الثلاثاء، 18 نوفمبر 2014

حقيقة مصطلح الجزية

حقيقة مصطلح الجزية

إن الجزية هي من الجزاء، فهي الغرامة الحربية التي يفرضها جيش المؤمنين على من اضطروه إلى القتال من الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر من أهل الكتاب، وهي مفروضة لوضع حدٍ للقتال، فهي البديل عن التطهير العرقي أو العقائدي أو الاستئصال الذي كان غايةَ الحروب العقائدية الدينية، ولذلك فمن الظلم والبغي أن تُفرَض الجزيةُ على طائفة مسلمة أو على المسالمين غيرِ المحاربين، ولا يجوزُ أن تؤخذ من إنسان مقابل تركه يمارس حقاً من حقوقه الإنسانية مثل حقه في اختيار دينه أو مذهبه.
والجزية مرتبطة أساسا بالقتال والذي ينبغي أن يكون مشروعاً وليس طلباً لغلبةٍ أو توسعٍ أو مغانم دنيوية، والقتال الشرعي له شروطه المعلومة؛ فهو لا يكون إلا لردع العدوان أو للتصدي لأهل البغي أو لدرء الفتنة أو لضمان حرية الدين أو للدفاع عن دور العبادة وعن المستضعفين في الأرض، فإذا ما اعتدت طائفة من أهل الكتاب على المؤمنين وجب على الأمة قتالهم ليس بهدف إبادتهم أو لإكراههم على اعتناق الإسلام وإنما لكف بأسهم وحتى يذعنوا للأمة المسلمة ويدخلوا في السلم كافة ويتكفلوا بدفع تكاليف الحرب التي  تكبدتها الأمة مع غرامة عادلة وتلك هي الجزية؛ فهي جزاء لهم على بغيهم وعدوانهم يدفعونه دون قيد أو شرط.
وحرية الإيمان هي حق من حقوق الإنسان المقدسة في دين الحق، فلا يجوز أخذ جزية من إنسان مقابل تركه على دينه، بل إن الدفاع عن كل مكان يُذكر فيه اسم الله تعالى هو من القتال في سبيل الله؛ أي هو من القتال المشروع، وكون السلف الصالح قد أخطئوا في إدراك مفهومها السليم لا يجوز أن يُتخذ حجة ضد الإسلام والإنسانية، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل! وكم أخطأ السلف في إدراك مفاهيم قرءانية غاية في الخطورة!! وقد حدث ذلك في أحيانٍ عديدةٍ عمداً مع سبق الإصرار!
لذلك لم يكن من حق السلف أن يُسموا الأموال التي كانت تُفرض على العراقيين والشوام والمصريين باسم الجزية، فلم يكن لهم أن يعتدوا على مصطلح قرءاني، وهذه الشعوب كانت أصلا شعوبا مسالمة تدفع ضريبة من مواردها للمتغلب على بلادها، فقد كانت مصر مثلا تدفع ضريبة للبيزنطيين، والذي حدث أنها استمرت في دفع مثلها ثم أكثر منها للمتغلبين الجدد، وهذا أمر لا شأن للإسلام به، فالجزية بالمصطلح القرءاني كان يجب أن تؤخذ من الروم المحاربين المهزومين وليس من سكان البلاد المسالمين، أما هذه الأموال التي أرغم العرب سكان البلاد التي استوطنوها على دفعها سنويا فكان يجب البحث لها عن أي اسم آخر يناظر الاسم الروماني لها!
والإسلام لم يأمر أحداً بمقاتلة المسالمين والاستيلاء على أموالهم واستيطان بلادهم، وكون السلف قد فعلوا ذلك أو كانوا يتبارون فيه فهذا كان من مقتضيات عصرهم ولا يعني الإسلام الآن في شيء، ولا يلزم المسلمين الآن في شيء، ولا يجوز القول بأنهم عندما كانوا يفعلون ذلك كانوا ينفذون أوامر إلهية! فلمبادئ الإسلام وقيمه الأصلية والكلية العلو عل سلوك وتفسيرات البشر، ذلك لأنها من مقتضيات الأسماء والشئون الإلهية، فالعدوان هو إثم خطير مبين، ذلك لأنه يتضمن اقتراف ما لا يحبه الله تعالى، وهو لن يثيب من اقترف ما لا يحبه، وإنما يلقيه في جهنم إن لم يتب! قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} البقرة، ولا يجوز القول بأن هذه الآية منسوخة لما يلي:
1.     حقيقةُ أن الله تعالى لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ هي سمة إلهية لا تتغير أبدا، فالله سبحانه لا يتغير عما هو عليه أبدا، فلا يجوز القول بأن الله تعالى كان لا يحب المعتدين ثم أصبح يحبهم، هذا القول هو خطأ جسيم وتجديف خطير في حق الله تعالى.
2.     لا وجود أصلاً لآيات قرءانية منسوخة، والقول بأن في القرءان آيات منسوخة بمعنى أن الحكم المذكور فيها قد أُلغي هو من الكفر الفاجر.
وبعد هذا البيان لا يجوز لعبد من عبيد السلف أن يقول لنا: "أتقصد أن فلانا وفلانا وعلانا كانوا مخطئين"؟
ولا يوجد كيان الآن يتحمل مسئولية ما اقترفه السلف من أخطاء في حق الإسلام وفي حق البشرية، وإلا لوجب عليه الاعتذار عما اقترفه أسلافه، أما من يعلن مسئوليته عن هذه الاعتداءات والأخطاء ويعد بإحيائها وتكرارها فيجب على المسلمين قبل غيرهم التصدي له.
والأموال التي أخذها السلف من الناس تحت مسمى الجزية لم تكن تحل لهم، فلا تحل أموال كهذه لأولئك الذين فرضوها واستباحوا لأنصارهم وأعوانهم ومداحيهم نهبَها والاستمتاعَ بها، وكان عليهم أن يسموها بأي اسمٍ آخر وألا يعتدوا على مصطلح قرءاني،  وكذلك لا تحل  لهم أموال الزكاة التي لم يوجهوها إلى مصارفها الشرعية المعلومة، ومن المعلوم الآن أن كل تلك الأموال التي نزحت إلى المدينة ومن بعدها إلي العواصم الأخرى كانت في الأغلب  نقمة على الأمة وأدت إلى فتنة الكثيرين وإلى الاختلاف  والتناحر والتنازع والتنافس وإلى تقوية جانب المنافقين ورقيقي الدين من الطلقاء على حساب المؤمنين الصادقين، ولم تستخدم تلك الأموال لإقامة أو تمويل مشاريع إنتاجية أو لزيادة تحصين مكة والمدينة مثلاً، وكان لابد من الصدام الدامي الذي فرضه الطلقاء والمنافقون على الأمة التي لم تأخذهم بها رأفة ولا رحمة.
فالجزية تُفرض على من قاتل وهو معتدٍ مثل الروم ومن ظاهرهم ولكنها لا تفرض على المسالمين غير المقاتلين وإن كان من الممكن أن يدفعوا ضريبة عادلة لتمويل نفقات الدفاع وإقرار الأمن وتسيير أمور الدولة، وما كان ينبغي أن تُسمَّى تلك الضريبة بالجزية، فالجزية لا تفرض إلا على من قاتل من أهل الكتاب بغيا وعدوانا فهُزِم، ولا تُفرض إلا مرة واحدة، أي أنها لا تفرض إلا على المقاتل المحارب بعد هزيمته، وفي ذلك ردع له ولغيره، وهذا يوفر البديل عن استعباده أو قتله.
أما الضريبة التي فرضت على الشعوب المفتوحة في مقابل الدفاع عنها وكمساهمة في تمويل مؤسسات الدولة فلقد سُميت خطأ بالجزية، والحق هو أن ما سموه بالجزية هو في الحقيقة نظام منقول عن الروم الذي نقلوه عمن سبقهم من الشعوب، وكان هذا خطأ تاريخيا أوقع الناس في لبس وجنى على الإسلام والمسلمين بل على البشرية جمعاء خاصة بعد استيلاء الأمويين على مقدرات الأمور وإعادتهم أحكام الجاهلية إلى مركز السيطرة والصدارة.
-------
إن الجزية هي غرامة حربية يدفعها أهل الكتاب الذين اعتدوا على المسلمين وقاتلوهم في الدين، وكانوا هم المعتدين البادئين بالقتال، يدفعونها وهم صاغرون، وهم يدفعونها مقابل إنهاء القتال، لذلك يجب أن يدفعوها مرة واحدة، ولا يجوز أن تؤخذ من أحد مقابل تركه على دينه، فلا إكراه في الدين، والقرءان يقرر حرية الدين، فهي حق طبيعي للإنسان فلا يجوز أن يؤخذ منه مالٌ مقابل ممارسةِ حق من حقوقه كما لا يجوز أن يؤخذ منه مالٌ لقاء تركه يعيش.
أما من لم يقاتلوا المسلمين في دينهم ولم يخرجوهم من ديارهم فمن كبائر الإثم الاعتداءُ عليهم، بل إن المسلمين مأمورون ببرهم والإقساط إليهم! أما من خالف عن ذلك من سلف أو خلف فهو –وليس الإسلام- الذي يتحمل وزر عمله!! ولن تنقلبَ الجرائم والآثام فضائلَ واجتهاداتٍ إذا كان الذي اقترفها بعض السلف، فللقرءان الحجةُ على الجميع، وليس للناس عليه حجة!
وبناء على ما سبق لم يكن يهود المدينة مثلا يدفعون جزية للمسلمين، بل كانوا يتعايشون معهم وفق عهد وميثاق.
أما القتال فهو مقيد بشروطه المعلومة فإذا ما نشب فإنهاؤه له أيضاً شروطه المعلومة!
-------
إن الجزية المذكورةَ في النص القرآني هي بمثابةِ غرامةٍ حربية يلتزم بدفعها المعتدون من أهل الكتاب كوسيلة لإنهاء القتال مع بقائهم على دينهم وضمان كافة حقوقهم، وهي تُدفع مرةً واحدة، وهي غير الأنواعِ الأخرى من الضرائب التي التزم بدفعها المغلوبون على أمرهم من شعوب الشرق المسالمين الذين انضموا بحكم الأمر الواقع إلي الدولة الإسلامية فصار لزاماً عليها الدفاعُ عنهم وكفالةُ كافة حقوقهم والقيام بأمورهم، ولقد سميت تلك الضريبةُ خطأ أو عرضاً بالجزية، ولا يلزم بالضرورة بعد إلحاق الهزيمة بالمعتدين احتلالُ أو استيطان بلادهم.
وكل أنواع المظالم التي ألحقها العرب بالشعوب المفتوحة يتحملون هم مسئوليتَها وأوزارَها ولم يأمر الإسلام بها، ولا يجوز أن تكون موضع فخر، بل موضع عارٍ وخجل! ويجب العلم بأن العرب الفاتحين -ورغم كل شيء-كانوا أرحم من غيرهم، وأنه لم يكن لديهم نظام للدعوة والتبشير بل لم يكن يعنيهم أمرُ الدعوة إلى الإسلام كثيرا، وإنما كانوا أميلَ إلى اتباع سنن بني إسرائيل بالاحتفاظ بالدين لأنفسهم، فهم لم يحاولوا أبدا فرض دينهم على الآخرين أو إبادة من خالفهم في الدين، ولم يكن ذلك لتحليهم بفضيلة التسامح بصفة عامة أو لعملهم بأوامر دينهم وإنما حرصاً على مواردهم!
وبقيام الدولة الأموية تحول الأمر بشدة إلى احتلال واستيطان لا هم له إلا استنزاف ونزح خيرات الشعوب المقهورة، ولم يُظهر الأمويون باستثناء عمر بن عبد العزيز أية رغبة في نشر الإسلام بين هذه الشعوب حرصا على مكاسبهم المادية وإنما انتشر الإسلام رغم أنوفهم.
ولم يحدث أن حاول أحد القائمين على الأمر بمصر مثلا حمل الناس على اعتناق الإسلام وإنما الذي حدث أن كثيرا منهم قد انحازوا إلى صف أهل الكتاب ضد أهل مصر المسلمين، ومن هؤلاء كثير من الأيوبيين والفاطميين وبعض المماليك، ولقد ثبت أن أكثر من استقلوا بأمور مصر كانوا يفضلون الاستعانة بأهل الكتاب في الوظائف والأمور الإدارية.


إنه يجب التخلص والتبرؤ من المفهوم الخاطئ للجزية، وأن يعلن المسلمون ذلك على رؤوس الأشهاد، فمصلحة الإسلام والحقيقة والإنسانية مقدمةٌ على كل اعتبار آخر!

هناك تعليقان (2):