الخميس، 9 يونيو 2016

سورة التحريم 9

التحريم 9

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ{9}

إن الجهاد هو أمر قرءاني كبير وركن من أركان الدين الملزمة لكل الكيانات الإنسانية من الفرد إلى الأمة، وهو يتضمن جميع الأعمال والإجراءات والتدابير التي يجب اتخاذها من قبل الكيان المسلم ضد كل ما يعوق سعيه للقيام بأركان الإسلام ودعم وتوطيد وترسيخ قيمه ومثله وسننه وتحقيق أهدافه ومقاصده، وأخطر ما يعوق هذا السعي هو نفس الكيان.
وهذا الركن ملزم لكل كيانٍ مسلم من الفرد إلى الأمة، ونفس الإنسان هي أخطر ما يعوق رقيه وتزكِّيه، ومكونات الأمة هي أيضا أخطر ما يعوق تقدمها وقيامها بالمهام المنوطة بها، لذلك وجب على كل كيان أن يجاهد نفسه.
فالإنسان الفرد ملزم أولا بأن يجاهد أعدى أعدائه؛ أي نفسَه الأمارة بالسوء حتى تتزكى، وعليه أن ينشغل أساسا بأمر بنفسه قبل أن يهتم بأمر غيره وإلا ضربته أمراض الرياء والنفاق وعبادة النفس وغيرها من مظاهر الشرك.
فالجهاد يعني أن يبذل الكيان الإنساني غاية الجهد لتحقيق مقصد كلي أو فرعي من مقاصد الدين أو للقيام بركن من أركان الدين أو لدعم وترسيخ قيمه وسننه وذلك في وجود ما يمكن أن يحول بينه وبين ذلك من الكيانات المادية أو المعنوية أو اللطيفة أو الكثيفة بما في ذلك الكيان نفسه أو مكوناته أو صفاته.
والجهاد يتضمن كل الأعمال المشروعة التي يمكن أن يقوم بها الكيان المؤمن لتحقيق مقاصد الدين على كافة المستويات، فهو يتضمن بذلك مغالبة الكيان المسلم لأي كيان -بما في ذلك نفسه- يحاول أن يحول بينه وبين تحقيق مقاصد الدين والقيامِ بأركانه وتحقيق قيمه، لذلك فعندما يكون الكيان فردا فإنه يكون ملزماً بجهاد نفسه، وجهاد النفس يعني مغالبة مقتضيات نقصها من الأحاسيس والأهواء والدوافع والرغبات والعادات التي تحول بين الإنسان وبين تزكية كيانه، فهو يتضمن جهاداً ضد الصفات المترتبة على نقص نفسه اللازم لها والذي يجتذب إليها إيحاءات وإلقاءات ووساوس شياطين الإنس والجن.
ومن الأركان الفرعية للجهاد: جهادُ النفس، التصدي للظلم والبغي والكفر والنفاق والشرك والفساد والإفسـاد في الأرض بكل ما هو ممكن ومشروع من الوسائل، وكذلك مقاومة الجهل والتخلف والاستبداد والطغيان والخيانة والفسوق.
وجهاد الكفار والمنافقين يعني بذل غاية الجهد للتغلب عليهم ودحضِ حججهم ودمغِ باطلهم ولكنه لا يتحول إلى قتال إلا دفعاً لعدوان صريح منهم أو درءاً لفتنة، فالجهاد يتضمن كل سعي وعمل إيجابي ضد كل ما يحول بين الكيان المجاهد وبين مقصد ديني يسعى إلى تحقيقه.
فهذه الآية توضح أن الجهاد لا يعني بالضرورة القتال، بل إن الجهاد يكون بالقرءان وما ورد فيه من الأسس والحقائق والبينات، قال تعالى:
{فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52]
فلا يجوز مقاتلة الناس بحجة أنهم كفار أو منافقون، وإنما يتم قتالهم إذا توفرت الشروط المعلومة للقتال مثل أن يعتدوا على المؤمنين أو أن يخرجوهم من ديارهم، فالجهاد هاهنا هو الجهاد السلمي الذي يمكن أن تشتد وسائله إلى أقصى درجة ولكن لا تصل إلى القتال، وبالطبع فإن الأمر هاهنا مقيد بكل الأوامر الدينية الأخرى ومنها تلك التي تحدد السبل الشرعية للدعوة والتي تحض على مكارم الأخلاق والصفح والحكمة وحسن التعامل مع المسالمين، قال تعالى:
{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الممتحنة8.
ولم يقاتل الرسول المنافقين أبدا، وكيف يقاتلهم وكانوا محسوبين على المسلمين المؤمنين ولم يكونوا معلومين؟ ولقد كان المنافقون يصلون مع المؤمنين في مسجد المدينة، ولم يأمر الرسول بإخراجهم من المسجد أبدا، كما كانوا يخرجون معه إلى القتال، ولقد نص القرءان على وجود منافقين لا يعلمهم الرسول فضلا عن غيره، قال تعالى:
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيم} [التوبة:101]
وكل ما في الأمر أن الرسول نهي عن أن يستغفر لهم إجمالا وألا يصلي على أحدٍ منهم، وهذا المر متعلق بمن انكشف أمره تماما من أفعاله، قال تعالى:
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)} التوبة
فهذه الأوامر التي نزلت متحدثة عن غزوة تبوك وما صاحبها هي من أواخر السور نزولا، وهي هنا تتحدث عن طائفة معينة هم من رفضوا الخروج مع الرسول، فهؤلاء هم الذين جهروا بالكفر الذي كانوا يخفونه واستبعدوا أنفسهم من الأمة فاستبعدوا منها، ومن البديهي أن يُنهى الرسول عن الصلاة عليهم، ومع ذلك لم يؤمر بقتالهم.
ويلاحظ أن الأمر بالجهاد هاهنا هو موجه بالتحديد للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، ذلك لأنه هو أعلم الناس بالمعاني الحقيقية الموجودة في القرءان، وكان يتلقى من الله الوحي الصادق، وكانت سنته مصدقة له، لذلك فالأمر موجه أيضًا إلى من تأسَّى به في سنته الحقيقية ممن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا، وبالطبع فقد كان من آمن به من قومه ملزمين بطاعته.
أما الآن فليس من حق أتباع المذاهب التي حلَّت محل دين الحق الذي أُرسل به وليس من حق من لم يتأسَّ به ومن لا يستطيع أن يميز المنافق من المؤمن أو من كان هو نفسه منافقا أن يقحم نفسه فيما ليس له أو أن يزعم لنفسه مكانة تتيح له أن يفسد في الأرض أو أن يوقد نيران الحروب.
*******

هناك تعليق واحد: