إن فعل الخلق ومشتقاته يشير إلى:
1.
المادة التي صنع
منها الكائن، ومن الآيات التي تبين ذلك: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ
وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِين}[السجدة:7]، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن
طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ
تَمْتَرُون}[الأنعام:2]، {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ
خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِب}[الصافات:11]، {وَمِنْ آيَاتِهِ
أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُون}[الروم:20]،
{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى
بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى
أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}
[النور:45]، {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ
الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)} الرحمن.
2.
الأطوار
المختلفة التي مرَّ بها الكائن، ومن الآيات التي تبين ذلك: {وَاللَّهُ خَلَقَكُم
مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ
مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ
يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير} [فاطر:11]،
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ
جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ
عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا
فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ
اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) المؤمنون.
3.
الحالات
المختلفة التي مرَّ بها الكائن والصفات المركوزة فيه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم
مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ
قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِير}
[الروم:54]، {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ
تَسْتَعْجِلُون} [الأنبياء:37]
4.
تقدير الماهية
وكذلك تقدير صفاتها اللازمة.
5.
صياغة المواد
الملائمة وفق هذا التقدير ليبرز ما يكون مظهرًا لتلك الماهية.
فالقول بأن الله خلق كائنا ما من شيءٍ ما
يمكن أن يعني أنه جعل هذا الشيء مادة له أو حالة ابتدائية له أو طورا سابقا عليه، أو
خُلُقًا فطريا فيه، ولذا فإن كل إنسان مخلوق من عَجَل، ومن طين ومن تراب ومن ماء
ومن صلصال ومن ضعف ومن نطفة ومن علقة، فكل طور من تلك الأطوار يقتضي خلقا بمعنى
التقدير وخلقا بمعنى صياغة المواد لتوافق هذا التقدير وتحققه، والإنسان مخلوق من
الطين دون أن يعني ذلك بالضرورة أن الله سبحانه قد صنع تمثالا طينيا ثم نفخ فيه
أمرا ما فأصبح إنسانا، بل إن ذلك إشارة إلى المادة التي خلق منها جسمه المادي،
ولذا فكل إنسان مخلوق من طين وليس آدم فقط؛ وإن كان آدم قد نبت من طين بالفعل،
فالطين هو مصدر كل ما يتكون منه جسم
الإنسان وكل ما يلزمه لنموه، وعيسى عليه السلام مخلوق مثل آدم من تراب.
أما من أراد أن يعرف كيف بدأ الخلق فعليه
أن يسير في الأرض وأن ينظر وأن يبحث وأن يتفقه وأن يتدبر الآيات لا أن يعكف على
أساطير أهل الكتاب التي يبرأ الإسلام منها ولا يتحمل وزرها، وليس على المسلمين أن
يدافعوا عنها بل عليهم أن يتبرؤوا منها.
وليس في القرءان ما يشير إلى أن الله
سبحانه صنع من الطين تمثالا ثم نفخ فيه من روحه فصار إنسانا، إن تلك المقولة هي من
الأسباب التي دفعت وتدفع أهل الغرب إلى الكفر بالأديان، فالخلق بدأ وفق قوانين
وسنن يمكن البحث عنها ومعرفتها والنظر فيها، فالله سبحانه لا يكلف عباده بالمحال،
وكذلك سيتم البعث وفق قوانين وسنن لا يعلمها الإنسان ولا يمكن أن يعلمها الآن
لأنها خارج نطاق مألوفاته.
ولذلك لا تعارضَ بين الآيات الخاصة بخلق
الإنسان، فكل آية تشير إلى طور من أطواره أو حالة من حالاته أو وصف من أوصافه أو
مادة من المواد التي صنع منها، والله الخالق سبحانه ليس بملزم بعمل تماثيل طينية
لكل أصناف الكائنات ثم النفخ فيها، بل إن خلق الكائنات الأرضية إنما بدأ في بيئات
طينية، ولذا فقد بدأت الحياة في أبسط صورها الممكنة, ثم توالى شيئا فشيئا ظهور
كائنات أرقى، وكان هذا التطور بأمر الله تعالى وبمقتضى قوانينه وسننه، فهو الذي
يدفع هذا التطور دفعا يؤدي إلى ظهور هذه الكائنات ذات التنوع المذهل، ولقد نشأت
الخلايا الحية الأولية حاملة لإمكانات لا حصر لها لتتنوع وتتكاثر وتتطور وتتحد مع
غيرها أو تستوعبه وكل ذلك من مقتضيات أسمائه، ذلك لأن الظهور التفصيلي لكماله
المطلق يقتضي أن تتطور الكائنات وأن ترقى لتمهد لظهور الإنسان الذي هو أداة
التفصيل التام, فالذي اقتضى التطور هو ترتب الأسماء في أنساق تتفاوت من حيث
الإحاطة والإحكام وكذلك حتمية ظهور كمالها المطلق، وتلك الحتمية تقتضي من التفاصيل
ما لا يتناهى كما تقتضي ظهور كائن تتضمن حقيقته الإرادة الحرة والاختيار وكذلك
الملكات القلبية العليا، وتتضمن أن يكون لهذا الكائن السيادة على الأرض بحكم أن
لنسق الأسماء الذي اقتضاه الإحاطة بالأنساق الأخرى.
فكل إنسان موجود الآن إنما خلق من تراب
وماء أي من طين، ولا يعني ذلك أبدًا أن الله سبحانه فعل مثلما كان يفعل عيسى عليه
السلام؛ فهو لم ينزل إلى الأرض في زمن متناهٍ في القدم، ولم يقم بعمل تمثال طيني
لذلك الإنسان ثم نفخ فيه من روحه فصار لتوه إنسانا، وإنما يعني أن الطين هو المادة
التي صُنع منها جسم الإنسان الذي أنبت من هذه الأرض نباتا، وبالمثل فإن كل ما هو
على ظهر الأرض من دابة إنما خلق من طين وفقا لقوانين وسنن معلومة لديه سبحانه
أتيحت لها الأحوال الملائمة للسريان والعمل في العصور الأولى.
إن التصورات التي لدى الناس عن كيفية بدء
الخلق إنما جاءتهم من أهل الكتاب الذين تتلمذ السلف عليهم ونقلوا أساطيرهم إلى
التراث الإسلامي تحت مسمَّى المرويات، وملئوا بها ما أسموه بكتب تفسير القرءان،
وكانت تلك الأساطير ألغاما انفجرت من بعد في وجوه المسلمين وحالت بينهم وبين البحث
العلمي الجاد وبين الالتزام بالنهج القرءاني، أي حالت بينهم وبين العمل بالأمر
القرءاني بالسير في الأرض للنظر في كيفية بدء الخلق ومعرفة أسباب القوة والأخذ
بها، فأساطير أهل الكتاب قذفت بالمحسوبين على الإسلام بعيدا عن الحق وأضلتهم عن
الصراط المستقيم.
أما
أهل الكتاب في الغرب فألقوا بأساطيرهم وراء ظهورهم، وعملوا بالأمر القرءاني الذي
أعرض عنه (المسلمون) فساروا في الأرض، لينظروا كيف بدأ الخلق.
*******