الأحد، 5 يوليو 2015

الآيات المادية الحسية

الآيات المادية الحسية

عندما يبعث الله رسولا أو نبيا إلى الناس فإنه يزوده بالبراهين اللازمة والكافية لكي يؤمن له من لم يزالوا أحياء على المستوى الجوهري، وليس المقصود من الآيات إكراه الناس على الإيمان أو القضاء على ما هو من لوازم الحقيقة الإنسانية مثل حرية الإرادة والاختيار.
وإظهار الرسول لآية مادية باهرة يكون ذا خطر شديد على قومه، ذلك لأنه سيترتب عليها إهلاكهم أو تعذيبهم عذابا شديدا إن لم يؤمنوا، قال تعالى:
{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)} المائدة
وقال: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء:59]
والمقصود هنا الآيات التي طلبها قوم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، والآية لا تنص على المنع المطلق، وإنما تبين سبب المنع؛ أي سبب عدم الاستجابة إلى مقترحات قوم الرسول في هذا الشأن، قال تعالى:
{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)} الإسراء.
والحق هو أنهم رفضوا الهدى لأسباب غير حقانية، ومنها أن الرسول بشر مثلهم:
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولا} [الإسراء:94].
ومنها أنهم كانوا يتوقعون أن تنزل الرسالة على رجل عظيم من القوى العظمى في عصرهم، وليس على رجل منهم:
{وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقرءان عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم} [الزخرف:31].
فمن رفض الإيمان على سبيل المعاندة ولتدهور حالة كيانه الجوهري، لن يقبل الهدى مهما رأى من آيات.
ولو كانوا يريدون الحق لذاته ولا يسعون معاندين لأسباب غير حقانية لكان نزول القرءان على رجل منهم كانوا يعرفونه تماما كافيا لهم، قال تعالى:
{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} العنكبوت.
وقد أثبت الله تعالى بقصة عيسى عليه السلام أنه لا جدوى من استعمال الآيات (المعجزات الحسية)، لقد كان هو وأمه آية، واستعمل آيات عديدة، ومع ذلك لم يؤمن له إلا الحواريون، ومن قبل كانت ناقة صالح آية مبصرة، فقتلها قومه واستحقوا الإبادة بسبب ذلك.

وآية انشقاق القمر حدثت بالفعل، ولا يجوز الاحتجاج لنفيها بأن أخبارها لم تصل من مصادر أخرى، فلم تصل للناس كل أخبار التاريخ القديم، بل اندثر أكثرها كما هو معلوم، وهكذا شأن مثل هذه الآيات، لا تكون بحيث تظل أعناقهم لها خاضعين، لا يمكن أن تأتي آية بحيث تقوِّض مقصدا وجوديا، فلابد من ابتلاء الناس ليتبين أيهم أحسن عملا، كما أن تحقق آية هائلة يستوجب العذاب الأليم لمن سينكرها، وهذا يتنافى مع الرحمة الإلهية.
قال تعالى:
{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)} القمر
فقد كان من الآيات التي أراها الرسول لبعض قومه انشقاق القمر، ولقد انشق القمر بأمره بالفعل بإذن ربه عندما طلبوا منه ذلك، وكان ردّ فعلهم هو ما ذكرته الآيات؛ أعرضوا وقالوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ، وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ، ولا يوجد أي تناقض مع الآية: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً} الإسراء59
فالأولون يتضمنون أول من سأل الآيات من قوم الرسول ورأوا آية انشقاق القمر، فهم كذبوا بها، وكان منع إرسال الآيات المادية مثل هذه هو رحمة بهم، فرؤيتها لن تغير من الأمر شيئا، ولن تدفع أحداً إلى الإيمان، فالإيمان والكفر تحركهما في قلب الإنسان دوافع ذاتية خاصة وقلما يفلح أمر خارجي في تغيير شيء من ذلك، لذلك قال كفار قريش للرسول أن ما رأوه هو سحر مطرد معهود منه، ولذلك قالت الآيات: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ{14} لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ{15} الحجر، والرحمة هي لأن من رأى الآيات وجحد بها سيناله أشد العذاب.
ويقول بعض المجتهدين الجدد إن انشقاق القمر من علامات الساعة وأن وكالة الناسا الأمريكية أثبتت أن القمر لم ينشق، أما القول بأن انشقاق القمر من علامات الساعة فلا معنى له، فالانشقاق كان آية، وعندما تقوم الساعة لن ينتفع الإنسان بأي شيء يمكن أن يراه، والآيات لا تكون عبثا، وقيام الساعة مقترن بتدمير هذا العالم المشهود للإنسان كله بسماواته وأرضه.
أما الناسا فما أثبتته هو أن الشقوق التي على سطح القمر لا ترجع إلى انشقاقه، فهي تكذِّب أقوال بعض دعاة الإعجاز العلمي الذين قالوا بذلك، ولكنها لا تكذِّب بشيء من القرءان، ذلك لأن الله تعالى الذي هو قادر على تسوية بنان الإنسان لن يعجز عن أن يعيد القمر بعد انشقاقه إلى الحالة التي كان عليها بالضبط.
ومن المعلوم أن أكثر قوم النبي لم يؤمنوا -رغم أنف عبيد (الصحابة) الذين كذبوا القرءان- قال تعالى:
{إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)} يس
فقد كان يوجد عدد هائل من المنافقين، ولذلك أفرد القرءان سورة كاملة وأجزاء من سور أخرى لبيان أمرهم، ولو كانوا عددا صغيرا لما احتفل بأمرهم.
فلكون القول قد حقَّ عليهم فلو رأوا معجزة حسية واضحة ورفضوا الإيمان بها لاستحقوا الهلاك، ولقد هلك بعض صناديد قريش الذين رأوا معجزة انشقاق القمر في بدر من بعد، ولولا وجود الرسول الذي هو رحمة للعالمين لهلكوا كلهم، قال تعالى:
{وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُون} [الأنفال:33]
ولولا كل ذلك لهلك المنافقون على المستوى الظاهري كما هلكوا على المستوى الجوهري.
ولقد أُمر الرسول ألا يستجيب لمن يطلب آية (أي معجزة مادية) واضحة وأن يأمرهم بالاكتفاء بالقرءان كآية، وكان هذا بالطبع للأسباب المذكورة بالإضافة إلى لفت الأنظار لضرورة الاكتفاء بالقرءان كآية ستظل مع الناس، وكآية مظهرة ومنتجة للآيات.
قال تعالى:
{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} العنكبوت
وقد قال تعالى:
{وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِين} [الأنعام:35]
هذه الآية القرءانية تبين أن الإتيان بآية (معجزة مادية ظاهرة) لا يحدث إلا بالإذن الإلهي والمشيئة الإلهية، وأن الإنسان من حيث ذاته لا يستطيع فعل شيء، ولم يكن يجوز للمجتهدين الجدد وغيرهم انتزاعها من سياقها واستعمالها لنفي الآيات عن الرسول مطلقا، وها هو السياق:
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)} الأنعام.
فالآيات تبيِّن ما يشعر به كل نبي كريم أو مصلح مخلص رؤوف رحيم عندما يُفاجأ بإعراض قومه عنه وتكذيبهم غير المبرر له ورفضهم مجرد سماع أقواله، وهي تبين مثلما فعلت آيات أخرى أنه لا يستجيب إلا من زالوا أحياء على المستوى الجوهري، فالآيات تتحدث عن تفاوت استجابات الناس لدعوات الرسل كظاهرة طبيعية يجب التعايش معها وإبداء الاستجابة المناسبة لها، فبذلك يترقى الإنسان ويتحقق بكماله المنشود.
ونفي إظهار الآيات عند التحدي لا ينفي إظهارها لمقاصد أخرى، ولم يرد أي نص قطعي الدلالة يقول بأن الرسول لم يكن يستعمل الآيات المادية أحيانا، لذلك لا يجوز لأحد القطع بنفي الآيات التي كان الرسول يستعملها من حين لآخر لتثبيت المؤمنين ولحلّ مشاكل عارضة خاصة وأن الأخبار تواترت بصدور أعمال خارقة للمألوف من كثير من عباد الله الصالحين.
أما الإسراء والمعراج فهي من الأمور الخاصة بمقام النبوة والرسالة، ولم يكن المقصود من الإشارة إليها التحدي وإنما الإخبار المحض عن حقائق مثل سائر قصص الأنبياء، وبالطبع فإن لذلك مقاصده.

*******


هناك تعليقان (2):

  1. جميل جدا أستاذنا.. من أكثر الموضوعات التى أثارت حيرتى طويلا، فلك جزيل الشكر..

    ردحذف