الأربعاء، 29 يونيو 2016

الحلقة الإلهية الخالق البارئ المصور

الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ
قال تعالى:
{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الحشر24
فطبقاً لأسس استخراج الأسماء فإن (الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ) هو اسم واحد يعبر عنه بكل تلك الألفاظ، وهذا الاسم هو من أسماء النسق الأول من الأسماء الحسنى، وهو من الحلقات الإلهية.
فهذا الاسم يشير إلى سمة واحدة تفصيلها هو السمات الثلاث التي تشير إليها الأسماء المفردة الْخَالِقُ والْبَارِئُ والْمُصَوِّرُ إذ هي أقرب ما يمكن به التعبير عنها، وبالنظر إلى آثار ومقتضيات تلك السمات الثلاث يمكن للإنسان من حيث ملكاته القلبية الذهنية أن يتعرَّف على تلك السمة، فالإنسان يدرك ويتفهَّم الأشياء بتحليلها وتفصيلها، أما من حيث الحقّ سبحانه وتعالى فهي سمة واحدة تقتضي إيجاد الكائنات ذات الصورة كالإنسان والشمس والقمر والدواب والشجر وغيرها مما يمكن أن يتعلق به الإدراك البصري، فمن حيث ذلك الاسم هو يخلق الشيء أو يقدِّره، والتقدير هنا هو التصميم (To Design) طبقاً للمصطلح المعاصر، فمن مظاهره في هذا العالم: المهندس المصمِّم، ومحلُّ الشيء من حيث هو مصمَّم هو العالم العلمي الباطن والذي هو من عالم الغيب بالنسبة للإنسان.
والبارئ هو الذي يتولى التنفيذ ويكون ذلك باختيار المواد المناسبة وكميَّاتها كما يتولى صياغتها وفقا لما هو موجود من تقدير أو تصميم، فمن مظاهره في هذا العالم المهندس التنفيذي أو الإنشائي، ثم يتم التصوير، وهو الصياغة الشكلية للكائن العيني أو هو الكائن كما يظهر للآخرين، فبتلك الصورة تتعلق الإدراكات المناسبة التي لدى الكائنات الأخرى، ومن مظاهر المصور في هذا العالم المهندس المعماري، فالمصور هو مانح الصورة ومبدعها فهو الذي يختارها من كل ما لديه مما اقتضاه من صور ممكنة وليس هو ملتقط الصورة.
وبالتصوير يتم ظهور الكائن ذي الصورة، فيؤول أمره إلى الخالق الذي يقدِّر له من الأحداث والوقائع والابتلاءات ما يحقق الغرض من خلقه وإيجاده، هذا بالإضافة إلى أنه يعيد خلقه من جديد بما يجريه في جسده من تبديل وتغيير وإحلال وتعويض وبذلك تتم الحلقة الإلهية التي تتولى أمر الكائنات ذات الصورة، فتقلب الإنسان في أطواره المختلفة مقترن بخلقه خلقاً من بعد خلق.
وهذا الاسم من الأسماء التأثيرية التي يترتب عليها تعين كيانات خارجية أو غيرية، وإعلانه سبحانه أنه "الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ" يعني أن له هذه السمة المحكمة (الإحكام الذاتي المقابل للتفصيل) على وجه الوجوب والإطلاق، وهذا يعني أنه هو غير مخلوق وأنه ليس له صورة بالمعنى الذي عليه مخلوقاته، فلا يمكن رؤيته على ما هو عليه ولا يمكن للحواس أن تدركه.
وكل اسم من الأسماء التأثيرية لابد أن يؤدي وظيفة تامة، فالاسم "الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ" ينتج عنه كل ما له صورة من الكائنات كالإنسان والدواب والشمس والقمر، ولابد في تلك الحالة من أن يكون التصوير مسبوقا بالخلق والبرء، ولكن الخلق يمكن أن ينتج عنه الكائنات والأمور المقدرة التي لا صورة لها، فهي ليست بحاجة إلى عمل البارئ والمصور ليكتمل تعينها، فالخالق يقدِّر الأمور ويضع التصميمات (الأشياء المقدَّرة) ولكنه قد لا يحققها بالبرء، وقد لا تقتضي ماهية الكائن أو حقيقته أن يكون له صورة يتعلق بها الإدراك البصري، كذلك يمكن أن يستقل البارئ بوظائف عديدة ، فالبارئ يخلق ويسوِّي ما لا صورة له كالنفوس المجردة والكائنات اللطيفة والتي قد تدركها حواس الإنسان الباطنة فتصورها بصورة من المختزنة لديها، والبارئ قد يبدع بعض الأشياء دون أن تسبقها عملية خلق، وهو أيضاً الذي يحقق ما كُتِب علي الإنسان وعلي الأمم من مصائب وابتلاءات ويداوي ما لدى الناس من نقص وما يترتب عليه ويخلصهم من آثاره، فعمل البارئ يترتب عليه إيجاد كيانات أمرية، ولكل ذلك كان كل اسم من هذه الأسماء الثلاثة من الأسماء الحسنى المفردة.
وهكذا فالاسم الإلهي يعبر عن فعالية إلهية تامة، ولكن العقل البشري الذي يستمد خبراته من هذا العالم المادي يريد أن يحلِّل ليفقه ويستوعب، ففي هذا العالم من يريد أن يبني بيتاً مثلاً فإنه يستحضر كل ما لديه من علم وإمكانات ليصمِّم البيت في ذهنه أولاً، وقد يستعين بوسائل خارجة عنه لرسم هذا التصميم كورقة أو شاشة حاسوب، ثم يقوم بتنفيذ هذا التصميم، وقد يضطر إلى تعديل هذا التصميم، ثم بعد التنفيذ يقوم بوضع اللمسات النهائية على البيت لإكسابه شكلاً جمالياً، وقد يضطلع بكل عملية من تلك العمليات شخص آخر أو مجموعة أشخاص، أما بالنسبة لله تعالى ؛ فلعلمه المحيط الشامل وقدراته اللانهائية وكماله المطلق، يستطيع أن ينجز كل تلك الأعمال من حيث اسم واحد، فهو ليس بحاجة إلى مراجعة نفسه، ولا يبدو له أمر لم يكن في حسبانه، ولا يحتاج إلى هيئة من المساعدين ولا إلى مواد ينفِّذ بها البناء وهو غير مقيد بزمان أو مكان ولا يمسه من لغوب.
وبالطبع فلهذا الاسم ملائكته وجنوده الذين لا يعلمهم إلا الله تعالى، وهم بمثابة محض آلات له؛ يتلقون منه بكيفية معهودة عندهم ما يجب عليهم فعله، وتلك هي عبادتهم لله تعالى وتسبيحهم بحمده.
وإلى الاسم "الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ" يستند الكثير من الملكات والقدرات والأنشطة الذهنية في الإنسان، وبذكره ينمي الإنسان هذه الأمور ويزكيها.


*******

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق