الأربعاء، 8 يونيو 2016

الاسم الإلهي المحيـط

المحيـط
قال تعالى:
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ }البقرة19، {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } آل عمران120، {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً }النساء108، {وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً }النساء126، {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }الأنفال47، {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }هود92، {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } فصلت54، {وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ}البروج20.
لذلك فمن أسماء الله الحسنى الاسم "المحيط"، وهو أيضا من أسماء النسق الأول؛ أي من الأسماء المطلوب إحصاؤها.
الله هو المحيط، فهو الذي له الإحاطة المطلقة التامة بكل ما هو دونه وتلك الإحاطة هي من حيث ذاته وهويته ومن حيث كل أسمائه وآلاته التي هي مخلوقاته، وهذا يعني أنه لا مهرب لهم من الخضوع المطلق لقوانينه وسننه ولا مفرَّ لهم منه إلا إليه، وأينما تَولوا فثمَّ وجهه، ومن لوازم إحاطته المعية الذاتية العامة والمعية الأسمائية الخاصة.
والاسم المحيط هو كالاسم العليم من حيث اتساع مجاله، ومفردات وعناصر هذا المجال هي كل ما يمكن أن يطلق عليه شيء.
فالإحاطة من السمات الذاتية الإلهية وبها يكون هو حاضرا مع كل شيء كما يكون كل شيء حاضراً عنده ماثلا بين يديه بما في ذلك الكيانات الأمرية والأطر الزمكانية، فكل شيء لديه ليس إلا مجموعة من المعاني مؤلفة بقدر معلوم، وحقيقة كل شيء عنده، كما أن لديه كل المعادلات التي تحكم تفاعلات الأشياء والتي يكون بناء عليها الأمر والتقدير والتدبير، وتلك المعادلات هي من مقتضيات ترابط منظومات أسمائه، وبأمره وقضائه وإرادته ومشيئته تتشكل وتتكون الأشياء في وقتها المعلوم لديه، وتصرفه بكل الكائنات وعمله بها أيسر بالنسبة إليه مما يقوم به الإنسان عندما يتخيل شيئا أو يؤلف في ذهنه ما يشاء من الأحداث، وتحقيقه لأمر ما  أيسر بالنسبة إليه وأهون عليه من صدور القول عن الإنسان بالنسبة إلي الإنسان.
ولقد أحاط سبحانه إحاطة ذاتية بالكائنات والأفعال والأقوال والأعمال، فكلها له من حيث هو، فهو حاضر مع كل شيء، وهو يتتبع العمل الصادر عن العبد حال كونه فكرة تجول في خاطره إلى أن تعمل على تحقيقه جوارحه إلى أن يظهر في العالم الخارجي وتترتب عليه آثاره التي ترتد على صاحب الفعل فيترقى أو يتردَّى بسببها.
وهو أيضا محيط بكل أمر من حيث صدوره أصلا عنه ومن حيث نزوله بواسطة ملائكته وسريانه بمشيئته ومن حيث عروجه أو رجوعه إليه بعد تحقق الغاية منه، وهو محيط بالأبصار والبصائر والمدارك، فلا سبيل لها إليه وإن كان لها تعلق بآثار أفعاله وتجلياته.
ومن لوازم الإحاطة أن له القهر فوق عباده وفوق كل ما هو من دونه، فهم خاضعون جميعا لأمره ولقوانينه وسننه، ولا يستطيعون دفعا لقضائه ولا لأحكامه.
وهذا الاسم يقتضى من الإنسان ألا يشبه ربه بخلقه وأن يجله عن التحيز الزماني أو المكاني وأن يستشعر أنه محيط به من كافة الحيثيات وعلى كل المستويات، فهو محيط به زماناً ومكانا وظاهراً وباطنا وسراً وعلنا، فما من أمر يجول بخاطر الإنسان أو يحوك في صدره إلا وهو ماثل عنده، ويترتب على ذلك أن تنتقش في لوح الإنسان المحفوظ كل آثار عمله بطريقة لا تخفي على الله سبحانه، والإحساس بالإحاطة الإلهية من لوازم التقوى ومن تفاصيلها الخشوع والإخلاص والهيبة والإجلال والحب والإخبات، وإحاطته بكل ما هو من دونه يعنى إحاطة ذاته بالذوات وسماته بالصفات.
فالله هو المحيط الذي له الإحاطة الذاتية والكمالية بكل شيء، لذلك فله الإحاطة بالعرش بما احتواه من سماوات، فكيف يظن المشبهة أنه مقيد بالجلوس فوق عرش فوق السماء السابعة؟ إنهم يظنون أن السماوات هي كطبقات بيت هائل كبير، ولقد أعلن بأجلى بيان أنه خالق الأرض والسماوات العلى، ولقد كان الله قبل خلق السماوات، وهو الذي اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ، فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ، فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا، وهو الذي زَيَّنَّ السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وحفظا، ولإحاطة الله سبحانه بالسماوات فإنه سيطويها بيمينه يوم القيامة.
والإحاطة تعني تقدسه وتنزهه التام عما يجول في قلب الإنسان، بل إنه يجل من حيث ذاته عن كل ما يمكن أن يجول بخاطر نبي مرسل أو ملك مقرب، هذا في حين أن له هو إدراك كل ما يجول بخواطرهم عنه، ولذلك فإنه يقبل من عباده ما يترتب على قصور تصوراتهم عنه، ولكنه لا يقبل ممن عرف تصوراً أعلى أو دُعي إليه أن يظل متشبثاً بالتصور الأدنى، فمثل ذلك يصبح عقبة في سبيل التطور الإنساني ويجعل نفسه مهدداً بالإزالة حتى لا يعوق مسيرة التقدم.
-------
إن الكائن الذي يلزمه ثلاثة أبعاد لتعينه والتعبير عنه له الإحاطة بالكائنات المتعينة في عالم ثنائي الأبعاد، ويستطيع أن يرى ما في باطنها، ولا يمكنها الإفلات منه، بينما لا تستطيع هي الإحاطة به، ذلك لأن لديه بعدا ثالثا لا علم له به، ولا تستطيع إدراكه، وكذلك الأمر كلما ازداد عدد الأبعاد، فللكائن رباعي الأبعاد الإحاطة التامة بالكائنات ثلاثية أو ثنائية الأبعاد، فما بالك بمن له الإحاطة التامة بكل الأبعاد؟ بل هو الذي قدرها واقتضاها وربط الأكوان بها.
-------
ومن الناحية اللغوية فكلمة "محيط" هي اسم فاعل من الفعل "أحاط".
وكرمز فالميم إشارة إلى ثبات سماته وبقائها فلا تبديل ولا تحويل لها وإلى أن تلك السمات هي أصل الكمالات، والحاء إشارة إلى التأثير المطلق لسماته ونفاذها التام في كل الأكوان وعلوها المطلق على كل ما اقتضته من سمات وكائنات وكيانات، والعلو يقتضي الإحاطة فهو علو متضاعف وإحاطة متضاعفة، والياء إشارة إلى أنه لابد من مجال لعمل هذا الاسم وظهوره، والطاء إشارة إلي العلو المطلق المقترن بتلك الإحاطة الذاتية والأسمائية، فهو من الأسماء التي تستلزم وجود الكائنات وهو من الأسماء الحسنى.
والرمز أيضاً يشير إلي ثباته علي ما هو عليه وعلي تأثيره المطلق فيهم وإلي أن له العلو والطول والترفع والكبرياء عليهم، كما يشير إلي أن إحاطته بهم هي عين حضوره معهم وتأثيره فيهم.
------
إن لله تعالي إحاطة بالأشياء من حيث كافة مراتبه وتجلياته وكذلك من حيث كافة أطوارها، فله الإحاطة بكل ماهية مذ تعينت بمقتضى سننه وبكل كيان مذ تألف بمشيئته وله إحاطة به في حالة كونه عنده بمقدار وله الإحاطة به بعد أن خلقه وقدره تقديرا، فكل كيان ماثل أمامه بكافة أطواره الممكنة، فهو ماثل ككيان أمري محكم وهو ماثل كمجموعة من الصفات المفصلة ذات المقادير المعلومة وهو ماثل من حيث أنه كيان خلقي مسبوق بكيان أمري….
------
في العالم ثنائي الأبعاد يكون الخط المقفل كالدائرة مثلاً محيطاً بكل ما يمكن أن يوجد بداخله من نقاط ومن أشكال أحادية وثنائية الأبعاد، وفي العالم ثلاثي الأبعاد يكون السطح المقفل محيطا بكل ما يمكن أن يوجد بداخله من أشياء ثلاثية أو ثنائية أو أحادية الأبعاد، وفي العالم رباعي الأبعاد يكون السطح المغلق هناك محيطا بكل ما يمكن أن يوجد بداخله من أشياء ذات أربعة أبعاد فأقل، فإذا كان أحد هذه الأبعاد هو الزمن فلن يفلت الكائن الموجود بالداخل من إحاطة هذا السطح طوال الفترة الزمنية الممكن وجودها فيه، فلن يستطيع الإفلات مثلا إلا كائن ذو خمسة أبعاد وذلك عبر البعد الإضافي الخامس، وإذا كانت الأبعاد هي السمات الأصلية المطلقة فإنه يتبين أنه لا يمكن لأي كائن حادث هو بالأصالة من مقتضياتها أن يفلت منها لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل، وبالطبع فإن الأمر يجل عن المثل الزمكاني المضروب، فلله تعالي الإحاطة الوجودية والأسمائية بكل ما خلقه وقدره ونتج عن مشيئته، ولا يجوز أن يتصور أحد أن الإحاطة تعني أن حقيقة ذاته هي الوجود من حيث هو وجود ولا أن يتصور أنه يعني حلوله في الكائنات، وحقيقة ذاته سبحانه هي أعلى وأجل من أن تخطر ببال مخلوق من مخلوقاته.
ومن مقتضيات هذا الاسم تعدد الأكوان واختلاف الأطر وتعدد الأبعاد اللازمة لكل إطار لازم لكل عالم.
------
المحيط هو الذي له الإحاطة التامة بكل شيء من حيث أن ذلك الشيء إنما تميز عن العدم وصار شيئا به ثم برز إلى الوجود كذلك به، فهو سبحانه محيط بكل شيء من كل حيثية وبكل كيفية، فكل الأشياء إنما اقتضتها أسماؤه الحسنى، فمن حيث علمه بما هو له علم كل شيء وأحاط به من كافة جوانبه دون ما حاجة إلى تعمل أو تمعُّن أو تكلف أو دراسة، وهو من حيث هذا الاسم معتنٍ بخلقه حفيظ عليهم يرعى شؤونهم ويدبر أمورهم ، ويقود كلا منهم إلى التعرف على حقيقة نفسه التي تتبدى له من خلال ما ينطق به وما يظهر على يديه وما يقدم من عمل، ومن حيث هذا الاسم لا مهرب لهم منه إلا إليه، فكلهم في قبضته خاضعون لقوانينه وسننه، لا يملك أحد  لنفسه الخروج عن إحاطتها أو العلو عليها، وكل ما يمكنه فعله هو الخضوع لها والتعرف عليها والاستفادة منها.
ولقد أحاط سبحانه إحاطة ذاتية بالكائنات والأفعال والأقوال والأعمال، فكلها له من حيث هو، فهو حاضر مع كل شيء، وهو يتتبع العمل الصادر من العبد حال كونه فكرة تجول في خاطره إلى أن تعمل على تحقيقه جوارحه، إلى أن يظهر في العالم الخارجي، وتترتب عليه آثاره التي ترتد على صاحب الفعل فيترقى أو يتردَّى بسببها.
وهو أيضا محيط بكل أمر من حيث صدوره أصلا عنه ومن حيث نزوله بواسطة ملائكته وسريانه بمشيئته ومن حيث عروجه أو رجوعه إليه بعد تحقق الغاية منه، وهو محيط بالأبصار والبصائر والمدارك، فلا سبيل لها إليه وإن كان لها تعلق بآثار أفعاله وتجلياته.

وليست تلك الإحاطة كإحاطة السور بالمدينة مثلا بل هي فوق كل إدراك وتصور، وإذا كانت إحاطة السور بالمدينة هي إحاطة ثنائية الأبعاد لا تمنع من بداخلها من الإفلات عن طريق البعد الثالث فإنه سبحانه يحيط بالكائنات من حيث كل الأبعاد المعلومة والمجهولة، فلا يمكن الإفلات منه، فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.


*******

هناك تعليق واحد: