الاثنين، 22 ديسمبر 2025

*منظومة أسماء الغنى القَبْلية: الغنيّ، الغني الحميد، الغني الكريم، الغني ذو الرحمة

 

*منظومة أسماء الغنى القَبْلية: الغنيّ، الغني الحميد، الغني الكريم، الغني ذو الرحمة


أسماء الغنى القَبْلية هي الغنيّ، الغني الحميد، الغني الكريم، الغني ذو الرحمة، وهي تشكل "مربع الغنى الذاتي". ما يميز هذه المنظومة أن لها أفعال الاتسام الذاتي" (غنِيَ، حمُدَ، كرُمَ)، وهي أفعال تدل على صفات لازمة للذات الإلهية قبل أن تتعلق بالخلق.

الله غني لذاته، حميد لذاته، كريم لذاته، وفضلُه على الخلق هو "فيض" من هذه السمات الكيانية.

أولًا: السمة الكيانية (الْغَنِيُّ)

"الاكتفاء الذاتي المطلق" (Ontological Self-Sufficiency)

الاسم (الْغَنِيُّ) هو المركز. "غنِيَ" فعل لازم يعبر عن حالة استغناء كلي عن الأغيار. الله غني عن الزمان، عن المكان، وعن العباد وعن الأرزاق.

1.   مقتضى العظمة: غناه ليس "تجمع موارد" بل هو الاكتفاء الذاتي المطلق.

  1. الملكة الإنسانية (الاستغناء بالله): هي ملكة "الحرية الداخلية". العبد الذي يتمثل "الغنى" لا يشعر بالفقر مهما قلّ ماله، لأنه يستمد كفايته من الغني. هي عزة النفس التي تمنع الإنسان من الانكسار أمام المادة أو الأشخاص.

 

ثانيًا: المثنى (الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)

"كمال الذات وجمال الصفات" (Intrinsic Sufficiency & Praiseworthiness)

السمة المركبة هنا هي "الغنى الذي لا يولد استكبارًا". في العرف البشري، قد يؤدي الغنى إلى الطغيان {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}، لكن الله (غني) ومع ذلك هو (حميد)؛ أي موصوف بكل صفات الجمال التي تُحمد.

1.   غنىً محمود: غناه يفيض بالخير على عباده، لذا يُحمد على غناه كما يُحمد على عطائه.

2.   التنزيه المطلق: ورد هذا المثنى كثيرًا في سياق العبادات والإنفاق {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ}، ليؤكد أن طاعتك لا تنفعه ومعصيتك لا تضره، فمحموديته ذاتية.

الملكات الإنسانية لمقتضى (الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ):

ملكة "الجمال المستقل": أن يكون الإنسان صاحب خلق رفيع (حميد) ليس من أجل نيل مصلحة من الناس، بل لأن "الحمد" أصبح صفة ثابتة فيه، تمامًا كما هو "غني" عن مدحهم.

 

ثالثًا: المثنى (الْغَنِيُّ الْكَرِيمُ)

"فيض الذات على الوجود" (Magnanimous Self-Sufficiency)

ورد في سورة النمل {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}. السمة المركبة هنا هي "عطاء التفضل لا عطاء التبادل".

1.   كرمٌ غير معلل بالحاجة: الكريم من البشر قد يعطي ليُقال عنه كريم، أو ليكسب ولاءً. أما الله فهو (كريم) لأن الكرم سجيته (كرُمَ)، وهو (غني) فلا ينتظر من عطائه نفعًا.

2.   جبر التقصير: جاءت في سياق شكر النعم، فمن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن غنى الله يمنع تضرر الإله، وكرمه يفتح باب العودة للكافر.

الملكات الإنسانية لمقتضى (الْغَنِيُّ الْكَرِيمُ):

ملكة "السخاء المتجرد": أن يعطي الإنسان من ماله أو علمه أو وقته وهو "مستغنٍ" عن كلمة شكر. هي "الأريحية" التي تجعل العطاء نابعًا من فيض الشخصية لا من رغبة في المقايضة.

 

رابعًا: المثنى (الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ)

"الاقتدار الحاني" (Sovereign Mercy)

ورد في سورة الأنعام {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ}. السمة المركبة هنا هي "الرحمة التي لا تشوبها شائبة".

1.   رحمة اختيار لا اضطرار: البشر يرحمون أحيانًا بدافع الضعف أو الخوف أو القرابة. أما الله فهو (غني) عن خلقه، ورحمته بهم (ذو الرحمة) هي مِلك له، يفيض بها عليهم تلطفًا.

2.   القدرة على الاستبدال: جاءت الآية بتهديد {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ}، لتبين أن رحمته بنا ليست لحاجته إلينا، بل هي محض فضل.

الملكات الإنسانية لمقتضى (الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ):

ملكة "الرحمة القوية": أن ترحم من تحت يدك (موظف، طفل، ضعيف) وأنت في قمة قوتك وغناك عنه. هي رحمة "الكبار" التي تنبع من السمو الأخلاقي لا من الضعف الوجداني.

 

خامسًا: جدول المقارنة للمنظومة (القيم الذاتية)

 

المثنى

تجلي "الغنى الذاتي" فيه

الملكة الإنسانية المستنبطة

الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ

غنىً يفيض بصفات الجمال والكمال.

النزاهة والسمو الأخلاقي المتجرد.

الْغَنِيُّ الْكَرِيمُ

غنىً يفيض بالجود والابتداء بالنعم.

الأريحية والسخاء غير المشروط.

الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ

غنىً يفيض بالشفقة والاحتواء.

التواضع عند القدرة والرحمة المقتدرة.

 

الخلاصة المنهجية لـ "منظومة أسماء الغنى القَبْلية ":

هذه المنظومة تبني في الإنسان "المركزية الداخلية". الشخص الذي يتشرب هذه المعاني:

1.   لا ينتظر تقييمًا من الخارج (لأنه يسعى ليكون حميدًا في ذاته).

2.   لا يذل لحاجة (لأنه مستغنٍ بربه).

3.   لا يبخل بفضل (لأن الكرم أصبح طبعًا فيه).

 

هذه المنظومة تحول الإنسان من "مستجيب للمؤثرات الخارجية" إلى "منبع للقيم الذاتية".

خاتمة

تكشف منظومة أسماء الغِنَى القَبْليّة أن الغِنَى في التصور القرءاني سمة ذاتية كيانية، تقتضي سمات إفاضية، وأنه ليس ضدّ الرحمة، ولا نقيض العطاء، ولا مرادف اللامبالاة، بل يقتضي الكمال في العطاء.

ومن لم يُثمر فيه الغِنَى كرامةً، وسخاءً، ورحمةً غير مشروطة، فقد فهم الغِنَى فهمًا مادّيًا، لا أنطولوجيًا.

لأن الغِنَى الحق لا يعني أن لا تحتاج، بل أن تعطي عطاء الواثق بربه.

 

*******

*******

*******

هناك تعليق واحد:

  1. مقالة عظمة، كيف يقرأ القرءان الكريم، وكيف يفعل القرءان في حياة الإنسان

    ردحذف