الاثنين، 13 أكتوبر 2025

في المسألة الأينشتينية


قولنا في المكتشف الحقيقي لنظرية النسبية العامة:

يمكن تلخيص تطوّر مسألة اكتشاف معادلات الحقل في النسبية العامة على النحو الآتي:

كان ألبرت أينشتاين يمتلك الرؤية الفيزيائية الجوهرية للنسبية العامة، باعتبارها التعميم الطبيعي للنسبية الخاصة بحيث تشمل الأجسام المتسارعة ومجالات الجاذبية. غير أنّه، وعلى مدى ما يقارب عقدًا من الزمن، لم يتمكّن من صياغة هذه الرؤية في إطار رياضي منسجم. أدرك خلال تلك الفترة أنّ أدواته الرياضية غير كافية، ولا سيّما في مجال حساب التنسورات الذي طوّره ريتشي ولفي-تشيفيتا. ولهذا استعان بصديقه وزميله في زيورخ مارسيل غروسمن، الذي عرّفه على البنية الرياضية اللازمة لصياغة النظرية بلغة الهندسة التفاضلية.

استغرق أينشتاين نحو عامين كاملين في دراسة هذه الأدوات ومحاولة توظيفها في بناء معادلات تصف الجاذبية هندسيًا، إلا أنّه لم يفلح في التوصّل إلى الشكل الصحيح. وقد كان يدرك أن الرياضيين المتخصّصين، بما يمتلكونه من أدوات صورية دقيقة، يمكنهم استنتاج المعادلات المطلوبة انطلاقًا من أفكاره الفيزيائية، كما حدث سابقًا عندما سبق بوانكاريه إلى صياغة كثير من نتائج النسبية الخاصة ضمن إطار رياضي متكامل.

بعد أن أوشك على اليأس من حلّ المشكلة بنفسه، قرّر أينشتاين التواصل مع عالم الرياضيات البارز دافيد هيلبرت في غوتنغن، لبحث الجوانب الرياضية للنظرية. وفي أكتوبر 1915، أرسل إليه رسالة يستفسر فيها عن رؤيته للمسألة، فدعاه هيلبرت لإلقاء محاضرة أمام نخبة علماء غوتنغن.
في 20 أكتوبر 1915 ألقى أينشتاين محاضرته الشهيرة بحضور هيلبرت وكلاين وفايل، حيث عرض فيها تصوّره الفيزيائي العام. بعد المحاضرة مباشرةً، دار بين أينشتاين وهيلبرت نقاش معمّق حول إمكان اشتقاق المعادلات الحقلية من مبدأ الفعل (Action Principle)، وهو الأساس الذي يبنى عليه كثير من النظريات الفيزيائية الحديثة.
أدرك هيلبرت على الفور أن الفكرة يمكن صياغتها في إطار لاغرانجي هندسي يعتمد على الانحناء الريتشي والمتريّة، فشرع في تطويرها مستفيدًا من التصورات الفيزيائية التي طرحها أينشتاين.

بعد عودة أينشتاين إلى برلين، استمر التواصل بينهما عبر مراسلات متتابعة خلال شهر نوفمبر. وخلال هذه الفترة تمكن هيلبرت، بفضل تمكنه الرياضي العميق، من الوصول إلى الصياغة الرياضية الكاملة لمعادلات الحقل قبل أينشتاين بأيام. ومع ذلك، كان هيلبرت يدرك أن الأساس الفيزيائي للنظرية — أي الفكرة الجوهرية بأن الجاذبية هي انحناء في الزمكان — يعود بأكمله إلى أينشتاين.

عندما علم أينشتاين بتقدّم هيلبرت، استبدّ به القلق خشية أن تُنسب النظرية إلى غوتنغن وهيلبرت لا إلى برلين وإليه، فاشتدّ التنافس بينهما، ورغم أن المراسلات بينهما ظلت في ظاهرها ودّية، فإنّ علاقة التفاهم العلمي تحوّلت إلى خصومة فكرية مكتومة.
أما هيلبرت، المعروف بتواضعه ونزاهته الأكاديمية، فقد آثر الصمت ولم يطالب بالأسبقية، مكتفيًا بتقدير القيمة الفكرية للنظرية بوصفها ثمرة نادرة للتكامل بين الفيزيائي والمـُـنظّر الرياضي.

النتيجة المنصفة أن النسبية العامة كانت ثمرة مشتركة لجهد أينشتاين وهيلبرت معًا:
أينشتاين قدّم الفكرة الفيزيائية الثورية، وهيلبرت أضفى عليها الصياغة الرياضية الدقيقة.
ولولا لقاء أينشتاين بهيلبرت وتبادلهما الفكري في تلك الأسابيع الحاسمة، لربما كان عالم رياضي آخر هو من أنجز الصياغة النهائية قبل أينشتاين، إذ كان الأخير قد بلغ بالفعل طريقًا مسدودًا من الناحية الرياضية.

 

*******


تقييم مرحلة ما بعد النسبية العامة في فكر أينشتاين

لم يكن أينشتاين هو من توصّل إلى الحلول الرياضية الدقيقة لمعادلات الحقل التي وضعها في نظرية النسبية العامة؛ فقد كانت مساهمته الرئيسة في الصياغة المفهومية والفيزيائية، بينما تولّى علماء رياضيون مثل شفارتسشيلد وفريدمان ودي سيتر استخراج الحلول الخاصة التي كشفت التطبيقات الكونية للنظرية.

وقد تمثّل النجاح المباشر للنظرية في تفسير انحراف مدار عطارد وانحناء الضوء قرب الشمس، وهما الظاهرتان اللتان ثبّتتا مصداقية النظرية في بداياتها. ومع ذلك، فإن تجربة إدنجتون عام 1919 التي اشتهرت عالميًا لم تكن دقيقة بالمعايير الحديثة، إذ شابها هامش كبير من عدم اليقين، كما أن إدنجتون نفسه كان متحمسًا للنظرية لأسباب غير موضوعية تتجاوز الجانب التجريبي البحت.

وعندما واجه أينشتاين نتائج رياضية تشير إلى أن الكون لا يمكن أن يكون ساكنًا، رفضها مبدئيًا، وأضاف إلى معادلاته الثابت الكوني ليجعل الكون متوازنًا وثابتًا في حجمه، قبل أن يقر لاحقًا بأن ذلك كان "أكبر خطأ في حياته".

وقد كان أينشتاين من أعظم المساهمين في ولادة ميكانيكا الكم، وذلك عندما افترض أن الضوء مكوّن من «كمّات» طاقية (فوتونات)، واستطاع بهذا الافتراض تفسير ظاهرة التأثير الكهروضوئي تفسيرًا دقيقًا، وهو ما منحه جائزة نوبل في الفيزياء، لقد مثّل هذا الطرح ثورة في فهم طبيعة الإشعاع، وكان خطوة حاسمة نحو المفهوم المزدوج للضوء (موجة وجسيم) الذي أصبح لاحقًا ركيزة لميكانيكا الكم، لكنه رفض تفسيرها الاحتمالي الذي تغلب لاحقًا، ورفض بالطبع كل ما ترتب على هذا التفسير من مفاهيم.
لقد آمن دائمًا أن الكون تحكمه قوانين حتمية يمكن إدراكها، وأن الدور الحقيقي للفيزياء هو كشف الحقيقة الموضوعية، لا الاكتفاء بوصف نتائج القياسات.
وبينما أثبت التاريخ صحة الكثير من تنبؤات المدرسة التي عارضها، بل إنها أصبحت أهم عوامل الطفرات العلمية والتكنولوجية الهائلة، فإن الأسئلة التي أثارها أينشتاين ما تزال تشكّل جوهر النقاش الفلسفي حول طبيعة الواقع الكمومي حتى اليوم.

من الناحية المنهجية، كان أينشتاين يعتمد على الحدس الفيزيائي والتفكير بالمفاهيم الكلية أكثر من اعتماده على الصياغات الرياضية البحتة، غير أنه بعد اكتشاف النسبية العامة، فقد هذا الزخم المفهومي، واتجه إلى البحث عن "نظرية المجال الموحد" عبر مقاربات رياضية خالصة تفتقر إلى مرتكز فيزيائي جديد، الأمر الذي جعله — رغم غزارة إنتاجه — يعجز عن تحقيق أي اختراق حقيقي في الفيزياء الحديثة.

ومع ذلك، يبقى عمله في تلك المرحلة تعبيرًا عن الإصرار الفكري والبحث عن الوحدة في الطبيعة، وهو ما جعل إخفاقه النظري لا يقل قيمة فلسفية عن نجاحه السابق.

 

*******



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق