الخميس، 30 أكتوبر 2025

الشروط الأساسية لقبول القراءة القرءانية: دراسة تحليلية نقدية

 

الشروط الأساسية لقبول القراءة القرءانية: دراسة تحليلية نقدية

 

مقدمة


يُعَدّ علم القراءات (ʿIlm al-Qirāʾāt) من العلوم التأسيسية الكبرى في بنية المعرفة القرءانية، إذ يتقاطع في بنيته المعرفية والتاريخية بين ثلاثة مجالات رئيسة:

1. علم الرواية والنقل (Transmission and Isnād)،

2. علم اللغة (Linguistics and Philology)،

3. علم الرسم العثماني (Orthography of the ʿUthmānic Codex).

وقد تبلورت عبر القرون منظومةٌ من الشروط التي تُعدّ معيارًا لقبول القراءة القرءانية، واشتهرت بصيغتها الثلاثية المعروفة:

التواتر (Tawātur)، وموافقة الرسم (Orthographic Conformity)، وموافقة العربية (Linguistic Conformity).


غير أن البحث التاريخي والتحليل النقدي في مصادر القراءات الأولى وفي ممارسة الأداء عند القراء الأوائل يكشف أن هذه الشروط لم تكن في صورتها المجرّدة أو الاصطلاحية التي استقرّت في القرون اللاحقة. بل إن مفهوم التواتر نفسه لم يكن من مفردات علم القراءات قبل القرن الرابع الهجري، وإنما أُدرج فيه لاحقًا بتأثير مباشر من منهج أصول الفقه (Uṣūl al-Fiqh).


أولًا: شرط التواتر (Tawātur)


يُعَدّ اشتراط التواتر لقبول القراءة ظاهرةً متأخرة في التأصيل العلمي، إذ لم يكن هذا المفهوم ركنًا أصيلًا في المنهج العملي للقراء الأوائل. فالنصوص المنقولة عن أئمة القراءة من أمثال نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم لا تتضمن أيّ إشارة إلى اشتراط التواتر بالمعنى الأصولي الدقيق.

في المراحل الأولى من تكوّن علم القراءات، كان القبول يعتمد على ثلاثة عناصر أساسية:

1.   صحة السند (Authentic Chain of Transmission)،

2.   استقامة وجه القراءة في العربية (Linguistic Validity)،

3.   موافقتها لخط المصحف (Orthographic Compatibility).

أما التواتر، بمعناه الأصولي الذي يعني النقل الجمعي المستفيض الذي يمتنع معه التواطؤ على الخطأ أو الكذب، فقد نُقل إلى علم القراءات في مرحلة لاحقة، حين جرى تنظير العلوم الإسلامية في ضوء مناهج أصول الفقه. ومن ثم، صار التواتر شرطًا اصطلاحيًا دخيلًا لا أصيلًا.

وقد صرّح ابن الجزري (Ibn al-Jazarī) في النشر في القراءات العشر بوضوح حين قال:

وما ندّعي التواتر في كل فردٍ مما انفرد به بعض الرواة أو اختصّ ببعض الطرق؛ لا يدّعي ذلك إلا جاهلٌ لا يعرف ما التواتر.”

ومن هنا يتبيّن أن القول بتواتر القراءات العشر قولٌ غير دقيق تاريخيًا، وأنّ إثبات القراءة لا يتوقف على هذا الشرط المتأخر، بل على تحقّق السند، واستقامة اللغة، وموافقة الرسم.

 

ثانيًا: الحالة الراهنة للأسانيد (Current State of Isnād Chains)

يمكن تصنيف الأسانيد المعتمدة في القراءات اليوم إلى أربع طبقات رئيسة:

1.   من المعاصرين إلى ابن الجزري:
هذه الطبقة متواترة بلا إشكال، إذ نُقلت القراءات العشر عن ابن الجزري عبر آلاف التلاميذ والطرق المختلفة.

2.   من ابن الجزري إلى مؤلفي الكتب المسندة في القراءات العشر:
أيضًا متواترة، لأن ابن الجزري جمع في النشر أكثر من ألف إسناد متنوع لمصادره الأصلية، بما يحقّق النقل الجمعي الكافي.

3.   من مؤلفي الكتب المسندة إلى الرواة العشرين (عن القراء العشرة):
وهذا المستوى كذلك متواتر، إذ تتعدد الأسانيد في أكثر من خمسين كتابًا مسندًا، ما يرفعها إلى حد الاستفاضة والتواتر.

4.   من الرواة العشرين إلى النبي ﷺ:
هذا هو موضع التباين العلمي، فبعض الأوجه والروايات بلغت حدّ التواتر، بينما انفرد بعض الرواة بقراءة أو وجهٍ خاصّ. غير أن هذا الانفراد لا يقدح في أصل القراءة، لأن الرواة لم يكونوا أفرادًا معزولين، بل ممثلين لأمصار وقبائل كبرى، ينقلون القراءة على رؤوس الأشهاد.

بل إن بعض القراءات المنفردة قد تكون أولى من قراءة الجمهور من حيث الضبط والمعنى، ما دام سندها صحيحًا وموافقتها للغة والرسم ثابتة.

 

ثالثًا: شرط موافقة العربية (Linguistic Conformity)

القراءة القرءانية ليست محكومة بالكامل بالقواعد النحوية في صورتها المدرسية المتأخرة؛ بل هي في ذاتها أحد مصادر العربية المعيارية (Foundational Source of Arabic).
وقد دار جدل طويل بين النحاة والقراء:

  • فالنحاة رفضوا ما يخالف القياس النحوي (Grammatical Analogy)،
  • بينما احتج القراء بثبوت القراءة نفسها، معتبرين أن القراءة المتلقاة عن النبي ﷺ هي الأصل الذي يُحتج به، لا العكس.

ومن ثمّ، فالعلاقة بين القرءان واللغة ليست علاقة تبعية (Dependence) بل علاقة تأسيسية (Foundational Relationship):

"القراءة إذا ثبتت، احتُجّ بها في اللغة، ولا يُعترض عليها باللغة."

لكن هذا لا يعني إطلاق العنان لكل ما رُوي باسم القراءة، لأن الثبوت القرائي مشروط بالتحقق العلمي والاتساق اللغوي، وبمقياس اللسان العربي المبين الثابت بالمحكم من القرءان نفسه، لا بمناهج النحاة اللاحقين.

 

رابعًا: شرط موافقة الرسم العثماني (Orthographic Conformity)

الرسم العثماني هو المرجع الكتابي الثابت للنصّ القرءاني، غير أن العلاقة بين النطق والرسم علاقة احتمالية وليست تطابقية.
فالرسم العثماني في مصاحف القرن الأول الهجري كان خاليًا من الإعجام والشكل، مما أتاح إمكان تعدد أوجه الأداء الصوتي ضمن حدود الرسم الواحد.
وعليه، فالموافقة للرسم لا تعني التطابق الحرفي (Literal Match)، بل الاحتمال الكتابي الممكن (Orthographic Possibility).
فالرسم شاهدٌ على جذر الكلمة (Root Representation)، والقراءة مبيِّنةٌ لصيغة النطق (Phonetic Realization).
ومن هذا التداخل نشأ فضاء التأويل الصوتي الذي يُعدّ من خصائص الإعجاز البياني للقرءان.

 

خامسًا: نسبة الاتفاق بين القراءات ومعناها الدلالي

ثبت لدينا أن نسبة الاتفاق بين القراءات في البنية القواعدية والمعجمية والمعنوية تتجاوز 93.7%، وهي نسبة عالية كفيلة بإثبات وحدة النظام اللغوي القرءاني.
هذا يدل على أن الاختلافات القرائية ليست تضادًّا في المعنى، بل تنويع أدائي ودلالي ضمن الوحدة الأصلية للنصّ.

فكل قراءة مقبولة تُغني المعنى ولا تناقضه، وتشترك مع غيرها في بناء ما يمكن تسميته بـ:

"النظام الدلالي الداخلي للقرءان" (Internal Qurʾānic Coherence).

وهذا النظام يشكل معيارًا موضوعيًا يُحتكم إليه في تمييز القراءة القرءانية الصحيحة عن الشاذة أو التفسيرية أو الاجتهادية.

 

سادسًا: الفصل بين مفهوم القرءان والقراءات

من الضروري التمييز بين مستويين وجوديين (Ontologically Distinct Entities):

1.   القرءان (al-Qurʾān): كلام الله المنزل على نبيه ﷺ، المحفوظ تواترًا يقينيًا في ذاته.

2.   القراءات (Qirāʾāt): طرائق الأداء والنطق والتلفظ بالقرءان كما نُقلت عن الأئمة والرواة.

فكل ما ثبتت قرءانيته يقينًا هو قراءة صحيحة،
لكن ليست كل قراءة مروية قراءة قرءانية؛ إذ قد تكون شاذة أو تفسيرية أو لغوية.
وبذلك تكون العلاقة بينهما عموم وخصوص مطلق:

كل قرءان هو قراءة، ولكن ليست كل قراءة قرءانًا.

 

سابعًا: نقد الموقف التقليدي من مفهوم “القراءات المتواترة

إن التسليم غير النقدي بمقولة “القراءات السبع أو العشر المتواترة” أدى إلى تجميد البحث العلمي، وتحويل علم القراءات إلى منظومة مغلقة.
وقد نبّه كبار المحققين – كابن خلدون، والشوكاني، والزركشي، وابن الجزري نفسه – إلى أن التواتر المدّعى لا يتحقق فعليًا، لأن أسانيد القراءات هي في الغالب نقل آحاد (Individual Transmission).
بل إن ابن الجزري نفسه اعترف بأنه كان يميل أولًا لاشتراط التواتر، ثم ظهر له فساده، لأن ذلك يستلزم إسقاط معظم القراءات الثابتة بالسند الصحيح.

 

ثامنًا: النتيجة المنهجية

يقتضي منهج التحقيق العلمي المعاصر التفريق بين ثبوت القراءة كأداء تعبدي مشروع وبين ثبوتها كجزء من النصّ القرءاني المنزل.

فالقراءة المقبولة يجب أن تجمع بين:

1. الحجية النقلية (Transmissional Authenticity)،

2. الاتساق اللغوي (Linguistic Coherence)،

3. الاحتمال الرسومي الصحيح (Orthographic Compatibility)،

4. الاتساق الدلالي الداخلي (Internal Qurʾānic Coherence).

أما القراءة التي يختلّ فيها أحد هذه الأركان، فليست ذات صفة قرءانية (Canonical Qurʾānic Status)، وإن جاز استعمالها تفسيرًا أو استئناسًا لغويًا.


نحو إعادة صياغة علمية للشروط الأساسية لقبول القراءة

في ضوء النقد التاريخي واللغوي يمكن إعادة بناء شروط القبول وفق منظور علمي معاصر على النحو التالي:

1. تحقيق الاتساق القرءاني الداخلي (Internal Qurʾānic Coherence):

أي انسجام القراءة مع البنية الدلالية العامة للقرءان، بحيث لا تُنشئ معنى غريبًا أو طارئًا.

ويتضمن ذلك:

أ‌. الاتساق مع المنهج والأساليب القرءانية المميزة، وهي من أسس ما يمكن أن يُسمَّى بالقراءة الأوْلى.

ب‌. الاتساق مع اللسان العربي المبين الثابت بالمحكم.

ت‌. الموافقة الاحتمالية للرسم العثماني.

ث‌. استقامة البنية الصرفية والنحوية والدلالية.

2. ثبوت القراءة بالسند الصحيح (Authentic Isnād):

أي اتصال السند اتصالًا علميًا موثوقًا، مع خلوه من العلل القادحة في الضبط أو النقل.


 

خاتمة

إن إعادة ضبط شروط قبول القراءة القرءانية على منهج نقدي لغوي حديث لا تمسّ قداسة النصّ الإلهي، بل تُعيد تأسيسها على أسس علمية رصينة تميّز بين النصّ المقدّس وأداء البشر له.
فالقرءان نصّ محفوظ (Preserved Corpus) بوعد الله،
أما القراءات فهي ظواهر صوتية وتاريخية تمثل مراحل التلقي الإنساني للنص الإلهي.

وحفظ الذكر الإلهي لا يعني جمود الفهم، بل صيانته من التحريف مع انفتاحه على التجدد العقلي والفهم الحقّ.
وهذا هو جوهر قوله تعالى:

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

ويجب العلم بأن الله تعالى قد جعل تدبر القرءان وسيلة للتغلب على ظاهرة الاختلاف الكثير فيه، وأن الاختلاف الكثير في القرءان ليس من عند الله، قال تعالى:

{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقرءان وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء:82]

 

*******


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق