الحكم المنسوب إلى الله
تُعد قضية انفراد الله سبحانه وتعالى
بالحكم والتشريع (Exclusive Divine Sovereignty and
Legislation) المحور الذي تدور حوله رحى التوحيد بشقيه
العلمي والعملي.
إن هذا التفرد هو مقتضى ذاتي نابع من
كمال أسماء الله وسماته، حيث يتلازم الخلق والأمر تلازمًا وجوديًا ومنطقيًا.
كما تعد قضية الحاكمية الإلهية (Divine
Sovereignty) الركيزة الأساسية في الفكر العقدي
التشريعي، حيث يتقرر أن السيادة المطلقة في التشريع والتقييم تعود حصرًا إلى الله
سبحانه وتعالى. إن المبدأ القرآني القائل "إن الحكم إلا لله" يمثل
المرجعية العليا (Ultimate Authority)
التي تنبثق عنها كافة التصنيفات الوجودية والأخلاقية.
أولًا: الأبعاد الوظيفية للحكم الإلهي (Functional
Dimensions of Divine Judgment)
يتخذ الحكم الإلهي مسارات متعددة تتكامل
فيما بينها لضبط حركة الوجود والاجتماع البشري، ويمكن حصرها في المستويات التالية:
1.
المستوى
التشريعي (Legislation):
ويتمثل في تقدير الحكم الشرعي وصياغته (Formulation of
Divine Law)؛ أي إصدار الأوامر والنواهي التي تمثل
المعيار الأخلاقي والقانوني للفعل البشري.
2.
التوصيف
المعياري العام (Normative Classification): وهو إعطاء "قيمة شرعية" (Legal
Value) للأفعال الإنسانية بصفة عامة، كتحليل ماهية الفعل وتصنيفه كـ شرك
(Polytheism)
أو عمل صالح (Righteous Deed)، مما يؤصل لمنظومة القيم (Axiology).
3.
التقييم
الإجرائي الخاص (Assessment of Individual Agency):
ويتعلق بتوصيف الفعل الصادر عن ذات معينة في سياق محدد. هنا يتم فحص الاستجابة (Response)
ومدى مطابقتها للأمر الشرعي، سواء كانت استجابة إيجابية (Compliance)
أو سلبية (Defiance)،
مع مراعاة التراتبية في درجات الامتثال.
4.
التوسيم الوجودي
للأفراد (Ontological
Labeling): لا يقتصر الحكم على الفعل بل يمتد لتقييم
"الذات" (The Subject) بناءً على مجمل سلوكها وتوجهها، فيصدر
الحكم بكون الفرد صالحًا، فاسقًا، كافرًا، أو منافقًا. وهو ما يعرف في البحث
الأكاديمي بالهوية العقدية (Teleological Identity).
5.
الفصل القضائي
الدنيوي (Judicial
Adjudication): ويشمل الحكم بين الناس في الشؤون العامة
والنزاعات الظاهرة (Resolution of Conflicts)،
مما يضمن العدالة الاجتماعية (Social Justice).
6.
الحكم الأخروي
النهائي (Eschatological
Verdict): وهو الحكم في "يوم الفصل" (Day of
Decision)، حيث تتحقق العدالة المطلقة والجزاء
النهائي (Final
Retribution).
ثانيًا: المرتكزات المعرفية للحكم (Epistemological
Foundations)
إن الأحكام الإلهية لا تصدر إلا عن علم
محيط وتفصيلي (Comprehensive Knowledge). فالحكم الإلهي ليس مجرد قرار سلطوي، بل هو
نتاج العلم الإلهي الكامل الذي يحيط بالظواهر والبواطن، مما يمنح الحكم صفة اليقين
الإبستمولوجي (Epistemological Certainty).
ثالثًا: منظومة أسماء الحكم (The
System of Divine Attributes of Governance)
يمارس الله حكمه من خلال منظومة متكاملة
من الأسماء الحسنى التي تمثل "صفات الحوكمة الإلهية"، وهي:
أسماء الحلقة الإلهية "الْمَلِك
الْقُدُّوس الْعَزِيز الْحَكِيمِ"
- الْمَلِك: دلالة على السيادة
والملكوت (Sovereignty).
- الْقُدُّوس: دلالة على
النزاهة عن الجور والنقص (Transcendence).
- الْعَزِيز: دلالة على القوة
والنفاذ (Might/Omnipotence).
- الْحَكِيم: وهو الاسم
المحوري الذي يربط الحكم بالغائية والحكمة (Teleology
and Wisdom).
والمثاني:
- العزيز الحكيم: الجمع بين
القدرة النافذة والحكمة في التدبير.
- العليّ الحكيم: السمو المطلق
مع دقة التشريع.
- العليم الحكيم: بناء الحكم
على معرفة تامة.
- التواب الحكيم: فتح باب
التصحيح الأخلاقي ضمن إطار الحكمة.
- الواسع الحكيم: سعة الرحمة
والقدرة مع إحكام النظام.
- أحكم الحاكمين وخير
الحاكمين: دلالة على بلوغ الذروة في كمال القضاء والعدل.
وهناك اسمان لا يتضمنان الاسم المفرد
"الحكيم"، وهما:
أ. الثنائية النافذة: الْعَزِيزُ
الْعَلِيمُ (The Invincible, The Omniscient)
النص التأسيسي: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي
بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [النمل: 78].
- التحليل المفاهيمي (Conceptual
Analysis): يركز هذا المقترن على نفاذ الحكم (Execution
of Judgment). فالحكم بلا قوة تحميه وتنفذه هو حكم
عاجز، والقوة بلا علم يوجهها هي بطش وجور. لذا، جاء الْعَزِيز ليعطي الحكم
صفة "المناعة والنفاذ" (Inviolability
and Enforcement)، وجاء الْعَلِيم ليضمن أن هذا القضاء
صادر عن إحاطة تامة بوقائع النزاع.
ب. الثنائية الكاشفة: الْفَتَّاحُ
الْعَلِيمُ (The Arbitrator, The All-Knowing)
النص التأسيسي: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا
رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ}
[سبأ: 26].
- التحليل المفاهيمي (Conceptual
Analysis): يجسد اسم الله الْفَتَّاح وظيفة
"الفصل القضائي" (Judicial Decisiveness). الفتح هنا ليس مجرد نصر، بل هو إزالة "الانسداد
المعرفي" والالتباس بين الخصوم. اقترانه بـ الْعَلِيم يشير إلى أن الحكم
الإلهي يرتكز على الشفافية المطلقة (Absolute
Transparency)؛ فلا يُفتح بين الخصوم إلا بناءً على
علم مسبق ومحيط بظواهر الأمور وبواطنها.
الفتاح.. كشف الحقيقة وجلاء النزاع (Disclosure
and Judicial Revelation)
يبرز اسم الْفَتَّاح كعنصر حاسم في
العملية القضائية الإلهية. فوظيفة "الفتاح" تتمثل في الكشف والبيان (Disclosure
and Revelation). "الفتاح" هو الذي يزيل الحجب عن
الحقائق المستترة (Veiled Truths) التي هي محل نزاع بين الخصوم. وبذلك، يمارس
"الفتاح" دور القاضي الذي يجلي غموض القضية، وما يعقب هذا
"الفتح" من قرار هو الحكم (The Verdict).
فـ "الفتح" هو مقدمة كشف الحق، و"الحكم" هو النتيجة المترتبة
على ذلك الجلاء.
إن انفراد الله بالحكم والتشريع هو ضرورة
وجودية وأخلاقية. فالعقل يقر بأن الذي خلق (The Creator)
هو وحده الذي يملك حق الأمر (The Legislator)، لأن علمه بالصنعة يقتضي علمه بما يصلحها.
وأي محاولة بشرية للتشريع المستقل بعيدًا عن مشكاة الوحي هي محاولة لملء فراغ لا
يملؤه إلا الْعَلِيم الْحَكِيم.
وبذلك يتضح أن "الدين القيم"
هو الامتثال المطلق لهذا الحكم المنفرد صيانةً للكرامة الإنسانية من عبودية
القوانين القاصرة.
*******
*******
*******