الثلاثاء، 23 ديسمبر 2025

الحكم المنسوب إلى الله


الحكم المنسوب إلى الله

 

تُعد قضية انفراد الله سبحانه وتعالى بالحكم والتشريع (Exclusive Divine Sovereignty and Legislation) المحور الذي تدور حوله رحى التوحيد بشقيه العلمي والعملي.

إن هذا التفرد هو مقتضى ذاتي نابع من كمال أسماء الله وسماته، حيث يتلازم الخلق والأمر تلازمًا وجوديًا ومنطقيًا.

كما تعد قضية الحاكمية الإلهية (Divine Sovereignty) الركيزة الأساسية في الفكر العقدي التشريعي، حيث يتقرر أن السيادة المطلقة في التشريع والتقييم تعود حصرًا إلى الله سبحانه وتعالى. إن المبدأ القرآني القائل "إن الحكم إلا لله" يمثل المرجعية العليا (Ultimate Authority) التي تنبثق عنها كافة التصنيفات الوجودية والأخلاقية.

أولًا: الأبعاد الوظيفية للحكم الإلهي (Functional Dimensions of Divine Judgment)

يتخذ الحكم الإلهي مسارات متعددة تتكامل فيما بينها لضبط حركة الوجود والاجتماع البشري، ويمكن حصرها في المستويات التالية:

1.   المستوى التشريعي (Legislation): ويتمثل في تقدير الحكم الشرعي وصياغته (Formulation of Divine Law)؛ أي إصدار الأوامر والنواهي التي تمثل المعيار الأخلاقي والقانوني للفعل البشري.

2.   التوصيف المعياري العام (Normative Classification): وهو إعطاء "قيمة شرعية" (Legal Value) للأفعال الإنسانية بصفة عامة، كتحليل ماهية الفعل وتصنيفه كـ شرك (Polytheism) أو عمل صالح (Righteous Deed)، مما يؤصل لمنظومة القيم (Axiology).

3.   التقييم الإجرائي الخاص (Assessment of Individual Agency): ويتعلق بتوصيف الفعل الصادر عن ذات معينة في سياق محدد. هنا يتم فحص الاستجابة (Response) ومدى مطابقتها للأمر الشرعي، سواء كانت استجابة إيجابية (Compliance) أو سلبية (Defiance)، مع مراعاة التراتبية في درجات الامتثال.

4.   التوسيم الوجودي للأفراد (Ontological Labeling): لا يقتصر الحكم على الفعل بل يمتد لتقييم "الذات" (The Subject) بناءً على مجمل سلوكها وتوجهها، فيصدر الحكم بكون الفرد صالحًا، فاسقًا، كافرًا، أو منافقًا. وهو ما يعرف في البحث الأكاديمي بالهوية العقدية (Teleological Identity).

5.   الفصل القضائي الدنيوي (Judicial Adjudication): ويشمل الحكم بين الناس في الشؤون العامة والنزاعات الظاهرة (Resolution of Conflicts)، مما يضمن العدالة الاجتماعية (Social Justice).

6.   الحكم الأخروي النهائي (Eschatological Verdict): وهو الحكم في "يوم الفصل" (Day of Decision)، حيث تتحقق العدالة المطلقة والجزاء النهائي (Final Retribution).

ثانيًا: المرتكزات المعرفية للحكم (Epistemological Foundations)

إن الأحكام الإلهية لا تصدر إلا عن علم محيط وتفصيلي (Comprehensive Knowledge). فالحكم الإلهي ليس مجرد قرار سلطوي، بل هو نتاج العلم الإلهي الكامل الذي يحيط بالظواهر والبواطن، مما يمنح الحكم صفة اليقين الإبستمولوجي (Epistemological Certainty).

ثالثًا: منظومة أسماء الحكم (The System of Divine Attributes of Governance)

يمارس الله حكمه من خلال منظومة متكاملة من الأسماء الحسنى التي تمثل "صفات الحوكمة الإلهية"، وهي:

أسماء الحلقة الإلهية "الْمَلِك الْقُدُّوس الْعَزِيز الْحَكِيمِ"

  • الْمَلِك: دلالة على السيادة والملكوت (Sovereignty).
  • الْقُدُّوس: دلالة على النزاهة عن الجور والنقص (Transcendence).
  • الْعَزِيز: دلالة على القوة والنفاذ (Might/Omnipotence).
  • الْحَكِيم: وهو الاسم المحوري الذي يربط الحكم بالغائية والحكمة (Teleology and Wisdom).

والمثاني:

  • العزيز الحكيم: الجمع بين القدرة النافذة والحكمة في التدبير.
  • العليّ الحكيم: السمو المطلق مع دقة التشريع.
  • العليم الحكيم: بناء الحكم على معرفة تامة.
  • التواب الحكيم: فتح باب التصحيح الأخلاقي ضمن إطار الحكمة.
  • الواسع الحكيم: سعة الرحمة والقدرة مع إحكام النظام.
  • أحكم الحاكمين وخير الحاكمين: دلالة على بلوغ الذروة في كمال القضاء والعدل.

وهناك اسمان لا يتضمنان الاسم المفرد "الحكيم"، وهما:

أ. الثنائية النافذة: الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (The Invincible, The Omniscient)

النص التأسيسي: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [النمل: 78].

  • التحليل المفاهيمي (Conceptual Analysis): يركز هذا المقترن على نفاذ الحكم (Execution of Judgment). فالحكم بلا قوة تحميه وتنفذه هو حكم عاجز، والقوة بلا علم يوجهها هي بطش وجور. لذا، جاء الْعَزِيز ليعطي الحكم صفة "المناعة والنفاذ" (Inviolability and Enforcement)، وجاء الْعَلِيم ليضمن أن هذا القضاء صادر عن إحاطة تامة بوقائع النزاع.

ب. الثنائية الكاشفة: الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (The Arbitrator, The All-Knowing)

النص التأسيسي: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ: 26].

  • التحليل المفاهيمي (Conceptual Analysis): يجسد اسم الله الْفَتَّاح وظيفة "الفصل القضائي" (Judicial Decisiveness). الفتح هنا ليس مجرد نصر، بل هو إزالة "الانسداد المعرفي" والالتباس بين الخصوم. اقترانه بـ الْعَلِيم يشير إلى أن الحكم الإلهي يرتكز على الشفافية المطلقة (Absolute Transparency)؛ فلا يُفتح بين الخصوم إلا بناءً على علم مسبق ومحيط بظواهر الأمور وبواطنها.

الفتاح.. كشف الحقيقة وجلاء النزاع (Disclosure and Judicial Revelation)

يبرز اسم الْفَتَّاح كعنصر حاسم في العملية القضائية الإلهية. فوظيفة "الفتاح" تتمثل في الكشف والبيان (Disclosure and Revelation). "الفتاح" هو الذي يزيل الحجب عن الحقائق المستترة (Veiled Truths) التي هي محل نزاع بين الخصوم. وبذلك، يمارس "الفتاح" دور القاضي الذي يجلي غموض القضية، وما يعقب هذا "الفتح" من قرار هو الحكم (The Verdict). فـ "الفتح" هو مقدمة كشف الحق، و"الحكم" هو النتيجة المترتبة على ذلك الجلاء.

إن انفراد الله بالحكم والتشريع هو ضرورة وجودية وأخلاقية. فالعقل يقر بأن الذي خلق (The Creator) هو وحده الذي يملك حق الأمر (The Legislator)، لأن علمه بالصنعة يقتضي علمه بما يصلحها. وأي محاولة بشرية للتشريع المستقل بعيدًا عن مشكاة الوحي هي محاولة لملء فراغ لا يملؤه إلا الْعَلِيم الْحَكِيم.

وبذلك يتضح أن "الدين القيم" هو الامتثال المطلق لهذا الحكم المنفرد صيانةً للكرامة الإنسانية من عبودية القوانين القاصرة.

*******

*******

*******

الاثنين، 22 ديسمبر 2025

*منظومة أسماء الغنى القَبْلية: الغنيّ، الغني الحميد، الغني الكريم، الغني ذو الرحمة

 

*منظومة أسماء الغنى القَبْلية: الغنيّ، الغني الحميد، الغني الكريم، الغني ذو الرحمة


أسماء الغنى القَبْلية هي الغنيّ، الغني الحميد، الغني الكريم، الغني ذو الرحمة، وهي تشكل "مربع الغنى الذاتي". ما يميز هذه المنظومة أن لها أفعال الاتسام الذاتي" (غنِيَ، حمُدَ، كرُمَ)، وهي أفعال تدل على صفات لازمة للذات الإلهية قبل أن تتعلق بالخلق.

الله غني لذاته، حميد لذاته، كريم لذاته، وفضلُه على الخلق هو "فيض" من هذه السمات الكيانية.

أولًا: السمة الكيانية (الْغَنِيُّ)

"الاكتفاء الذاتي المطلق" (Ontological Self-Sufficiency)

الاسم (الْغَنِيُّ) هو المركز. "غنِيَ" فعل لازم يعبر عن حالة استغناء كلي عن الأغيار. الله غني عن الزمان، عن المكان، وعن العباد وعن الأرزاق.

1.   مقتضى العظمة: غناه ليس "تجمع موارد" بل هو الاكتفاء الذاتي المطلق.

  1. الملكة الإنسانية (الاستغناء بالله): هي ملكة "الحرية الداخلية". العبد الذي يتمثل "الغنى" لا يشعر بالفقر مهما قلّ ماله، لأنه يستمد كفايته من الغني. هي عزة النفس التي تمنع الإنسان من الانكسار أمام المادة أو الأشخاص.

 

ثانيًا: المثنى (الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)

"كمال الذات وجمال الصفات" (Intrinsic Sufficiency & Praiseworthiness)

السمة المركبة هنا هي "الغنى الذي لا يولد استكبارًا". في العرف البشري، قد يؤدي الغنى إلى الطغيان {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}، لكن الله (غني) ومع ذلك هو (حميد)؛ أي موصوف بكل صفات الجمال التي تُحمد.

1.   غنىً محمود: غناه يفيض بالخير على عباده، لذا يُحمد على غناه كما يُحمد على عطائه.

2.   التنزيه المطلق: ورد هذا المثنى كثيرًا في سياق العبادات والإنفاق {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ}، ليؤكد أن طاعتك لا تنفعه ومعصيتك لا تضره، فمحموديته ذاتية.

الملكات الإنسانية لمقتضى (الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ):

ملكة "الجمال المستقل": أن يكون الإنسان صاحب خلق رفيع (حميد) ليس من أجل نيل مصلحة من الناس، بل لأن "الحمد" أصبح صفة ثابتة فيه، تمامًا كما هو "غني" عن مدحهم.

 

ثالثًا: المثنى (الْغَنِيُّ الْكَرِيمُ)

"فيض الذات على الوجود" (Magnanimous Self-Sufficiency)

ورد في سورة النمل {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}. السمة المركبة هنا هي "عطاء التفضل لا عطاء التبادل".

1.   كرمٌ غير معلل بالحاجة: الكريم من البشر قد يعطي ليُقال عنه كريم، أو ليكسب ولاءً. أما الله فهو (كريم) لأن الكرم سجيته (كرُمَ)، وهو (غني) فلا ينتظر من عطائه نفعًا.

2.   جبر التقصير: جاءت في سياق شكر النعم، فمن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن غنى الله يمنع تضرر الإله، وكرمه يفتح باب العودة للكافر.

الملكات الإنسانية لمقتضى (الْغَنِيُّ الْكَرِيمُ):

ملكة "السخاء المتجرد": أن يعطي الإنسان من ماله أو علمه أو وقته وهو "مستغنٍ" عن كلمة شكر. هي "الأريحية" التي تجعل العطاء نابعًا من فيض الشخصية لا من رغبة في المقايضة.

 

رابعًا: المثنى (الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ)

"الاقتدار الحاني" (Sovereign Mercy)

ورد في سورة الأنعام {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ}. السمة المركبة هنا هي "الرحمة التي لا تشوبها شائبة".

1.   رحمة اختيار لا اضطرار: البشر يرحمون أحيانًا بدافع الضعف أو الخوف أو القرابة. أما الله فهو (غني) عن خلقه، ورحمته بهم (ذو الرحمة) هي مِلك له، يفيض بها عليهم تلطفًا.

2.   القدرة على الاستبدال: جاءت الآية بتهديد {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ}، لتبين أن رحمته بنا ليست لحاجته إلينا، بل هي محض فضل.

الملكات الإنسانية لمقتضى (الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ):

ملكة "الرحمة القوية": أن ترحم من تحت يدك (موظف، طفل، ضعيف) وأنت في قمة قوتك وغناك عنه. هي رحمة "الكبار" التي تنبع من السمو الأخلاقي لا من الضعف الوجداني.

 

خامسًا: جدول المقارنة للمنظومة (القيم الذاتية)

 

المثنى

تجلي "الغنى الذاتي" فيه

الملكة الإنسانية المستنبطة

الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ

غنىً يفيض بصفات الجمال والكمال.

النزاهة والسمو الأخلاقي المتجرد.

الْغَنِيُّ الْكَرِيمُ

غنىً يفيض بالجود والابتداء بالنعم.

الأريحية والسخاء غير المشروط.

الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ

غنىً يفيض بالشفقة والاحتواء.

التواضع عند القدرة والرحمة المقتدرة.

 

الخلاصة المنهجية لـ "منظومة أسماء الغنى القَبْلية ":

هذه المنظومة تبني في الإنسان "المركزية الداخلية". الشخص الذي يتشرب هذه المعاني:

1.   لا ينتظر تقييمًا من الخارج (لأنه يسعى ليكون حميدًا في ذاته).

2.   لا يذل لحاجة (لأنه مستغنٍ بربه).

3.   لا يبخل بفضل (لأن الكرم أصبح طبعًا فيه).

 

هذه المنظومة تحول الإنسان من "مستجيب للمؤثرات الخارجية" إلى "منبع للقيم الذاتية".

خاتمة

تكشف منظومة أسماء الغِنَى القَبْليّة أن الغِنَى في التصور القرءاني سمة ذاتية كيانية، تقتضي سمات إفاضية، وأنه ليس ضدّ الرحمة، ولا نقيض العطاء، ولا مرادف اللامبالاة، بل يقتضي الكمال في العطاء.

ومن لم يُثمر فيه الغِنَى كرامةً، وسخاءً، ورحمةً غير مشروطة، فقد فهم الغِنَى فهمًا مادّيًا، لا أنطولوجيًا.

لأن الغِنَى الحق لا يعني أن لا تحتاج، بل أن تعطي عطاء الواثق بربه.

 

*******

*******

*******

الثلاثاء، 9 ديسمبر 2025

سمة المجد الإلهي

 

سمة المجد الإلهي

 

تشكل سمة المجدالتي نُسبت في النص القرءاني إلى الله، وإلى قرءانهسمةً كلية (Meta-Attribute) تُمثل البنية العلوية للكمال الإلهي من حيث الرفعة، السيادة، اتساع الفضل، وامتداد أثر العطاء. وليس المجد وصفًا طارئًا أو تابعًا، بل هو ثابتٌ أنطولوجيًّا (Ontological Constant)، تُشتق منه سائر تجليات الرحمة والحكمة والإحسان في الوجود.

تلتقي في هذا النسق ثلاثةُ تجليات إلهية قرءانية:

  • المجيد (Al-Majîd)،
  • الحميد المجيد Al-amîdul-Majîd 
  • ذو العرش المجيد (Possessor of the Glorious Throne)،

لتقدّم تصورًا متكاملًا عن عظمة الذات الإلهية وامتداد الفضل وسيادة الأمر وطلاقة الإرادة.

 

أولًا: التحليل اللغوي لبنية الاسم "المجيد  Al-Majîd"

كلمة المجيد هي اسم فاعل ذاتي معنوي مؤكد، على وزن فعيل، وهو من صيغ الاتِّسام الثابتة التي تعبّر عن الرسوخ والاستمرار.
وتدل مادة م–ج–د لغويًا على: العلو، الرفعة، الشرف، السَّناء، والتمام.

ويكشف ذلك عن بُعدين متكاملين:

 

البنية

الدلالة

مَجُدَ، فعل لازم

ثبوت العزة والرفعة والعظمة في الذات

مَجَدَ، فعل لازم ومتعدٍّ

ظهور أثر العزة والرفعة والعظمة وامتدادها

 

 

ثانيًا: دلالة الاسم كرمز

الرمز يدل على أن الله هو أصل كل جلالٍ وجمالٍ ودوامٍ وكرامةٍ، فهو الكامل في ذاته وأسمائه وأفعاله، لا يطرأ عليه تغير، ولا تنقطع مظاهر سُننه في العالم، وهو يشير إلى ثبات كل سمات الجلال والحسن والخير التام لله وإلى أنها واجبة باقية ثابتة، لا تزول ولا تتغير، وإلى أنه أصل كل ما ظهر وتجلى من تفاصيلها وإلى أن تلك السمات تقتضي بذاتها مجالات ظهورها.

المجيد = الذي مجدُه من ذاته، لا من شهادات خلقه.
العظمة هنا مطلقة غير إضافية.

المجيد هو الله ذو العظمة المطلقة في ذاته، التي لا تُكتسب ولا تُقارن، وتتجلى في الخلق سعةً في الفضل،
وامتدادًا في العطاء، وعلوًا في الشأن لا حدّ له.

أي باختصار شديد: المجيد: عظمة الذات، وامتداد الفضل، وعلوّ لا يُحد

فالمجيد هو الذي يظهر بكمال الجلال، فيثبت مجده ويمتد أثره في كل شيء

فهو اسم جامع بين "العظمة" و"الكرم" و"السعة" بحيث يعمّ الوجود كله، فلا يخرج شيء عن إشراقه ولا يفوته أحد من عطائه الممتلئ بالفيض الدائم الثابت

 

ثالثًا: المثنى "الحميد المجيد Al-amîdul-Majîd "   

إن الجمع بين الاسم الحميد والاسم المجيد لا يأتي للتزيين اللغوي، بل لتأسيس سمة وجودية واحدة Unified Divine Attribute تُظهر:

أ‌.      أن الذات تُحمد لذاتها (Intrinsic Worthiness of Praise)،

ب‌.  وأن آثارها تتجلى مجدًا ممتدًا في الوجود (Transcendent Manifestation).

فالحميد يشير إلى أصل الكمال،
والمجيد يشير إلى امتداد ذلك الكمال في صورة فضلٍ وعطاءٍ وسيادةٍ ورحمةٍ.

ولهذا يمنح هذا التركيب إطارًا يفسّر ما يتجاوز المألوف من أمر الله:

{قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيد} [سورة هود: 73]

فالآية تربط الرحمة والبركات بكونه حميدًا مجيدًا، لتقرر أن مصادر الخير غير محصورة في السنن المعتادة؛ إذ هناك قوانين فوق العادة (Meta-law) تعمل وفق مقتضيات سماتٍ استأثرها الله لنفسه.

 

رابعًا: الاسم "المجيد، Al-Majîd"

يتضمن الاسم "المجيد" معنيين متلازمين:

1.   كمالٌ باطنٌ ثابتٌ لا يُكتسب

2.   وفعلٌ ظاهرٌ ممتدٌّ يفيض آثار الشرف والعطاء

وهذا يضع اسم المجيد في موقع الاسم الجامع المظهر لجلال سائر الأسماء الإلهية؛ فهو ليس مجرد صفة من صفات الله، بل مستوى علويٌّ تُرى من خلاله جميع الصفات في أفق طلاقتها وكمالها.

المجيد = كمال الذات + ظهور الامتداد + رفعة بلا حد + عطاء بلا نفاد.

والاسم "المجيد" يشير إلى سمة هي من تفاصيل السمة التي يشير إليها المثنى "الحميد المجيد"، وتلك السمة هي من لوازم حقيقة الله الذاتية كما أنها من لوازم ما هو له من السمات وما يتجلى به من سمات، فالمجد هو عظمة وجلال كل سمة وطلاقتها ولا تناهيها ووجوبها الذاتي، ولقد اتسم بهذه السمة وعرشه، وكذلك اتسم بها قرءانه، قال تعالى: {بَلْ هُوَ قرءان مَّجِيد} [البروج:21]

وهذا من لوازم صدوره عنه، وهذا يعني أيضا أن المجد هو لمن اعتصم به ولم يكن في صدره حرج منه فاتبعه واعتصم به وتمسك به، وهذا يعني أيضًا أن الخزي والذلة والمهانة هي لمن هجره وأعرض عنه وهو يزعم أنه من المؤمنين، ولقد قال الله تعالى عنه لرسوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُون} [الزخرف:44]

 

خامسًا: سمة المجد في سورة البروج: هندسة لاهوتية–كونية

ترسم سورة البروج معمارًا متكاملاً لسمة المجد:

إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ دائرة الخلق (Ontological Initiation)
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ دائرة الرحمة والعلاقة (Divine Relationality)
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ دائرة السيادة الكونية العليا (Cosmic Sovereignty)
فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ دائرة الإرادة المطلقة (Unrestricted Will)

هذه الرباعية تُظهر أن المجد ليس جمالًا فقط، بل نظامًا،
وليس رفعة فقط، بل فعالية،
وليس شرفًا فقط، بل امتدادًا حاكمًا.

وبذلك يصبح المجد بنيةً تتخلل: الخلق، والهداية، والتقدير، وجريان المقادير.

 

سادسًا: المجد في القرءان

عندما يصف الله كتابه بقوله:

{بَلْ هُوَ قرءان مَّجِيد} [البروج:21]فذلك يعني أن:

  • كماله في المبنى،
  • وجلاله في المعنى،
  • وسموّه في الهداية،
  • وشرف أثره في الوجود

جميعها صدرت عن مصدر المجد نفسه.

ومن هنا جاءت آية الزخرف:

{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُون} [الزخرف:44] فالقرءان ينقل المجد؛
من مصدره الإلهي إلى من يحمل نوره ويقوم بحقه.

 

سابعًا: المجد ومتطلبات الوجود الإنساني

الكون كلّه نشيد صامت للمجد الإلهي:

أ‌.      انتظام الحركة

ب‌.  تناغم القوى

ت‌.  حتمية السنن

ث‌.  تناسق المقادير

كلّها حمدٌ عملي وثناء وجودي.

غير أن الإنسانبما لديه من وعي، خطاب، إبداع، وحرية مشروطة Moral & Cognitive Agency—  هو ذروة التجلي المجيدي؛ لأنه:

أ‌.      يدرك ما لا تدركه الكائنات عن نفسها،

ب‌.  يكشف للوجود جوانب الكمال الإلهي،

ت‌.  ويُتم الحلقات المعرفية والوجودية في الكون.

إن الإنسان—إذا صَفَا—يغدو مرآةً عاكسةً لجلال الأسماء.

 

ثامنًا: جهة افتقار الكائنات:

لماذا تحتاج الكائنات إلى المجد؟

من حيث الاسم الحميد المجيد فإن كل كائن يفتقر إلى الله لأنه:

أ‌.      مصدر الإفاضات،

ب‌.  ومصدر القيمة،

ت‌.  ومصدر الرحمة والبركات.

والأصفياء—أهل البيت الحقيقيون، وأهل الصفاء في كل عصر—تظهر فيهم آثار هذا الاسم، وتنبثق منهم الرحمة والبركات التي تُشار إليها في النص القرءاني.

 

تاسعًا: البعد العملي: المجد وتجاوز العادة

اسم الحميد المجيد هو البوابة التي ينفذ منها غير المتوقع في حياة الأنبياء وأهل الاصطفاء؛ إذ تتجلى من خلاله قرارات الإرادة الإلهية التي لا تحدّها القوانين المشهودة.

ولهذا كان أقرب مقامات التوجّه في الصلاة على النبي ﷺ هو التوجّه إلى هذا الاسم، حيث تنزل الرحمة ويتجدد التكريم.

 

سمة المجد هي السمة التي تعني:

1.   للذات الإلهية كمالها،

  1. وللصفات الإلهية جلالها،
  2. وللإرادة طلاقتها،
  3. وللرحمة بهاءها،
  4. وللقرءان رفعة خطابه،
  5. وللعرش سيادته،
  6. وللإنسان شرف مقامه،
  7. وللوجود سمته الجمالية العليا.

إن المجد هو الوهج العلوي الذي منه يشرق الكمال كلّه، وإليه يعود، وبه تستنير السماوات والأرض وما بينهما.

وهو سرّ الانفتاح، ومفتاح البركات، والأفق الذي تُكسَر عنده حدود الممكن.
فمن توجّه إلى الحميد المجيد جاءته الرحمة من مشكاة العظمة، وامتد ذكره، وارتفع مقامه، واتصل نوره بنورٍ لا يزول.

*******

سمة المجد — حين يتجلّى العلوّ بنور العطاء

ليس المجد في اللغة مجرّد رفعةٍ تلامس حدود الخيال البشري، ولا شرفًا يزداد بزيادة الشهود، بل هو سناءٌ سابقٌ على الوجود، علوٌّ غير مُكتسَب، سيادةٌ لا تحتاج إلى شاهدٍ من خلق، وكرمٌ لا ينفد ولا يُقاس بمكيالٍ من نفع أو خير.
فالله المجيدمن حيث هو—كان ولا شيء معه، ولو لم يكن سواه موجودًا لبقي مجيدًا كما هو؛ لأن المجد صفةٌ من ذاتٍ لا تحتاج إلى مؤيّد، ولا تفتقر إلى مظهر خارجي لتثبت أنها سامقةٌ فوق القياس والمقارنة.

إن المجد في التصور الإيماني ليس تفوقًا نسبيًا يميل إلى المفاضلة أو يقيس الكمال بالكمال، وإنما هو العظمة بصيغة المطلق: العظمة التي لا تُكتسب، ولا تُنتزع، ولا تُمنَح من خارج، بل تفور من ذاتٍ هي أصل كل بهاء، ومنبع كل حسن، ومصدر كل نور.
إنه علوّ الذات، وامتداد الفضل، وفيض العطاء، وسيادة الإرادة، واتساع الرحمة، وكرمٌ تتسع له حافات الوجود فلا تضيق.

حين يخبرنا النص القرءاني عن الحميد المجيد فهو لا يضاعف الصفة ولا يجمّل المعنى، بل يُظهر اتحادًا عجيبًا بين كمال الذات (الحميد) وامتداد العطاء (المجيد)؛
فالحميد يستحق الحمد لذاته،
والمجيد يفيض من عطائه ما يجعل الوجود بحد ذاته تسبيحًا صامتًا ونشيدًا معلَنًا بلغة النجوم، والحركة، والقوانين، والمقاصد، والمصائر.

إن الكون—بما فيه من اتساق وانتظام—ليس مجرد دليل وجود، بل مرآة مجد؛
وكل شروق فجر هو صفحة جديدة لأثر من آثار المجد؛
وكل حياة تتشكل في رحمٍ صغير هي مماسات خفية لرحمةٍ مجيدة تنسج قوانينها في صمت.
وحتى الظلمات—بما فيها من عمق—تكشف مجد الخالق الذي يرى في العمق نورًا وفي الغياب حضورًا.

لكنّ الإنسان، هذا الكائن الذي جمع بين التراب والنَفَس، بين الضعف والبيان، بين الحاجة والحرية، هو ذروة المرايا التي ينعكس عليها المجد الإلهي في أعلى درجاته؛ لأنه وحده يستطيع أن:

1- يُدرك ما لم تُدرك الكائنات عن نفسها،

2- ويُسمّي ما لم تُسمّ المخلوقات ذاتها،

3- ويُحب حبًا هو عطاءٌ حرّ،

4- ويشتاق إلى معنى يتجاوز حدوده المادية،

5- ويبحث عمّا يفوقه، دون أن يملك سببًا ماديًا واضحًا لهذا التوق.

فحين يرقى الإنسان بروحه ويصفو، يغدو مَجْلى للمجد لا مجرّد مخلوقٍ نُقِش على صفحة الوجود.
وحين يحمل القرءان في قلبٍ طاهر، يصبح المجد كلمة تمشي على قدمين، ويصبح وجوده شهادةً للآخرين على أن الله—من حيث المجيدلا يزال يفيض، ويهدي، ويكرم، ويتجلّى.

إن المجد ليس زينة الملوك، ولا صفة الأقوياء، ولا هالةً على رؤوس أصحاب السلطان، بل هو نورٌ في الضعف، وعلوٌ في الخفاء، وكرامةٌ في الصبر، وسناءٌ في الصدق.
إن المجد الإلهي لا يحتاج مظاهر القوّة كي يثبت قوته، ولا ينتظر من يضع له تاجًا، فهو تاج الوجود كله.

وعندما تنفتح النوافذ على عالم الغيب، ويتجلى ما فوق المألوف، وتتبدل المسافات، ويقع ما لا يتوقعه البشر، فإن سمة المجد هي المفتاح، لأن الحميد المجيد هو الاسم الذي تُصنع عنده العطايا فوق السنن، وتُفتح الأبواب التي ظنّ الناس أنها مغلقة بالأبدية.

ومن كان نصيبه من هذا المجد أن يتصل به—ولو بقدرٍ يسير—فإنه يرتفع بقدر ما يصدق، ويزداد نورًا بقدر ما يطهر قلبه، ولا يحتاج إلى شهودٍ يرفعونه، لأن المجد لا يُعار، ولا يستعار، ولا يُشترى، بل يُوهب من عند الحميد المجيد.

*******

*******

*******