الأربعاء، 19 نوفمبر 2014

الشهيـد من الناس

الشهيـد من الناس


قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً } النساء69
الشهادة هي من مراتب من أنعم الله تعالى عليهم، والشهيد هو من بلغ المكانة التي تجعل شهادته معتمدةً عند رب العالمين، وهو بالطبع يكون مطلعا على ما هو منوط به الإدلاء بشهادة عنه، فالشهيد حيّ بنفسه عند ربه حياة حقيقية تكاد تكون حسية، والرسول الأعظم هو الشهيد على أمته وهو الشهيد على شهداء الأمم.
وتبين آيات القرءان أنه سبحانه قد اتخذ شهداء من الملائكة ومن خاصة بنى الإنسان، فهؤلاء هم مظاهر الاسم الإلهي "الشهيد" وآلاته، فالشهادة بالنسبة للإنسان هي مرتبة متميزة من مراتب الصلاح، فهي فوق الصلاح العام ودون الصديقيـة، وقد يجمع الله تعالى المراتب جميعا لعبد من عباده، وشهيد الشهداء هو الرسول الأعظم، فهو الشهيد على كل الأمم وعلى الشهداء من كل الأمم، وأمة الإسلام هي الأمة الشهيدة على كل الأمم بمن فيها ممن تحقق بتلك المرتبة إذ لا يمكن أن يكون ثمة شهيد بعد ظهور الإسلام إلا فيها، قال تعالي: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ(78)} (الحج).

إن المتحقق بمقتضيات الاسم الإلهي الشهيد تكون شهادتُه مقبولةً عند ربه، فهو الذي يمكن أن يُرجع إليه بخصوص أمرٍ ما ويمكن أن تعتمد شهادته ويترتب عليها فعل أو حكم أو قضاء، فالشهيد المذكور في الآية السابقة هو من ارتقى إلى مرتبة من مراتب من أنعم الله عليهم وهى الشهادة، قال تعالي: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا(69)} (النساء)، {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} (الحديد: 19).
والفوز بمرتبة الشهادة هو أمر في وسع كل مؤمن بل هو مأمور بأن يسعي إليها، قال تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} (النساء: 135).
والشهادة كما أنها مرتبة هي أيضا وظيفةٌ منوطة بالرسل والأنبياء والصديقين والصالحين، لابد لهم من العمل بمقتضياتها، وتمام ظهور ذلك وتحققه إنما هو في اليوم العظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين، قال تعالى:

{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ(51)يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ(52)} (غافر)، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ(18)} (هود)، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(17)} (الحج)، {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ(89)} (النحل).

أما من قُتِل في سبيل الله تعالى فسيحظى لتوه بتلك المرتبة العالية حتى ولو لم تكن أعماله السابقة تجعله أهلاً لها، فلقد باع نفسه لله رب العالمين وقبل الله منه نفسه واشتراها منه، ولما كان الله هو الكريم المطلق فسيعطيه عوضا عنها حياة أبدية تكاد تكون حسية تسمح له بأن يكون من جند الله تعالى وبأن يشارك في كل ما يختص بنصرة دين الحق، فيقوم بتشجيع المجاهدين وبث الرعب في قلوب الكافرين، ويقوم بتثبيت أقدام المقاتلين في سبيل الله تعالى، ويلقى إليهم بالإشارات التي يتلقاها من لديه الاستعداد لقبولها ممن صلح منهم، إن الشهيد المقتول في سبيل الله تعالى يضحي بحياته في سبيل نصرة الحق، ويبيع نفسه لله تعالى، ويفضله بذلك على أهله المحتاجين إليه، ولذلك يتولى الله أمرهم بمعنى أنه يشفعه فيهم، وهذا يعنى أنه يجعله صالحا لإفاضة الخيرات عليهم.
قال تعالى:
{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِين} [آل عمران:140]
فابتلاء المؤمنين بقتال الكافرين المجرمين سيؤدي بالضرورة إلى أن يُقتل بعض المؤمنين، هؤلاء أراد تالله أن يتخذهم شهداء، وهم يفوزون بهذه المرتبة الرفيعة مهما كانت أعمالهم الماضية في أيامهم الخالية، ذلك إذا كان قتالهم حقا في سبيل الله.
فالشهيد هو من قدم نفسه طواعية لله رب العالمين، فهو من ضحي في سبيله بكل ما يسميه الناس بالمصالح والمطامع الذاتية وكذلك بالإرادة الخاصة، لذلك فمن الشهداء من ضحى بنفسه في أي سبيل من سبل الله أي في سبيل تحقيق مقاصده الدينية ولتكون كلمته هي العليا، وذلك يعوض بعد انتقاله إلي عالم البرزخ بنوع من الحياة الخاصة التي تجعله مطلعا على أحوال طائفة من الناس وشهيدا عليهم، فمن الشهداء المقتول في سبيل الله، وسبيل الله يتضمن كل القيم والمبادئ والمثل العليا الإسلامية، فمن قُتل دفاعا عن الحق أو للمطالبة بالقسط والعدل وكان مؤمنا هو شهيد.
أما من ألقى بنفسه في التهلكة في سبيل أن يتولى شخص أو جماعة السلطة الدنيوية فقد خسر الدنيا والآخرة، والمسلم صحيح الإيمان لا يقاتل في سبيل السلطة، بل لا يسعى إليها أصلا، ومن علامات الأشقياء التعساء التهالك في طلب السلطة وخاصة في أزمنة الفتنة.
والمقتول في سبيل الله يتحقق لتوه بتلك المرتبة العالية؛ مرتبة الشهادة، مهما كان عمله السابق.
إن الله سبحانه وتعالى يختار الشهداء الذين يقتلون في سبيله على علم، وهؤلاء قد لا يبدو من أعمالهم الظاهرة ما يؤهلهم في نظر الناس للحصول على تلك المرتبة الرفيعة، ولكن في الحقيقة ثمة ما هو كامن في أنفسهم من حب للقيم العليا ورفض مطلق للظلم والبغي وتغليب لمصلحة كلية على مصلحة جزئية أو لقيمة نبيلة على الأمور الشخصية وعلى شح النفس وحرصها الشديد، وقد يجهلون هم ذلك في أنفسهم حتى تظهره لهم الوقائع والأحداث، فطُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ.
إن مرتبةَ الشهادة هي من مراتب الإنسان الصالح الرباني الفائق، وهو يصل إليها بعد قدر من التزكية المسبوقة بمعرفة صحيحة بربه وبالقيام بمقتضيات تلك المعرفة، ومن لوازم ومظاهر تلك المرتبة اليقظة في الدنيا وفي عالم البرزخ فيظل علي وعي بما يحدث للكيان الذي أنيط به أن يكون شهيدا عليه.
فالشهادة هي مرتبة من مراتب الصلاح يستحقها الإنسان الذي عمل بجدية وعزم لتحقيق المقصد الديني الخاص بكيان إنساني أكبر كالأسرة أو الأمة أو البشرية جمعاء، فقام بكل ما يمكنه من أعمالٍ ذات نفع متعدٍ مثل الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الشهادة لله والتصدي لأهل الظلم والبغي والقيام بالقسط والدفاع عن المستضعفين، وكذلك يستحقها العلماء المؤمنون الذين ضحوا بالملذات العابرة وعرضوا أنفسهم للمخاطر لتحقيق اكتشافٍ جديد ينفع الناس أو يخفف عنهم آلامَهم، فالشهادة يستحقها من يسعي إلى تحقيق مقصد كهذا بصدق واخلاص، ومن أولئك من قاتل في سبيل الله فقُتل، وأولئك نالوا تلك المرتبة ببذل نفوسهم فجزاؤهم أن يحتفظوا بها إلى يوم القيامة وأن يظلوا علي وعي بالأمة التي جادوا بأنفسهم للدفاع عنها والحفاظ عليها، وهؤلاء يفاض عليهم أجساد خاصة مزودة بقوي متعددة (أجنحة) وهم يظلون مستمرين في أداء ما يليق بهم وبمرتبتهم من تأييد من هم علي شاكلتهم من الشهداء الأحياء أو من يقاتل في سبيل الله تعالى.
أما من جعل من نفسه درعا للمجرمين أو المفسدين في الأرض أو مؤججي الفتن فقُتل فقد خسر الدنيا والآخرة
وكذلك خسر الدنيا والآخرة من جعل من نفسه أداة قتل أو ترويع للآمنين.
ولا يجوز محاربة الآخرين والاعتداء عليهم بحجة نشر الإسلام بينهم، فالدعوة إلى الله تعالى لها أساليبها الشرعية المعلومة، وكلها وسائل سلمية، ومن قتل وهو متلبس بالاعتداء على الآخرين ليس بشهيد، فلا ينال المراتب العلية من تورط في اقتراف ما لا يحبه الله تعالى من العدوان.
ومن قُتل دفاعا عن حق من حقوقه التي قررها الله تعالى له فهو شهيد، فمن قُتِل دفاعا عن داره أو أهله أو ماله أو عرضه أو كرامته فهو شهيد، والوطن هو الآن الجامع لكل هذه الأمور، لذلك فمن قُتِل دفاعا عن وطنه فهو شهيد.


*******

هناك 4 تعليقات:

  1. وفقك الله لما فيه الخير و الصلاح 🌹... والحقك الله بالصالحين

    ردحذف
  2. وفقك الله لما فيه الخير و الصلاح 🌹... والحقك الله بالصالحين

    ردحذف
  3. جزال الله كل خير و ووفقك و سدد خطاك

    ردحذف