الجمعة، 2 ديسمبر 2016

النســاء 105-113

النســاء 105-113

إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا(105)وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا(106)وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا(107)يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا(108)هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا(109)وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا(110)وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا(111)وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا(112)وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا(113)
يقولون إنه لابد من معرفة سبب النزول لمعرفة تفسير الآيات ورغم أن هذه الآيات بالذات تتعرض لواقعة مشهورة فإنه يمكن تفسيرها واستخلاص ما يفيد المسلمين منها دون التطرق إطلاقا لتلك الواقعة:
لقد أنزل الله تعالى الكتاب على رسوله وجعل من مقاصد ذلك أن يقوم الناس بالقسط وهو من لوازم تحقيق المقصد الأعظم الثالث أي إعداد وبناء الأمة الخيرة الفائقة، وفى العصر النبوي كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ يقوم بما تقوم به الآن السلطات التنفيذية والقضائية والعسكرية، لذلك كان عليه أن يحكم بين الناس بحكم الله وفق ما أراه الله أي وفق الأسس والقواعد التي بينها له وليس بمعنى أنه عند القضاء بين خصمين كان منطوق الحكم ينزل عليه بالضرورة من السماء، ولذلك حذر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ الناس من تقبل وارتضاء حكم غير صحيح لأنه جاء في صالحهم، فالرسول إذًا كان من مقاصد بعثته إلى قومه أن يحكم بينهم، وهذا يشير إلى سنة شرعية وأمر واجب وهو أن القضاة ينبغي أن يكونوا من الأئمة الخيرين الدعاة، ذلك لأن الحكم بين الناس لا يستلزم فقط دراية بنصوص القانون وإنما لابد من تلقى إعداد روحاني وتزكية نفسية وكذلك اكتساب القدرة على معرفة الحق أي الحكم الصادق في القضية المعروضة والقدرة على استخراجه أو استنباطه بقلب منور بنور الإيمان، ولا يعنى هذا أن يعتمد على كشف باطني لمعرفة المنطوق الصائب للحكم، ولكن أن يكون على قدر من السمو العام الذي يعصمه من الخطأ أو الاستجابة للإغواء أو الأهواء أو الدوافع والاعتبارات الذاتية على حساب الموضوعية والحقانية وبذلك يكون لديه ما يجعله قادرا على إظهار الحق مهما طمر تحت الحجب، والتوجه إلى الله تعالى بصدق هو خير عون على ذلك، فالحكم بين الناس ليس مجرد عمل مهني تقني، وتبين الآية أن هذا الكتاب يتضمن ما هو كافٍ للحكم بين الناس، لذلك فهو المرجع الرئيس الذي يمكن أن يستقى منه التشريع وتستنبط القوانين.
فقضاة المؤمنين ينبغي أن يكونوا من أولي هذا الأمر منهم، ولكل مؤمن نصيبه من هذه الآية لأنهم المصطفون لوراثة الكتاب، ولا يجوز للمؤمن أن يدافع عن الخائنين ولا أن يميل إليهم، ذلك لأن المرء بميله هذا يعرض نفسه لخطر التأثر بهم واكتساب بعض خصالهم، وهذا يعنى أيضا أنه يجب استبعاد كل الاعتبارات الشخصية عند الحكم في القضايا فإذا ما وجد القاضي في نفسه ميلا لأحد الأطراف دون سبب موضوعي حقاني ودون أن يمحص الأمر التمحيص اللازم فعليه أن يبادر بالاستغفار وعندها سيعامله الله تعالى من حيث اسمه الغفور الرحيم فيفوز بالمغفرة والرحمة .
ولا ينبغي الجدال عمن يختانون أنفسهم فإن من اختان نفسه لابد أن يلقى جزاء ما اكتسب من الإثم لأن الله تعالى لا يحب الخوان الأثيم، وهذا يعنى أن كل قوانين الوجود وسننه تعمل على إحباط سعى الخوان مرتكب الآثام وتعمل على استدراجه والإيقاع به، وكذلك يعنى ما تقدم أن اجتناب الخيانة والإثم هو من أركان الدين وأن من يرتكب خيانة أو إثما فإن ذلك إنما هو لخللٍ ما عنده وفى إيمانه، ذلك لأنه يجعل مكانة الناس عنده أعلى من مكانة ربه؛ فهو يستخفى منهم ولا يستخفى من ربه الذي هو معه وأقرب إليه من نفسه، وآية ذلك أنهم يبيتون ما لا يرضى من القول أي يضمرون في أنفسهم ما لا يرضى عنه من أمور لا تتفق مع منظومة القيم الرحمانية والتي هي من مقتضيات الأسماء الحسنى وتتضمن كل خلق عظيم وكل هدى ديني قويم، ولقد أضمروا أن يتهموا أحد الأبرياء كذبا وأن يحملوه جريرة عمل بعضهم، وكان عليهم أن يعلموا أن الله محيط بهم ظاهرا وباطنا وأن كل ما يبيتونه هو عنده وماثل بين يديه.
فبالنظر إلى الآيات يسهل استنتاج أن مجموعة ما ارتكبت فعلا منهيا عنه ثم أجمعوا أمرهم على أن يرموا أحد الأبرياء بفعلهم هذا ليدفعوا عن أنفسهم الشبهة، والآيات تحلل تلك الواقعة وتستخلص منها مجموعة من العبر وتنتهز الفرصة لبيان بعض سبل تزكية النفس لتحقيق المقصد الديني الأعظم الثاني، ولقد نددت الآيات بمسلك تلك المجموعة ونهت عن أن يتأسى بهم أحد وبينت ما تنطوي عليه أفعالهم وما سوف تجره عليهم.
ويلزم القول بأن المسلم لا يهمه بحال من الأحوال معرفة ما هو الإثم الذي ارتكب أصلا فهو بالضرورة واحد من الأفعال التي اعتبرها الكتاب إثما، كذلك لا يهمه من الذين ارتكبوا الإثم أصلا وهل كان منهم سهل بن صعب أو صخر بن جبل وما إلى ذلك وإنما يجب أن يهتموا بالأوامر التشريعية والأخلاقية التي يترتب عليها تزكية النفس وصلاح الأمة وإعداد أولى الأمر الصالحين.
والآيات تبين أنه لا يجوز للمسلمين الدفاع عن الخائنين، وكذلك تبين أن الولاء الحق ينبغي أن يكون للمثل الرفيعة ومنها العدل والقسط، ثم تبين أن باب التوبة والمغفرة والرحمة مفتوح رغم كل شيء، وتتضمن الآيات قانونا أساسيا من قوانين الوجود وهو أن آثار كل فعل اختياري إنما تعود على فاعله، وهذا القانون من مقتضيات منظومة الأسماء الحسنى وما تتضمنه من منظومة أسماء الرحمة والهدى، لذلك فمن يتهم بريئا ويرميه بفعله لا يخالف القيم الرفيعة فحسب وإنما يحاول انتهاك قانون أساسي من قوانين الوجود، ولما كانت تلك القوانين تستند إلى كمالات الحق فمرتكب الإثم إنما يحاول عمل ما هو مناقض لتلك الكمالات فهو بذلك يستحث كل قوى الوجود لتعمل ضده.
واللام في قوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} هي لام بيان القصد وفق مصطلحنا، فالمقصد أن يحكم بما يتفق مع السمات الإلهية، أي يحكم بالحق والعدل، وليس المقصود أن الحكم سينزل عليه مكتوبا من السماء ولو كان الأمر كذلك لما حدثت تلك الواقعة ولما نزلت الآيات أصلا، وليس المقصود أن يحكم بما يتراءى له، وإلا لما نزلت الآيات أيضا، وكل إنسان ملزم بالعمل وفق هذا الأمر؛ أن يحكم بالحق والعدل:
لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ = لتحكم بالحق والعدل.
ثم يبين الله تعالى لرسوله وللناس حقيقة وجودية، هي أنه سبحانه أصل كل كمال في الوجود، وأن الإنسان مهما علا قدره لا يملك من أمر نفسه شيئا، ولا يمتلك من حيث ذاته كمالا أصيلا، فالفضل لله تعالى أولا وآخرًا، ظاهرا وباطنا.
والرسول تلقى من ربه الكتاب والحكمة، والكتاب هو كتاب الله، تلقاه الرسول مُنزَّلا ومُنْزلا، والحكمة متضمنة في كتاب الله الموصوف بأنه حكيم وبأن الرسول تلقاه مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيم، والذي نُزِّل عليه مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم، والحكمة هي آثار السمة الإلهية المسماة بالحكمة، ولقد تلقاها الرسول بقدر وسعه، وكان له منها النصيب الأوفر الذي يتفوق على كل ما ناله غيره، ومن المعلوم أن من المثاني التي أوتيها الرسول إيتاءً خاصًّا المثنى "الحكيم العليم"، فلقد كان الرسول مجسدا لكتاب الله بقدر ما كان مجسدا للحكمة السابقة على العلم، وبذلك كان مؤهلا ليتلقى العلم من الحكيم العليم وليتعلم مباشرة منه وليعلِّم غيره، فكان فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْه عَظِيمًا، ومن كان كذلك، ومزودا بكل ذلك كان معصوما من الناس ومن كل محاولاتهم لإضلاله، بل إن محاولاتهم ترتد عليهم لقوة ذاته وتمام عصمته وعظمة ما هو مزود به.  

*******

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق