الجمعة، 14 نوفمبر 2014

حرية العقيدة

حرية العقيدة

إن حقوق الإنسان تشكل منظومة من القيم والأخلاق التي هي من عناصر منظومة القيم الإسلامية الثابتة بالقرءان، واحترام وتوقير هذه المنظومة هو من أركان منظومة القيم، وهو عبادة يتقرب بها الإنسان إلى ربه ومقصدا دينيا يسعى إلى تحقيقه، وحقوق الإنسان مرتبطة بما يلي ومن مقتضيات ما يلي:
1.      الإنسان خليفة في الأرض.
2.      ومكرم.
3.      ومفضل على كثير من الخلق تفضيلا.
4.      وحامل للأمانة.
5.      كون اختلاف الناس وسيلة للتعارف وليس للتناحر.
6.      كون الحكم في الأمور الدينية مؤجل إلى يوم القيامة.
7.      النصّ على أن الناس سيظلون مختلفين.
8.      عناصر منظومة القيم الإسلامية مثل العدل والقسط والبر وحرية الإيمان .... الخ.
*****
من حقوق الإنسان المقررة في القرءان، وهي مكفولة له لمجرد أنه إنسان:
1.    حرية الإيمان.
2.    حرية استعمال الملكات الإنسانية.
3.    العدل
4.    القسط
5.    الحفاظ على كرامته.
6.    حق الحصول على الحاجات الأساسية.
7.    حق الحصول على العلم.
8.    حق البرّ
9.    حق الأمن.
10.حق السعادة.
11.حق الحصول على أجر مقابل عمله.
فحرية الدين –والتي هي الآن من الحقوق الأساسية للإنسان- هي من الحريات الأساسية المقررة في القرءان والتي يتعبد المسلم إلى ربه باحترامها، قال تعالى:
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} البقرة256، {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} الكافرون6، {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} النحل125
فالإسلام يعتبر حرية العقيدة من مبادئه الأساسية، ومن يقرأ القرءان يدرك أن الله تعالى يدافع عن حرية الناس في أن يكفروا به، ومن ذلك قوله لرسوله: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} يونس99
فمن أراد أن يتأسى بربه فليدافع عن حق كل إنسان في ممارسة دينه أو مذهبه والدعوة إليه بالوسائل السلمية المنصوص عليها في القرءان؛ {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} النحل125.
والإنسان لن ينتفع على المستوى الجوهري إلا بعملٍ أقدم عليه بمحض اختياره، فهو لن ينتفع بعمل أُكِره عليه ولن ينتفع بذلك من أكرهه على هذا العمل.
إن من يريد إكراه الإنسان على أي شيء ديني يتصف بما يلي أو يقترف من الآثام ما يلي:
1.         هو يستبطن الكفر ببعض الشئون الإلهية والأسماء الإلهية الحسنى ويتصرف بمقتضى ذلك، ومن ذلك كفره بأن الله غني عن العالمين، فهو الأغنى عن عباداتهم وإيمانهم.
2.         لا يعجبه تدبير الله تعالى للأمور وتصريفه للآيات.
3.         لا يعجبه ما اقتضاه الله تعالى من السنن الكونية والتشريعية.
4.         يظهر جهله بالمقاصد الإلهية.
5.         يظن أنه أقدر من ربه على إدارة أمور الكون.
6.         ينتحل لنفسه ما اختص الله تعالى به نفسه.
7.         يدعي أن الله تعالى قد أقامه وكيلا عليه وعلى الناس.
أما إذا كان يقترف كل ذلك بحجة أن كلَّ آيات الدعوة إلى مكارم الأخلاق أو الآيات التي تبين السبل الشرعية للدعوة منسوخة بما يسمونه بآية السيف، فهو يقترف بالإضافة إلى ما سبق مجموعة جديدة من كبائر الإثم ويكفر بآيات قرءانية ثابتة راسخة كما يثبت أنه مجرم عتيد وخطرٌ على البشرية.
ومن يؤمن بدين الحق لا يخشى شيئا، وهو على بينة من أمره وعلى ثقة بربه، وقد تتغلب على خصمك بالعنف ولكنك لابد أن تدفع ثمن لجوئك للعنف غاليا، وكم من إنسان حاول قهر الناس على الإيمان بمذهبه فخسر هو في النهاية إيمانه ولم يتمكن من استعادته أبدا!!
ولكن المشكلة هي في وجود من وجدوا أن من الأفضل لهم تحويل الدين إلى وسيلة لتوطيد ملكهم وسلطانهم وكأيديولوجية تشرعن لهم الاعتداء على الآخرين واستعبادهم ونهب أموالهم وسبي نسائهم واستعباد أطفالهم، وهذا ما فعله السلف المقدس؛ فأساؤوا إلى الله ورسوله وكتابه وإلى البشرية جمعاء وحولوا دين الرحمة إلى دين نقمة، فاستحقوا أن يكونوا أحقر وأذل أمة وأن يُلقى بأسهم بينهم وأن تتكالب الأمم عليهم وأن تستعبدهم وتدمرهم بأموالهم.
فحرية العقيدة هي من أركان المنظومة الأمرية الرحمانية أي من أركان منظومة القيم الإسلامية الثابتة بالقرءان، ولها بذلك التقدم والسيادة والحكم على كافة ما هو دون ذلك من الأمور، فلا يجوز الاعتداد بأي تصرفات منسوبة إلى السلف مخالفة لهذه القيمة.
وحرية العقيدة هي حق من حقوق الإنسان المقررة في القرءان والتي يجب على المسلم التعبد إلى ربه باحترامها وتوقيرها، هذا بالإضافة إلى إنها من مقتضى كون الإنسان خليفة وحاملا للأمانة ومكرما ومستخلفا في الأرض، ومن يعمل بمقتضاها يعمل بمقتضى العلم بحقيقة الإنسان من حيث أنه كائن ذو إرادة حرة واختيار، وهو يثبت بذلك اتساقه مع سنن الله تعالى التي لا تبديل لها ولا تحويل.
*******
إن الإنسان السوي ذا الخلق الكريم يريد أن يحبه الناس بمحض إرادتهم واختيارهم، ولا يريد أن يُساقوا إليه كُرها ولا أن يُحملوا على ذلك جبرا، والله تعالى هو مصدر كل صفة حسنة وخلق كريم، فهو أولى بهذه الصفة من عباده الذين خلقهم ليتم بهم الظهور التفصيلي لأسمائه الحسنى.
*******
قال تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} البقرة256
إن هذه الآية تذكر وتبيِّـن سنة إلهية كونية لا تبديل لها ولا تحويل، ذلك لأن الدين الحقيقي محله القلب ولا سلطان لأحد عليه، وبالتالي لن ينتفع بالإكراه لا المكرِه ولا المكرَه، فلا جدوى من الإكراه، وبالتالي فمن العبث ومما يخالف السنن الإلهية محاولة إكراه الناس على تغيير دينهم، والسنة تقتضى العمل وفق مقتضياتها، لذلك فالعبارة تتضمن نهيا عن الإكراه في الدين، فالعبارة {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} هي خبر حقيقي وهى أيضا نهى في صورة خبر، ولقد بين الله سبحانه في آيات أخرى أن سننه لم تقتض أن يؤمن كل الناس، ذلك لأن الإنسان خُلِق مخيراً فيما يتعلق بهذا الأمر، ولما كان هذا الاختيار هو أمر حقيقي كان لابد من وجود الكافر والمؤمن، بل إن الآيات أكدت دائما أن أكثر الناس ليسوا بمؤمنين وأن أكثر من آمنوا هم مشركون.
-------
إن الكتاب العزيز قد بيَّـن بما لا يدع مجالا للشك حرية الإنسان فيما يتعلق بقضية والكفر الإيمان، ذلك لأن الله سبحانه إنما يريد أن يأتيه الناس بمحض إرادتهم ولذلك خلقهم، والإنسان بحكم طبيعته لن ينتفع بإيمان أو عمل إلا إذا أقبل عليه بمحض إرادته، ولقد ذكر الكتاب الردة والمرتدين، ولم يتوعدهم إلا بالعذاب الأليم في الآخرة وبالإتيان بمن يحبهم ويحبونه في الدنيا، ومن البديهي أن الحب لا يكون بالقهر والإكراه، ولو كان لدى المرتد مثقال ذرة من الحب الإلهي لما كفر بربه الذي أعطاه كل شيء وهو الغنيّ عنه وعن إيمانه وعن تظاهره بإيمان ليس لديه في قلبه مثقال ذرة منه وكفى بذلك عقابا له، وفى القرن الأول لم يُقتل إنسان بسبب ارتداده وإنما بانضمامه إلى صفوف أعداء الأمة وهى في صراعٍ مصيري معهم واقتران هذا الانضمام بتجنيد كافة قواه لخدمة أعداء الأمة.
والإسلام أكبر من أن يتأثر بهجمات الجهلة والمنافقين، ولم يواجه دين من المحن والابتلاءات مثلما واجه هذا الدين، ولقد تحالف ضده وحاربه شياطين الإنس والجن واليهود وعباد البقر وعباد الصليب وعباد المقابر وعباد السلف وسدنة المذاهب وخاصة الحشوية والسلفية والوهابية، كما حاربه المحسوبون عليه من حثالة السلاطين والطغاة والمجرمين والمنافقين والفاسدين والمفسدين والفاسقين المترفين وتجار الدين وأتباع التنظيمات الإجرامية المسماة على سبيل التضليل بالإسلامية هذا فضلا عن الغربيين والشيوعيين والمستبدين فلم ينالوا منه شيئا وحقّ عليهم قوله تعالى: {اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }البقرة15.
لكل ذلك فإن التمسك بحرية الرأي والذود عنها هو في صالح الإسلام والمسلمين؛ فأعداؤه والمرتدون لن يجدوا إلا أن يكرروا نفس الحجج الممجوجة الواهية التي قال بها من قبل أسلافهم من مشركي مكة وأهل الكتاب والتي تم دحضها في حينها وشهد العالم كله كيف قادتهم إلى الخسران المبين ولم تزدهم غير تتبيب.
وبافتراض أن أعداء الإسلام من الممكن أن يأتوا بحجج جديدة ضده فسيدفع ذلك الصفوة من أولى الألباب لإعمال ملكاتهم لدحضها فيظهر كمال جديد من كمالات الإسلام.
أما ما يسمى بالاستتابة فإنه لا محل لها في الإسلام لأنه لا كهنوت في هذا الدين، ذلك لأن الله وحده هو التوَّاب، وهو التواب الرحيم، وهو التواب الحكيم، وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ولم يعط تلك السلطة لأحد غيره، فمن أراد التوبة فليتجه إليه بقلبه حتى وإن صمت لسانه فإنه يدرك من كل إنسان ما لا يدركه هذا الإنسان من نفسه، والتوبة هي بالأصالة عمل قلبي باطني، لا يطلع على حقيقته إلا الله، فلا يجوز أن يدعي شخص لنفسه ما هو من شؤون ربه، أما إحداث ضرورة استتابة من رأوا أنه خالف ما هو معلوم من الدين في نظرهم فإنما أخذوه عن أهل الكتاب وألبسوه ثوبا إسلاميا، فلقد اتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع.
أما من سبق له الطعن في الدين علنا أو الافتراء عليه كذبا فإن الشرف والنخوة والمروءة كل ذلك يقتضي أن يتبرأ مما قاله على رؤوس الأشهاد وحتى لا يتحمل وزر من أضلهم بغير علم.
أما ما هو حق للمسلمين بلا مراء فهو أن يقدموا الحجج والبراهين ضد من يريد المجادلة فإن أبى إلا أن يتطاول بالباطل وإلا أن يعمد إلى السخرية والاستهزاء فإن لهم أن يقاضوه، ذلك لأن من حق كل إنسان أن يسأل وأن يستفسر ولكن ليس من حقه أن يشتم أو أن يسخر أو أن يستعرض سوء أدبه وبذاءة لسانه، وإن من أبسط أسس الحضارة الحديثة ألا يسخر الإنسان من عقائد الآخرين، ومن العجب أن الغربيين من عباد الصليب والمتع الرخيصة يحترمون عباد الحجر والبقر ……الخ ثم يتطاولون على من يعبد الله الذي له الكمال المطلق، وهم في الحقيقة معذورون جزئيا بسبب وجود تلك المذاهب التي حلت محل الإسلام واستعملت للقضاء على دين الحق وصد الناس عن سبيله، وتلك المذاهب تتسم -كما هو معلوم- بالعدوانية والماضوية والبهيمية والمحلية، ولقد كان المسلمون هم ضحاياها قبل غيرهم.
*******
بافتراض أنك قوي ّشهم ونبيل الخُلق بالغ النفوذ واسع الثراء، وقد علمتَ أن أحد الفقراء الضعفاء يكرهك، بل ولا يعترف حتى بوجودك رغم أنك تحسن إليه، ماذا سيكون تصرفك حياله؟ هل ستستعين عليه بأشخاص ضعفاء تحسن أنت إليهم أيضا ليرغموه على أن يحبك وأن يعترف بوجودك؟ وهل من النبل أن تعطيهم توكيلا بالاستيلاء على ما لدى هذا الفقير من متاعٍ قليل وسبي زوجته وبناته؟ إذا كنت لا ترضى لنفسك أن تكون هكذا فكيف ترضاه لربك الذي هو أصل كل حسنٍ وكمال وخُلُق كريم؟ وماذا سيكون تصرفك لو أن هؤلاء الأشخاص زعموا بالفعل أنك أعطيتهم توكيلا بالفعل لنهب ما لدى الفقير وسبي زوجته وبناته؟!
*******
إن الله تعالي قد جعل الإنسان مخيراً فيما يتعلق بأمر الكفر والإيمان فلا ينبغي أن تُقيَّـد الحرية فيما هو دون ذلك علي ألا يتضمن ذلك مساساً بحقوق الآخرين أو عدواناً علي قانون، ولكن على الجماعة المؤمنة أن تتماسك وأن تتخذ كل ما يلزم من إجراءات لحماية نفسها ومنظومات قيمها وسننها ممن ارتد وجاهر بذلك، فإذا كان يمتهن التعليم فمن حقها أن تطالب بإبعاده عن تلك المهنة حماية لأبنائها، وإذا كان صحفياً أو إعلامياً فمن حقها اتخاذ الإجراءات القانونية والإعلامية اللازمة ضده وتحذير الناس منه وكشف حقيقة أمره، ولكن ليس من حق رجال الكهنوت أو من حق أي سلطة أخرى أن يكفِّروا أحد الناس الكفر المخرج من الملة ولا أن يؤلبوا عليه أعوانهم من الدهماء والغوغاء والسفهاء لأنه جاءهم بما يخالف ما ألفوا عليه أسلافهم طالما أعلن تمسكه بالإسلام على رؤوس الأشهاد، فإن قيل إنه قد يكون منافقاً أو مرتداً ويخفى كفره فالجواب هو أنه حتى لو ثبت ذلك فإنه يكون منافقا ولا توجد عقوبة على النفاق ويجب التعايش معهم كما تعايش معهم خاتم النبيين من قبل، وإن كان يجب أيضا تفنيد آرائهم والتنديد بمسلكهم واتخاذ الإجراءات القانونية ضدهم إذا صدر عنهم خطأ حقيقي ظاهر يقعون به تحت طائلة قانون ما ولكن ليس من حق أحد تكفيرهم أو قتلهم أو إخراجهم من الجماعة، وتلك هي سنن التعامل معهم.
-------
إن الإسلام أجلُّ من أن يتحول إلى سيف بيد الطواغيت يسفكون به ما يشاءون من الدماء دون أن يلتزموا هم بشيء من أصوله ومبادئه وقيمه، وهذا هو الذي استحدثه الأمويون في الإسلام نقلا عن تراث الأمم الغابرة وتابعهم في ذلك العباسيون، وهكذا تناول ما أسموه بسيف الشريعة كثيرا من صفوة الأمة بزعم القضاء على أهل البدع وما قضوا إلا على حرية الأمة واستعبدوها؛ فتحول دين الرحمة إلى أداة نقمة تهدد أول ما تهدد المسلمين أنفسهم ثم من يلونهم من أهل الأرض، وبلغ الأمر مداه مع العثمانيين الذين أسرفوا في القتل والتعذيب والمثلة والظلم باسم الإسلام وكانوا شر نقمة على المسلمين وخاصة العرب منهم قبل أن يكونوا نقمة على نصارى شرق أوروبا، ولقد ساير الكهنوت مآرب الطاغوت فقسموا العالم إلى دارين دار إسلام يستبيح الخلفاء لأنفسهم أموال من فيها من المسلمين ودماءهم ويمارسون أبشع أنواع الظلم والسادية عليهم دون أي إحساس بأدنى مسؤولية تجاههم وإلى دار حرب لا ينفق ذوو السلطان قطميرا في سبيل تبيين الإسلام لهم ودعوتهم إليه وإنما يهاجمونهم بمن استذلوهم واستعبدوهم من المسلمين طمعاً في أموالهم ونسائهم وغلمانهم، ولقد كان دائماً في جعبة رجال الكهنوت ما يخرجونه كلما احتاج إلي ذلك الطواغيت، ولقد كان لما فعله الأمويون بأهل البيت وبأهل المدينة من الأنصار وبالحرم المكي وبابن الزبير ومن ثاروا معه أبلغ الأثر في استرهاب وترويع الصفوة من علماء الأمة وإسكاتهم فلزموا إلا قليلاً الصمت فرقاً وهلعاً ورعبا، ولذلك تمكن المخربون والمنافقون والمفسدون طوال حكم الأمويين من تحريف الدين كما يرغبون وتحميله بما يشاءون من إلقاءات الشياطين وتحققت نبوءة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وكان هلاك أمته علي يد أغيلمة سفهاء من قريش.
*******
لأقوام الرسل أحكامهم الخاصة التي لا يجوز تعميمها على العالمين، عندما تقتضي السنن الإلهية أن يرسل إلى قوم من الأقوام رسول منهم فإن ربه يزوده بكل ما يلزم من الآيات والبيِّنات ليقيم عليهم الحجج وليتحقق البلاغ المبين، وبالنظر إلى الطبيعة الإنسانية -والتي من لوازمها أن للإنسان إرادة حرة واختيارا- فإن المؤمنين يكونون دائما أقلية ويتعرضون لشتى ضروب الاضطهاد والسخرية والازدراء، ولكن السنن كانت تحتم دائما أن ينتصر الرسول ومن آمن معه وأن يهلك الكفار المعاندون، وجزء كبير من القرءان مخصص لبيان ذلك، قال تعالى:
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون} [يونس:47]، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}يوسف110، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ{171} إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ{172} وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ{173}الصافات، {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ{102} ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ{103} {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ{93} وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ{94} كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ{95}هود، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} الصافات، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}الروم47،  {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ }يونس13.
ولقد كان إهلاك الكفار يتم عادة بآية كونية، قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ{4} فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ{5} وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ{6} سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ{7} الحاقة
ويمكن اعتبار إهلاك الكافرين المتمردين المعاندين العاملين على إحباط دعوة الرسل بمثابة إهلاك الديناصورات لإفساح المجال لكائنات أرقى لتظهر وتسود الأرض وليستمر التطور والرقي العام.
ولا يجوز لأحد هاهنا أن يقول لله تعالى: لماذا لم تترك لهم حرية العقيدة؟ ولماذا تعذبهم وتقضي عليهم؟ لقد أعطاهم هذه الحرية فاختاروا الكفر، والكفر مهلك، وذلك مثلما يحذرك الطبيب من تناول مادة قاتلة فتصر على تعاطيها، فيحيق بك نتائج ما اخترته لنفسك، وقد زود كل رسول بما يكفي قومه من الحجج والبراهين، فيجب أن يتحمل كل إنسان المسئولية عن اختياره، فمن اختار أن يتجرع السم رغم إعلامه بأنه سيؤدي إلى هلاكه وإثبات ذلك له هو وحده المسئول عما سيحدث له، وليس لأحد أن يقول لله تعالى: لماذا خلقت السم؟ أو لماذا لم تنزع من السم خواصه حتى لا يهلك هذا المسكين؟ أو لماذا تركته يتعاطى السم وقد كان في قدرتك منعه؟ أو لماذا أعطيته الحرية ليختار ما قد يضره؟
إن أقوام الرسل قد اختاروا الكفر والجحود واضطهاد المؤمنين والتطاول على النبيين والعمل على إبطال رسالتهم ومساعيهم، ولكل ذلك لم يكن مسموحا لهم بالبقاء على شركهم وكفرهم فضلا عن المجاهرة به وممارسة طقوسه، وكان لابد من الفصل في أمرهم وتحقيق ما اختاروه من الهلاك لأنفسهم حماية للقلة المؤمنة وللأجيال القادمة من شرهم.
فلما جاءت الرسالة الخاتمة كان استعمال الآيات الكونية لإهلاك الضالين المجرمين من أقوام الرسل قد نُسخ، وذلك أمر طبيعي لرسالة قُـدِّر لها أن تكون ملزمة للبشر إلى قيام الساعة وتمَّ بها استخلاف الإنسان في الأرض وتحقيق المقاصد من وجوده، فلم يكن من الممكن أن يستعمل الرسول الذي سيتأسَّى به كل المصلحين من بعد آيةً كونية لإنجاز رسالته، لذلك كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ مكلفا أيضا بتحقيق وتفعيل الحكم الإلهي الخاص بأقوام الرسل، وهو ضرورة القضاء والفصل بين من آمن وبين من كفر من قومه في هذه الحياة الدنيا، ولما كان استعمال الآيات المادية قد نُسِخ كان عليه أن يقاتل بمن آمن من كفر في حرب مصيرية وُعِد فيها بالنصر، فلابد دائماً من انتصار الرسول ومن آمن معه، ولكن لابد بين يدي ذلك من تقديم كل ما يلزم من الجهاد والصبر، وهذه الحرب لم تكن بالطبع حربا عدوانية، بل الذي أشعلها هم الكافرون الذين رفضوا الرسالة ورفضوا أن يتركوا الناس ليؤمنوا بها.
وبالطبع لا يمكن أن يكون الرسول ومن آمن معه من المعتدين، ولكنهم كانوا هم الذين عليهم أن يواجهوا العدوان السافر عليهم بكل ما يملكون من قوة، فليس لهم أن يستسلموا للكافرين ولا أن يتركوهم ليفتنوهم في دينهم، ولم يكن هناك بد من قبول التحدي والدخول في معركة مصيرية مع الكافرين، فالذي يبادر بالعمل العدائي بحكم الطبيعة البشرية من هم متمسكون بما ألفوا عليه آباءهم، وهذا ما يواجهه وسيظل يواجهه كل مصلح أو مجدد للدين.
ولكل ذلك لم يكن ثمة من خيار لقوم الرسول ولم يكن مسموحا لهم بالبقاء على شركهم وكفرهم فضلا عن المجاهرة به وممارسة طقوسه.
ولقد أعلن الله تعالى أنه لو شاء لانتصر منهم بأية وسيلة من الوسائل المعهودة، ولكنه بالنسبة للرسالة الخاتمة وقوم خاتم النبيين شاء أن تكون هذه الوسيلة هي أن يقاتل المؤمنين الكافرين، وذلك لتحقيق مقاصد عديدة.
إن الله تعالى لا يرسل رسله برسالته ولا يزودهم بكل ما يلزم من الحجج والآيات والبينات لكي يتم عمل استفتاء بعد ذلك لمعرفة هل يقبلها الناس أم لا، فالرسالة الإلهية لابد أن تقسم الناس بالضرورة إلى قسمين؛ قسم يقبل الرسالة فينجو وينتصر، وقسم يرفضها ولا يقبل بوجود من يقبلها فيصمم على القضاء عليه فيجلب الهلاك على نفسه، ويكون الهلاك إما بآية كونية وإما بأيدي المؤمنين.
ومن باب الرحمة فقد قبل الله تعالى من الأعراب إسلامهم الشكلي الذي لا يتضمن إيمانا، وجعل إعطاء المال للمؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة الشرعية وحرَّم وجرَّم قتل من نطق بالشهادة ولو كان معلوما أنه من عتاة المنافقين.
*****
من المعلوم أن الأمة قد تمزقت وأن الدين قد تمزق وبدأ ظهور الشيع منذ فترة مبكرة جدا من تاريخ المسلمين، وكان ذلك أساسا بسبب المنافقين والطلقاء والأعراب الذين لم يؤمنوا وإنما انقادوا وأذعنوا ولم يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، ومن المعلوم أيضا أن وجود هذه الشيع أو المذاهب يتضمن شركا وأن الرسول بريء منهم، فكلهم في الشرك سواء، قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}الأنعام159، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ{30} مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ{31} مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ{32}الروم، {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ}الشورى13.
وقد نهى الله تعالى عن التفرق وحذَّر من الاختلاف، قال تعالى:
{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} آل عمران105، {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ{118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ{119} هود.
فكل المذاهب يختلط فيها الحق الباطل، ولا معنى لأن يزعم أتباع أي مذهب لأنفسهم أنهم الفرقة الناجية إلا إذا كانوا يقصدون أنهم الفرقة الناجية من الجنة المهرولة إلى النار.
ولا يوجد أمام أتباع هذه المذاهب إلا محاولة التعايش السلمي فيما بينهم، ويمكن أن يعتبر كل مذهب أتباع المذهب الآخر بمثابة أهل الكتاب فيبرهم ويقسط إليهم.
ورغم أن أتباع المذاهب قد عصوا أمر ربهم وتفرقوا واختلفوا وأشركوا فإنه لا يجوز تكفيرُ أتباع أي مذهب الكفر المخرج من الإسلام، فهم مسلمون مؤمنون رغم ما هم متورطون فيه من الشرك الذي تتفاوت درجاته من مذهبٍ لآخر، بل من فرد لآخر، قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} يوسف106.
ولذلك يجب معاملة كل من ينتمي إلى الإسلام من أي مذهب على أنه مسلم؛ فيكون له كافة حقوق المسلم، وعليه واجباته، أما من يريد تكفير وقتل أي مسلم لمجرد أنه يعتنق مذهباً مخالفاً لما نشأ عليه هو فهو مجرم عات ومفسد في الأرض، ومن تورط في قتل مؤمن متعمدا لأي سبب فمصيره معلوم، قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً }النساء93، فالمسلم هو من سلم منه المسلمون الآخرون، أما من جعل من نفسه حرباً على المسلمين الآخرين فهو مجرم ومفسد في الأرض وحكمه معلوم.
ويجب دائما التفريق بين المذهب وبين أتباعه، فلا يجوز اتخاذ موقف العداء المطلق من طائفة لمجرد أنها تعتنق مذهبا معينا، فلم يختر أحد المذهب الذي كان عليه أبواه، ومن الصعب إن لم يكن من المستحيل أن ينفكَّ الإنسان عما ألفى عليه آباءه، وأكثر الناس لا يعلمون ما يُعتد به عن مذاهبهم، وأكثرهم ضالون ومشركون ولا يفقهون ولا يعلمون ولا يعقلون ولا يسمعون ولا يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون، ولذلك يجب أن يتعلموا كيف يتعايشون مع بعضهم سلميا في الدنيا لكيلا يجدوا أنفسهم يستأنفون مشاحناتهم هناك في جهنم في الآخرة، يكفي جهنمُ التي صنعوها بأنفسهم لأنفسهم في الحياة الدنيا.
ومعيارُ التفاضل بين الناس هو التقوى، ولا يعرف حقيقةَ ما لدى الإنسان منها إلا الله العليم الخبير، فيجب أن يضع المسلم في اعتباره أنه قد يكون أسوأ المسلمين من حيث نصيبه من التقوى، فعليه أولا أن يشتغل بإصلاح نفسه حتى يكون على بصيرة من أمره.
وإذا لم يستطع مسلمٌ ما تقبلَ حقيقة أن يوجدَ مسلم لا يتبع أي مذهب أو يختلف عنه في المذهب فليعامله على الأقل كأهل الكتاب، أي هو ملزم بأن يبره وأن يقسط إليه!
ولن يظهر دينُ الحق الجامع لأسمى العقائد والقيم والمبادئ والمثل والسنن ولن يحقق المسلمون مجدا جديدا فريدا إلا باختفاء هذه المذاهب المتنافية المتناحرة التي مزَّقت الإسلام والمسلمين وجعلت بأسهم بينهم وجعلتهم موطئ قدم لألد أعداء الإسلام.
أما بالنسبة لأتباع دين الحق، فلا توجد مشكلة، فهم يتعبدون إلى الله باحترام حقوق مخلوقاته وبرهم والإقساط إليهم ويؤمنون بأن الفصل في الأمور الدينية مرجأ إلى يوم القيامة.
*******
لا يوجد في دين الحق ما يسمى بحد الردة، ولقد خلط الناس بين أمرين لا علاقة بينهما من يخرج على أمة الإسلام وينضم إلى صفوف أعدائها في حالة حرب، وذلك ما يعرف الآن بالخيانة العظمى والانضمام إلى العدو وتهديد وجود الأمة وعقوبته معروفة وبين ترك الإسلام لأي سبب من الأسباب مع مسالمة أهله وعدم الاعتداء عليهم.
-------
المرتد عن الإسلام هو في النار، ولا توجد عقوبة دنيوية عليه طالما لم يدفعه موقفه هذا إلى الاعتداء على المسلمين أو اضطهادهم في دينهم، ولقد أعطى الله تعالى للناس حرية الاختيار بين الإيمان وبين الكفر، لذلك فهو لن يأمر أحداً من خلقه بمعاقبة من استعمل حقا هو الذي قرره له، ولكنه رحمة بخلقه نبأهم بعاقبة هذا الاختيار حتى لا يكون لأحد عليه حجة، قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً }الكهف29.
فالقرءان لم يقرر عقوبة دنيوية على المرتد، ولا مجال للقول بأن المرويات الظنية يمكن أن تنسخ آية قرءانية، بل للقرءان الهيمنة التامة على كل مصادر المعلومات الأخرى.
ولا توجد سلطة دنيوية من حقها أن تحكم على إنسان بالردة، ولا يمكن القول بأن مسلما قد ارتد إلا إذا أعلن ذلك بنفسه على رءوس الأشهاد ولم يتراجع عنه.
أما العقوبة التي ظن الناس أنها للردة فإنما تكون لمن خان الأمة وانضم إلى أعدائها الذين يشنون عليها حربا عدوانية بسبب دينها.
-------
لا وجود لما يُسمَّى بحد الردة في الإسلام، وتطبيق هذا الحدّ المزعوم على رجل مسلم هو جريمة كبرى سيترتب عليها خلود كل من شارك في القتل في النار بالإضافة إلى استحقاقهم اللعنة والغضب الإلهي الذي لا قبل لهم به: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} النساء93
ولا تملك أية سلطة أرضية أصلا حق الحكم على مسلم بأنه مرتد، وحرية الإيمان هي حق قرءاني مقرر لكل إنسان، فلا توجد أية عقوبة على ممارسة الحق، ولا يجوز أن يدفع الإنسانُ أي مال مقابل تركه يمارس ما هو حق له، وكل من أخذ مالاً من إنسان مقابل تركه على دينه فقد أخذ سحتا وأكل في بطنه نارا!
-------
إن حرية الإيمان هي حق من حقوق الإنسان، ومن يريد أن يدعو إلى دينه أو أن يبينه للناس لا يجوز له أن يمنع الآخرين من أن يفعلوا مثله، ولا وجود لعقوبة دنيوية على المرتد، فالدين الذي يقرر بأقوى عبارات حرية الإيمان لا يعاقب من يمارس هذه الحرية.
ولكن في حالة وجود أمة مؤمنة خالصة يتولى أمرها أولو أمر منها وتتحكم في مقدرات بلدها فإن لأولي أمر الأمة أن يبتوا في أمر المرتد طبقا للأحوال والظروف، ففي حالة السلم: إذا كان قد ارتد لشبهات وشكوك اعتورته وتمكنت منه فإنهم يكونون مسئولين عن معالجته ومداواته، ولهم أن يعزلوه إذا كان قد أصبح كافرا عنيدا يُخشى منه على غيره، أما إذا كانت أمة المسلمين في حالة قتال شرعي مع دولة معتدية تقاتلها في دينها أو تحاول إخراج المسلمين من ديارهم فإن كل فرد من الأمة يعد بمثابة جندي من جنودها، فإذا اعتنق أحد الأشخاص دين الأعداء وأعلن ذلك وأصبح يعمل لحسابهم فإنه يكون قد اقترف جريمة الخيانة العظمى مكتملة الأركان.
أما في الدولة الحديثة حيث يتعايش المسلمون مع غيرهم فيجب على الكل أن يلتزموا بالمواثيق الدولية الموقع عليها ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ويجب على المسلمين أن يقوموا بواجب الدعوة إلى الله، ومن لوازم ذلك أن يرتقوا بأنفسهم وأن يقدموا للآخرين الأسوة الحسنة حتى يجتذبوهم إلى دين الله، وليس لهم أن يكونوا أول كافر بالدين أو أول صادٍّ عن سبيله، ومن أبشع الجرائم المشينة أن يشترطوا على من أراد أن يسلم أن يقبل بأن يُقتل !!!!! إذا ما ارتد عن الإسلام!!؟!!
*******
هناك بعض الجماعات المحسوبة على الإسلام ترمي كل المسلمين المختلفين عنهم بالكفر المخرج من الملة؛ أي تعتبرهم مرتدين وتستبيح بذلك دماءهم وأموالهم وتقاتلهم من هذا المنطلق.
هذه الأعمال الإجرامية تنطلق بالضرورة من تصور خاطئ عن رب العالمين وعن رسالة الإسلام، فهم كفروا بالإله الذي له الأسماء الحسنى والذي أنزل القرءان وآمنوا بإله دموي صوره لهم الشيطان.
فهؤلاء ليسوا مسلمين على المستوى الجوهري، بل هم أتباع دين حلّ محله وانتحل اسمه. 
والقرءان يأمر المؤمنين بمقاتلة الطائفة الباغية أو المعتدية وإن كانت مؤمنة، فما بالك إذا كانت طائفة ترمي كل المسلمين الآخرين بالكفر وتقاتلهم من هذا المنطلق؟ فمن يكفِّر المسلمين تكفيرا مطلقا هو كافر بالضرورة، فلا يخلو مذهب إسلامي من حق.
ومثل هذه التنظيمات الإجرامية قد كفروا بدين الحق، ولكنهم آمنوا إيمانا راسخا بمذهب من المذاهب التي حلَّت محله، ألا وهو المذهب اللاسني العتيد، فهم على المستوى الجوهري لا يعبدون الإله الذي أنزل القرءان، ولكنهم يعبدون التصور اللاسني عنه! ولا يؤمنون بالقرءان، ولكن يؤمنون بفهم سلفهم وسدنة مذهبهم له، ولا يؤمنون بالرسول الحقيقي، وإنما يؤمنون بما ذكره ابن إسحق وابن هشام عنه! ولذلك لا تستطيع أية مؤسسة دينية سنية اتخاذ موقف حاسم منهم ولا التشكيك في دينهم فقبلتهم واحدة، ولا يجوز لأحد الدخول بين البصلة وقشرتها كما يقول المثل المصري!
*******
حرية العقيدة هي من عناصر منظومة القيم الإسلامية ومن السنن الشرعية التي هي من عناصر المقصد الديني الأعظم الخامس؛ وهو التعايش السلمي مع الآخرين، وهو من عناصر الركن الديني التاسع الخاص بمعاملة الكيانات الإنسانية وفق السنن الشرعية.
*******
إن كون الإنسان حرا هو من مقتضيات المنظومة الكلية للأسماء الحسنى، والله تعالى يدبر الأمر ويصرف الآيات بمقتضى أسمائه ولا تبديل لكلماته التي هي مقتضيات هذه الأسماء، لذلك فكون الإنسان مخيرا في كل ما يتعلق بمصيره هو سنة كونية تقتضي سننا شرعية، ومن السنن الكونية أنه لا يتأثر على المستوى الجوهري إلا بالفعل الذي أقدم عليه بمحض اختياره، ومن السنن الشرعية حريته الدينية، وهي أيضا من لوازم كونه حاملا للأمانة ومكرما ومستخلفا في الأرض، لذلك فمن الأمثل للإنسان احترام حرية غيره حتى لا تؤخذ منه حريتُه هو نفسه.

*******

هناك تعليق واحد: