرية القديمة، لم يكن أوزيريس مجرد إله، بل مبدأ كوني يجسّد دورة الحياة: الموت، التحلل، ثم البعث. فقد مثّل أوزير الأرض الخصبة، والنبات، والحبوب، وكل ما يموت ليحيا من جديد.

تشير مصادر علم المصريات، وعلى رأسها أعمال سليم حسن في موسوعة مصر القديمة، وجيمس هنري بريستد في فجر الضمير، إلى أن احتفالات أوزيريس بلغت ذروتها في منتصف شهر كيهك، وهو الشهر الرابع من فصل الفيضان (آخت)، الموافق تقريبًا 25 ديسمبر في التقويم الشمسي.

كان هذا التوقيت مرتبطًا بعقيدة راسخة مفادها أن:

أوزيريس يعود إلى الحياة متقمصًا جسد شجرة خضراء.

 

شجرة أوزير (بنور رع): رمز القيامة

كانت شجرة أوزير، المعروفة في النصوص باسم بنو رع أو بنور رع، تُنصب في ساحات الاحتفال، خصوصًا في أبيدوس، المركز الروحي الأهم لعبادة أوزيريس، حيث كان موسم الحج الأوزيري السنوي.

في هذا العيد:

  • تُختار أكثر الأشجار اخضرارًا.
  • تُغرس في ساحة الاحتفال الكبرى.
  • تُزيَّن بالشموع العطرية والرموز.
  • يجتمع حولها الرجال والنساء والأطفال والفقراء.
  • تُقدَّم العطايا والهدايا.
  • تُكتب الأمنيات على أوراق البردي وتُوضع أسفل الشجرة، في طقس رمزي يجمع بين الرجاء والوساطة الكهنوتية.

وقد كان يُعتقد، بحسب تقاليد أوزيرية راسخة، أن تابوت أوزيريس ظلّلته شجرة الجميز في النصف الأخير من شهر كيهك، وهو ما منح الشجرة مكانتها المقدسة بوصفها وعاء الحياة المتجددة.

يقول بريستد:

"عاد هذا الرب إلى الحياة مرة أخرى متقمصًا جسم شجرة خضراء، فأصبح رمزًا لرجوع الحياة التي تنبثق من الموت… ومن هنا نشأ عيد سنوي برفع شجرة مقتلعة وغرسها في الأرض في محفل عظيم".

ويؤكد وليم نظير في العادات المصرية بين الأمس واليوم:

"رمز المصريون للحياة المتجددة بشجرة خضراء، وكانوا يقيمون كل عام حفلًا كبيرًا ينصبون فيه شجرة يزينونها كما يفعل الناس اليوم بشجرة عيد الميلاد".

 

من مصر إلى العالم

انتقل هذا الرمز من مصر:

  • إلى بابل،
  • ثم إلى العالم الهيليني والروماني،
  • ثم عاد إلى الظهور في السياق المسيحي باسم شجرة عيد الميلاد.

ومن المهم هنا التمييز بين الرمز والعقيدة:
فالمسيحية لم تستقِ عقيدتها من مصر، لكنها ورثت رمزًا كونيًا قديمًا أُعيد تفسيره ضمن سياق لاهوتي جديد.

حتى الكنيسة الكاثوليكية ظلت لفترة طويلة ترفض شجرة الميلاد وتعدّها عادة وثنية، ولم تدخل رسميًا الفضاء الكنسي إلا في العصر الحديث، حيث نُصبت أول شجرة في ساحة الفاتيكان عام 1982.

 

شجرة الميلاد في العالم الحديث

في الولايات المتحدة، قوبلت شجرة الميلاد في البداية بالرفض، باعتبارها تقليدًا أوروبيًا دخيلًا، إلى أن أمر الرئيس فرانكلين بيرس بوضع أول شجرة في البيت الأبيض، ثم ثبّت الرئيس كالفين كوليدج هذا التقليد عام 1923 بإضاءة شجرة الميلاد في حديقة البيت الأبيض.

وهكذا، انتقل رمز مصري قديم، مرتبط بالبعث والقيامة والنور، عبر آلاف السنين، ليصبح أحد أكثر الرموز العالمية انتشارًا.

 

خاتمة: حين يُنسى الأصل ويبقى الرمز

إن الاعتراف بالجذور الحضارية ليس مطالبة بامتلاك العالم، ولا دعوة للتعالي، بل هو استعادة للوعي. فمصر لم تكن هامشًا في تاريخ الرموز الدينية، بل كانت أحد منابعه الكبرى.

وحين يُحتفل اليوم بشجرة الميلاد في أنحاء العالم، دون وعي بجذورها الأولى، فإن أقل ما يُقال — بلسان حضاري لا عدائي — هو:

شكرًا لمصر… التي علّمت الإنسانية كيف ترى الحياة وهي تولد من قلب الموت.

كل عام والإنسانية بخير،
وكل عام والنور يعود.

 

*******

*******

*******

هناك تعليق واحد:

  1. وشكرا لحضرتك على كل ما تقدمه من تعليم وتبيان وتفسير .

    ردحذف