الخميس، 27 نوفمبر 2014

حقيقة الشفاعة ج1

حقيقة الشفاعة ج1

إن الشفاعة الحقيقية تجلُّ عن المفهوم العامي الدارج لها، فهي بالأصالة فعل إلهي يقتضي نسقاً من السنن الكونية الخاصة بالمخيرين وليست بالأمر العشوائي الاعتباطي، ولا علاقة لها بالأهواء أو الأمور الشخصية أو الذاتية وإنما هي أمر حقاني يتحقق بمقتضي السنن الإلهية، فلابد من توفر استعداد لدى الإنسان يجعله قابلاً لتلقي التأثير من الشافع والإفادةِ منه، ويجب أن يجد أثر ذلك في نفسه بصلاح أمره، وشفاعة إنسانٍ لإنسان لا تكون إلا لمن ارتضى الله تعالى، فهي تتم بالإذن الإلهي.
فالشفاعة ليست بمحسوبية ولا بمحاباة ولا يحصل بسببها المرء علي ما ليس بحق له نتيجة تدخل من ذوي الحيثية وإنما هي قبول الهداية وقبول التأثر بأدعية الصالحين وقبول العون الروحاني منهم لوجود استعداد لذلك، فالشافع يتسبب في إيجاد إمكاناتٍ وفرصٍ أفضل لطالب الشفاعة يمكنه الافادةُ منها واستثمارها الاستثمارَ الأمثل كما يمكنه أيضاً أن يبددها، ومن أعظم ما يمكن أن يشفعَ في الإنسان العمل الصالح ذو الأثر الشامل الممتد وخاصة إذا انتفع به عدد أكبر من الناس، والانتفاع بالشفاعة يكون وفق نسق من السنن التي هي من مقتضيات الأسماء الحسنى، فلا يمكن أن يترتب عليه ظلم لأحد.
-------
إن الشفاعة هي سنة من السنن الكونية الخاصة بالكائنات المكلفة ذات الإرادة والاختيار، فالشفاعة هي أن يؤيَّدَ الإنسان باسمٍ إلهي أو بكيان أمري معنوي أو بكائن علوي نتيجة لقيامه بالأعمال وتوفيته بالشروط اللازمة لذلك، فقد يتعلق الإنسان باسم إلهي ويكثر من ذكره ويتحقق بمقتضياته فيظفر بالتأييد الإلهي من حيث هذا الاسم، فيقال عندها أن الاسم الإلهي شفع فيه، ولابد لذلك من أثر في تلك الحياة الدنيا، وسيعرف الإنسان ذلك حتما في يوم القيامة.
وقد يحب الإنسان النبي الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ فيكثر من الصلاة عليه والتفكير في كماله ويعمل دائما على التأسي به فيدخل نفسه بذلك في المعية المحمدية فتجذبه أنوار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ إليه فيشفع فرديته ويكون له به عناية خاصة يدركها هذا الإنسان، ثم يظهر ذلك الأمر للناس كافة يوم القيامة، وقد يظهر بعضه لبعضهم في الدنيا، والشفاعة المحمدية تتم وفق قوانين الله وسننه، وإنكارها هو من علامات الشقاء والحرمان.
وقد يقيم الإنسان علاقة خاصة مع القرءان الكريم تلاوة وقراءة وتدبرا وتفكرا، فيشفع الله تعالى فيه من حيث القرءان، وهذه الشفاعة يترتب عليها أن يؤيده الله تعالى بروح منه وأن يكتب آياته في صدره، وقد يلزم الإنسان نفسه باحترام القوانين والسنن الإلهية والتعرف عليها فيراها تعمل لصالحه وتلك هي شفاعتها فيه وهي تقتضي شفاعة الملائكة الموكلة بتلك القوانين والسنن، وقد يشفع الخُلُق الحسن لصاحبه كما شفعت محبة الله ورسوله لشارب الخمر، فالخلق الحسن لابد إن عاجلا أو آجلا أن يجذب صاحبه بعيدا عن المعصية وهو لا يمكن آثارها من الإحاطة التامة به.
-------
إن الشفاعة هي تأييد ومعونة من كائن أعلى من  حيثيةٍ ما لكائن أدنى لديه استعداد لقبول المعونة, وبها تكون نجاته أو خروجه من الظلمات إلى النور أو ترقيه إلى مقام أعلى أو اكتسابه ملكات أسمى، والشفاعة بالأصالة هي لله تعالى، ولكن الشئون الإلهية الواجبة المطلقة لابد لها من آثار في عالم الخلق، فهناك شفعاء بإذن الله تعالى وبأمره ورضاه، والكائن الذي له أعظم شفاعة يمكن أن تكون لمخلوق هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم  إذ هو المأمور بالصلاة على المؤمنين وبإخراجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم العزيز الحميد، فهذا من شفاعته المأذون له فيها، ولحملة العرش شفاعة أيضا، ولذلك يصلون أيضاً على المؤمنين ويدعون الله تعالى لهم.
أما الشفاعة العظمى المطلقة فهي لله تعالى من حيث أسماء منظومة الرحمة والهدى، فالشفاعة هي أن ينضم الشافع إلى المشفع فيه بالنصر والتأييد والعون والإمداد، ومن تلك الحيثية فإن الشفاعة بالأصالة إنما هي لله تعالى، ذلك لأن منه كل ما ذكر وما من شفيع إلا من بعد إذنه أي بمقتضى قوانينه وسننه، فمخلوقاته هم آلاته وأدواته التي اقتضت سننه أن يستخدمهم لإيصال الخير إلى الناس وذلك لاستعداد خاص لديهم وملكات هي لهم ورغبة أصيلة في نفع الناس، وما شفاعة الشافعين إلا من آثار الشفاعة الإلهية ومقتضياتها.
والمفهوم الدنيوي الشائع عن الشفاعة يعني أن يحاول الشافع أن يحصل للمشفع فيه على ما ليس من حقه أو على مكانة ليس هو لها بأهل، ومثل تلك الشفاعة هي الشفاعة السيئة  التي يجل عن الاتصاف بها الإنسان النبيل فضلا عن رب العالمين، لذلك فإن من يلقي بنفسه في المعاصي اعتمادا على شفاعة يرقبها إنما هو متلاعب ومغامر بمصيره، وسرعان ما ستحيط به آثار خطاياه وربما قادته إلى الكفر، ذلك لأن من  ألف معصيةً ما وأدمنها حتى أصبح لا يمكنه العيش بدونها سيبغض الدين الذي يحرمها عليه ويكدر عليه صفو استمتاعه بها, فمثل هذا هالك لا محالة، ولن يجرؤ عبد على الشفاعة فيه، ذلك لأنه ليس لأحد أن يفرض على الحق ما يخالف سننه، ذلك لأن الكل يتقرب إليه بما يحب ويرضى وأهم أسباب الفوز برضاه الخضوع المطلق لسننه التي هي مقتضى أسمائه الحسنى.
والآيتان: {وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَة وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)} (البقرة) تدحضان ما لدى الناس من مفهوم عن الشفاعة الآن وتبينان أن هذا المفهوم هو الذي كان لدى بني إسرائيل من قبل، والآية: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ} (التوبة 113) تبين أنه لا جدوى من الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولى قربى، فلا جدوى من الشفاعة فيهم، ولقد قال تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }النساء123، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ{7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ{8}} (الزلزلة)،  فالشفاعة هي أمر محكوم بقوانين وسنن، والشرك يمنع قبول آثار الهداية وبالتالي لا شفاعة في مشرك.
إنه على الناس أن يعلموا أن كل ما ينسب إلى الله تعالى ينبغي أن ينسب إليه كما يليق بذاته فهو يتعالى علوا مطلقاً فوق كل التصورات والمفاهيم البشرية, والشفاعة لدى الناس تعني المحسوبيةَ والمحاباة وإعطاءَ من لا يستحق لقرابة دنيوية وإيثارَ المشفع فيه وتفضيلَه على من سواه أو رفعَ عقوبةٍ ما عنه...الخ، وكان من الواجب عليهم أن ينزهوا ربهم عن هذا التصور فهو سبحانه يجل عن كل ذلك ويتعالى عليه، ولقد قال تعالى: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(85 ) وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)} (الزخرف)، فالشهادة بالحق والعلم من لوازم الشفيع، ولذا فالشفاعة تتضمن الشهادة الصادقة في حق المشفوع فيه، والشفيع نفسه يخشى ربه الذي كان على كل شيء مقيتا.
-------
إن الشفاعة تعني انضماماً ما من شفيع إلى المشفوع فيه والذي كان وتراً فصار بانضمامه إليه شفعا، فهي تتضمن شهادةً طيبة في حقه ومحاولةَ إيصال نفعٍ ما إليه، وهي في كل الأحوال مسؤوليةٌ كبرى يتحملها الشفيع فإن كانت حسنةً قبلت منه ووجد أثرها وأثيب عليها وإن كانت سيئةً لم تقبل ولم تنفع ولم تؤثر، فالشفاعة هي أمرٌ بين طرفين، وقبولها يستلزم أيضاً أموراً لابد من تحققها لدى كلٍّ منهما، والشفاعة السيئة هي المعروفة بين العامة في مصر بـ"الوساطة"، وتلك الشفاعة مرفوضة بكل المقاييس، ولكن للأسف فإنها هي المفهوم الوحيد عن الشفاعة لدى أكثر الناس، والحق هو أن الشفاعةَ أمر محكوم بسنن لا تبديل لها ولا تحويل ولابد من أمرٍ ما في باطن الإنسان يجعله مستحقا لقبول الشفاعة، وقد يستحق الإنسان شفاعة اسم إلهي لوجود أثر المعنى الذي يشير إليه الاسم في ماهيته أو في نفسه كأن يكون بالغ الكرم مثلا أو أن يكون شديد الرحمة بالكائنات فيستحق شفاعة الاسم الكريم أو الاسم الرحيم، وعلامة قبول الشفاعة أن يجد الإنسان في نفسه أثرها في تلك الحياة الدنيا.
والشفاعة فعل إيجابي يترتب عليها إمدادُ باطن الإنسان مباشرة بالهدى أو بمزيد من العزم، وقد يقولون "ولم لا يشفع الله تعالى مباشرة لدى نفسه؟" فالجواب هو أنه تعالى لا يقيده شيء فله أن يجري الأمر باستعمال مخلوقاته الذين هم آلاته وأدواته وله أيضا أن يمدَّ عبده مباشرة بما يلزمه إن كان لدى العبد استعدادٌ لقبول ذلك وتحمله، فكما يوصل الرزق المادي لمن أراد عن طريق بعض العباد فإنه يوصل أثار الشفاعة وهي رزق معنوي إلى من ارتضى عن طريق بعض عباده أيضا، وهؤلاء الشفعاء إنما يُستخدَمون لذلك لأن لديهم الاستعداد لمساعدة الناس وإرشادهم؛ فالرب سبحانه لا يستخدم آلة إلا فيما تصلح له ولا يكلف نفساً إلا وسعها، ويجب الإقرارُ بان الأمر كله لله تعالى ومن ذلك الشفاعة، ولكن لابد من شكر الآلة أو الأداة أو السبب المباشر أيضا، ولما كانت الشفاعة من الأمور الباطنة فإنها ستنقلب في الآخرة أمراً ظاهرا ويعرف هنالك كل إنسان من كان سببا في إيصال الخير له.
إن الشفاعة محكومة بالإذن الإلهي أي بقوانين وسنن إلهية هي مقتضى الكمال الإلهي المطلق، فهي أرقي من التصورات البشرية وليس فيها شيء مما يعاب علي البشر من محسوبية ومحاباة ومجاملة، ذلك لأن الله تعالى منزه عن كمالاتهم فضلاً عن مقتضيات نقصهم، وإنما هي تعبير عن قبول بعض النفوس لتلقي التأثير الطيب من كائنات ارقي، فالأمر متاح للجميع، فمثل الكائن الراقي كمثل الشمس يسري ضوءُها فينتفع منه من ينتفع ويتضرر منه من يتضرر، ولذلك كانت الشفاعة بالأصالة لله تعالي فهو المالك الحقيقي لكل سمات الكمال وهو الواهب الحقيقي لها، فالشفاعة ليست بأمر اعتباطي وليست كما يتصورها البشر، ذلك لأن الله تعالي هو مصدر كل خلق كريم، وإنما هي تقبُّـل امرئ ما لتأثير كائن أرقي منه لتوافقٍ ما فيما بينهما أو لشدة تعلق طالب الشفاعة بالشفيع وحبه له وثقته به، فالشافع يستمد الكمال من ربه ويمد به من توافق معه ومن كان يتطلع ويرجو مددا إضافيا من ربه ويحسن الظن بالشفيع، فالشفاعة إنما تنسب إلى  كل ذاتٍ كما يليق بتلك الذات ولابد فيها من كيان معطٍ ومن كيان إنساني متقبل، فلابد للشفاعة ممن لديه استعداد للإعطاء وممن لديه استعداد للتلقي والقبول، ولما كان الله سبحانه هو مالك كل شيء ملكا حقيقيا كانت له الشفاعة جميعا وكل من هم دونه من شفعاء إنما يشفعون بإذنه بما استمدوه منه وبما تلقوه عنه وبمقتضي سننه، فلا محاباة ولا وساطة ولا محسوبية في الشفاعة، وكان علي الناس أن ينزهوا ربهم عن تصوراتهم وصفاتهم بل وعن كمالاتهم فكيف ينسبون إليه ما يترفعون هم عنه وما يعيب بعضهم بعضاً به.


هناك تعليقان (2):

  1. الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم ﴿255 البقرة 2﴾
    لا يوجد شفعاء إلا بإذنه هو جل جلاله «من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه» فلمن يأذن الله له؟ هل إنسان أو ملاك يشفع لآخر من البشر؟ أليس الله عليم خبير بما فعله المشفوع له فلا يحتاج لشفاعة الشفيع؟ فالله جل جلاله «يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه» فكيف إذن أن يشفع الناس للمشفوع لهم من الناس؟ فلابد إذن أن يكون هذا الشافع هو عمل الإنسان الذي يصاحبه من الدنيا إلى يوم الحساب. إما لماذا يأذن للشفيع (العمل) أليس هو كافيا بذاته؟ هذا الإذن هو قبول العمل «ليروا أعمالهم».
    يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. ﴿6 / 8 الزلزلة 99﴾
    ولماذا لا يشفع إنسان للإنسان آخر؟ هذا جائز في أمور الدنيا أن يشفع إنسان لأخر لإقناع صاحب الأمر بأحقية شفيعه بالأمر. إلا أنه لا يجوز في يوم القيامة. فتصور المجتمع غير قائم كما يقول الله جل جلاله.
    وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ﴿95 مريم 19﴾
    عزت هلال

    ردحذف