عندما كلَّمنا المسؤول
عن برنامج أ. إبراهيم عيسى طلب الحديث في بعض الأمور التي يحبها المجتهدون الجدد
والمثقفون وتثير الرأي العام مثل مسألة السنة والصحابة، فرفضنا بشدة، واشترطنا أن
يكون الحديث عن موضوع جديد من مكونات دين الحق، وألا يكون هناك أحد من تجار الدين،
فوافق، وتم اختيار موضوع المثاني.
كنت زاهدًا في هذا
اللقاء، وأخذت أتربص بهم للاعتذار، وعندما لم تتصل السكرتيرة في الميعاد المحدد
لتحديد زمن تسجيل اللقاء اتصلت بمقدم البرنامج واعتذرت له.
بعدها مباشرة اتصلت
السكرتيرة وهي تبكي وتعتذر، وهكذا تم توريطنا في هذا اللقاء.
فوجئت في بداية اللقاء
بتصرف إبراهيم عيسى وفتحه نفس الموضوع الذي رفضنا الحديث فيه، هممت أن ألقنه درسًا،
ولكني قررت أن تكون الإجابة على أسئلته مقتضبة، مع التركيز على ما لا يروق له، لنخلص
إلى الموضوع الأساسي، ولذلك كانت صدمته قوية عندما علم بأن منهجنا يوجب
الأخذ بالمروية المتسقة مع دين الحق الماثل في القرءان، حتى وإن ضعفها الجهابذة،
وعندما قلنا بصحة الكثير مما ورد في التراث، وأنه يلزم إلمام كافٍ باللسان العربي
للتعامل مع القرءان.
وعندما استشهد بالشافعي استشهادا خاطئا وزعم أنه يقول
بنسخ القرءان بـ (السنة) لم نشأ أن نفتح موضوعًا فرعيا لإثبات خطأ استشهاده، كان
المطلوب الخلوص إلى الموضوع الرئيس، ومن المعلوم أن الشافعي هو الشافعي الوحيد!!
الذي رفض القول بنسخ القرءان بـ (السنة)، وأن كل الأصوليين اعتبروا هذا القول منه
كبوة جواد!!!!
لم يدع أ. إبراهيم
عيسى لنا المجال للحديث في الموضوع الأساسي، سمح بأقل القليل من ذلك الحديث وكان
فيه من الزاهدين، وفوجئت به ينهي البرنامج.
وفوجئت من بعد عند
رؤية التسجيل بأنه جعلنا مع من يسمونهم بالقرءانيين وأنه يوجد شخص آخر من المضلين المعادين
لنا يتحدث في نفس البرنامج.
ولكني وجدت، رغم كل
ذلك، أن البرنامج جاء حافلا بمواضيع هامة عديدة، وأنه يمكن إعادة صياغة ما جاء فيه
لتتم الفائدة.
وهذا هو الحوار
المعدل:
قال المحاور: قبل أن نتحدث عن منهجك
القرءاني والمثاني نريد أن نعرف قولك في بعض المصطلحات الشائعة والسائدة، ما هو
قولك في السنة؟
يجب أولًا العلم بأن كتاب الله هو المصدر الأوحد لكل
أمور الدين الكبرى، والمصدرُ الأعلى لأموره الثانوية، و"السنة" هي مصطلح
قرءاني، ولقد نسبها الله تعالى إلى نفسه، فهو الذي يقدرها ويشرعها ويسنها.
السنة مصطلح قرءاني، فيجب استخراج معانيها من القرءان
نفسه، ولا يحق الاعتداء على مصطلح قرءاني، فإن ذلك من كبائر الإثم المهلك.
قال المحاور: أتحدث عن السنة النبوية
الموجودة في كتب الحديث والسيرة
سنة الرسول هي عمله بمقتضى الرسالة التي تلقاها من ربه،
وأرسله بها، وأمره بتبليغها، والرسالة هي كتاب الله العزيز، والرسالة موجودة
وميسرة للذكر، أنت تسأل عما نسبه بعض الناس في أحد المذاهب إلى الرسول من المرويات
وغيرها، ولكن الرسالة المشار إليها تتفوق على كل تلك المرويات من كافة النواحي،
تتفوق من حيث المصداقية والثبوت، وأسلوبها أرقى وأجمل وأيسر بكثير من كل ما هو من
دونها من المرويات، ذلك لأنها كلام الله نفسه، ألا تحبون أن تكونوا من الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ؟!
والحديث
الذي يجب الإيمان والعمل به، هو القرءان نفسه، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا
بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}، {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا
الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ
إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)}، {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ
الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى
ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ
اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد}
فكتاب الله هو الحديث، وهو أحسن الحديث.
الرسول كان هو القرءان مجسَّدا، وهو الذي
كان يبينه للناس بتلاوته عليهم وعمله به، فسنة الرسول هي العمل بمقتضى ما في
القرءان من أمور وأوامر، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ
اللَّهَ كَثِيرًا}
الله تعالى يثني على رسوله بما جسَّده
للناس من أوامره القرءانية، وهذا يعني أنه بلغ الذروة في العمل بها، فسنة الرسول المشار
إليها هاهنا هي أن يرجو الإنسانُ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَأن يذكُرَ
اللَّهَ كَثِيرًا.
ولذلك يجب أن يعلم الإنسان ما ذكره الله
عن نفسه في كتابه، وأن يتوكل عليه وأن يفوض أمره إليه، وأن يذكره كثيرا، وذكر الله
هو ركن الدين الجوهري، {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا
تَكْفُرُونِ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا
كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي
عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}
فيجب، اتباعًا لسنة الرسول، الذكر أولا
بما ورد في القرءان، كما أنه قد وردت صيغ للذكر منسوبة إلى الرسول في كتب المرويات،
فلا يوجد ما يبرر تجاهلها فالذكر بها عمل بسنة الرسول.
والرسول كان مأمورًا باتباع القرءان، ونحن
مأمورون باتباع الرسول من حيث اتباعُه للقرءان وباتباع النُّور الَّذِي أُنْزِلَ
مَعَهُ، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ
اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَهَذَا
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ، المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ
حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ
قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ
عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ
آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ
مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي
رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا، وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ
حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا،
إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ
فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ، قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ
الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا
يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ، وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا
الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى
فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ
أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو
الْأَلْبَابِ.
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً
وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ.
ولا شك أن الكلام الذي نسبه الله تعالى
إلى نفسه بطريقة صريحة هو الأحسن، والأولى بالاتباع، بالإضافة إلى أنه قطعي
الثبوت، أما غيره فهي أمور ظنية تدخل فيها ما لا حصر له من العوامل البشرية.
قال
المحاور: ولكننا محصناها وصححناها
وخرجناها!
من أنتم؟ وهل لديكم توكيل من رب
العالمين؟ ما هو منسوب إلى الرسول لم يبدأ جمعه جمعًا جادا إلا في القرن الثالث
الهجري، أي بعد فوات الأوان، وبعد الكوارث والفتن التي مزقت الأمة، وفرقت الدين، فهو
تحيط به الظنية من كافة جوانبه، ولا يمكن أن يكون الدين العالمي الخاتم مبنيا على
ظنون، الوضع في المرويات كان هو الأصل، والمروية الخالية من الوضع والتحريف هي
الاستثناء النادر، يجب دائمًا التمييز بين ما صدر عن الرسول بالفعل من الأقوال
والأفعال وبين ما نسبه الناس إليه.
لقد وضع جهابذة السلف قواعد لتمحيص
المرويات، واستعملوها لاستبعاد أكثر من 99% مما جمعوه، وليس ثمة ما يضمن أنهم
كانوا معصومين في منهجهم ولا في تطبيقه، قد كانوا بشرا محدودي القدرات والإمكانات،
يعملون في ظل مذهب سائد وسلطة إجرامية باطشة، ومع ذلك يجب أخذ المرويات في
الاعتبار لأسباب عديدة، ولا يوجد دينيا ولا منطقيا ما يمنع من استكمال عملهم، ولذلك
لابد من منهج حقيقي وجاد لتمحيصها، أساسه وجوب اتساقها المطلق مع دين الحق الماثل
في القرءان.
المسلمون مأمورون بطاعة الله ورسوله؛ أي
بطاعة الرسالة، ومأمورون برد الأمر إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ عند التنازع،
والتنازع يكون بسبب الاختلاف، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي
شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا.
والرسول نفسه مأمور بأن يقول لمن اختلفوا:
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ
رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.
فالرسول مأمور بالدعوة إلى الدين الخالص
لله، فهو العبد المحض لله، ويريد من المؤمنين أن يكونوا مخلَصين ومخلِصين لله رب
العالمين.
طاعة الرسول تكون بالعمل برسالته وبالنور
الذي أُنزل معه، وهي لا تعني التصديق المطلق لكل ما نسبة رواة أحد المذاهب إليه.
فالسنة مصطلح قرءاني، سُنَّةَ اللَّهِ
فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا،
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ
اللَّهِ تَبْدِيلًا، فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ
تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا،
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ، سُنَّةَ
اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ
تَبْدِيلًا، سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ
لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا.
ويُلاحظ أن الله تعالى قد ينسب سنته إلى
من حاقت بهم، أو كانوا سببا لظهورها.
السنة هي طريق ونهج وأسلوب
للحياة، وهي قوانين حاكمة سارية أو يلتزم بها الإنسان بمحض اختياره.
سنة الرسول هي عمله بما في
القرءان من السنن، فهي التطبيق العملي لما هو في القرءان، فآيات القرءان أدلّ على
سنته الحقيقية من كافة المصادر الثانوية الأخرى..
الله تعالى ينسب السنن لمن
كانوا سببًا في ظهورها، وهي في الحقيقة سنته هو، {سُنَّةَ
مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا
تَحْوِيلا} [الإسراء:77]
السنة هي نمط سريان الأمور وتحققها، فهي
القانون بكافة أنواعه، وهي المنهج، وهي أيضًا الأعمال الجارية وفق قانون أو منهج.
فكلمة "السنة" هي الكلمة
العربية الصحيحة والفصيحة التي تؤدي معنى القانون والمنهج ونمط سريان وتحقق الأمور
في القرءان.
فالسنة هي المصطلح القرءاني الذي يغني عن
كلمة قانون غير القرءانية، لذلك من السنن: القوانين الإلهية الحاكمة على سلوك
المخيرين، والتي ترتب الجزاء على أفعالهم الاختيارية، وهي أيضًا ما يجب أن يلتزموا
به من الأفعال، وما يجب أن يراعوه عندما يضعون لأنفسهم ما يلزم من القوانين.
ج2
وفي القرءان منظومات السنن الآتية:
1.
منظومة السنن
الإلهية الكونية، ومنها: لاَ
يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا
اكْتَسَبَتْ، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ
فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ
أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا
عَظِيمًا، مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ
يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ
2.
منظومة السنن
الحاكمة على أفعال المخيرين ومنها: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا
بِأَهْلِهِ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا، مَنْ جَاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا
يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
3.
منظومة السنن
الشرعية ومنها: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ،
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ
لِذِكْرِي، إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ
تَبُورَ، وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا
نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ
ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
فإقامة الصلاة، مثلا، سنة كبرى من سنن
الدين، ولكن يتقدم عليها ذكر الله وتلاوة كِتَاب اللَّهِ.
4.
منظومة السنن
التشريعية ومنها: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ،
وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ
وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ
ومنظومة السنن التشريعية هي التي يجب على
أولي الأمر الالتزام بها عند سنّ أي قانون يسري على أي أمر مستجد.
إنه لا يجوز القول بأن أمرًا دينيا ورد
في (السنة)، السنة ليست كتابًا كالقرءان، التحدث عما يسمونه بالسنة وكأنها كتاب هو
خطأ لغوي، إذا كانت السنة هي جماع السنن، فإن كل واحدة منها إما أن يكون منصوصًا
عليها في القرءان، أو تكون مستخلصة منه، هو وما يصدقه من المصادر الثانوية الأخرى،
وفق منهج قرءاني صارم، والسنن في النهاية ستكون أنساقا من القوانين والسلوكيات،
النصوص ليست هي السنة، ولكنها تتضمنها وتشير إليها.
قال المحاور: ولكنهم يقولون بأن السنة
تنسخ القرءان!
وهل
يقبل مسلم بذلك؟
ملحوظة:
لم يفقه المحاور المغزى الحقيقي لهذا الردّ، وهو أن القائل بذلك لا يكون متبعًا
لدين الحق، وإنما لدين من الأديان التي حلت محله وانتحلت اسمه.
قال المحاور: نعم كلهم يقبلون، السنة
وحي مثل القرءان، وقد صححوها ومحصوها وخرجوها، لماذا لا تنسخه؟
القرءان
كلام الله، هل ما جاء في كتب المرويات كلام الله؟ هل تستطيع أن تقسم على ذلك؟ القرءان
كتاب الله؟ هل كتب المرويات كذلك؟ هل يمكن أن يوحي الله تعالى إلى رسوله فيما
تسمونه بالسنة ما يخالف كلامه الذي وصفه ببعض أسمائه؟ هل كتب المرويات موصوفة
بأسماء الله؟ المصدر الأوحد للسنن الكبرى هو القرءان، وهو المصدر الأعلى للأمور
الثانوية، كيف ينسخ الناتج مصدره؟ هل يمكن أن ينسخ معنى النص النصَّ نفسه؟ هل يمكن
أن ينسخ تبيين أو تفصيل أو شرح النصّ النصّ نفسه؟ نفي وجود آيات قرءانية منسوخة
يستند إلى أسس كلية راسخة، ولا يحتاج إلى تتبع ما زعموا أنه منسوخ آيةً آية، لا
يوجد أي مصدر أعلى من القرءان ليقرر أي شيء بخصوصه.
هل
يوجد مشرع دستوري يقول للناس من بعد أن يضع لهم دستورًا ملزمًا: خذوا حذركم، توجد
في هذا الدستور نصوص كثيرة باطلة ملغاة، لا يجوز العمل بها، وإذا أردتم أن تعرفوها
فعليكم بفلان أو علان؟ ما لا ترضاه لبشر لا ترضاه لربك!
قال المحاور: أليسوا أهل الذكر؟
من
يقول بنسخٍ في الذكر، هو بالأحرى عدو للذكر، موضوع النسخ موضوع كبير، ومتشعب، ولا
يمكن تلخيصه في دقائق معدودة، ولكن يجب العلم بأنه توجد منظومة للسمات القرءانية
ثابتة بالقرءان نفسه، فلها الحكم على كل ما يختص بالأمور الدينية، فلا يحق لأحد
المخالفة عنها، القرءان هُوَ الكتاب الذي سمَّاه الله
تعالى ببعض أسمائه، فهو النور والمبين والحكيم والحقّ والمجيد والعزيز والعليّ
الحكيم والعظيم والكريم والمهيمن، وهو الهدى والصدق، فهو من تجليات ومقتضيات
هذه الأسماء الإلهية، القرءان هو الرسالة والكتاب
والفرقان والمبين والحكمة والصدق والمبارك وهو روح من أمر الله وهو الذكر وذو
الذكر وهو ميسر للذكر وهو الحق، هُوَ
كتاب مبين ومُبيِّن وتبيان لكل شيء، فهو يبيِّن بعضه
بعضا فضلًا عن أنه يبين غيره، وهو يفصِّل نفسه، هو كلمة الله الكاملة التامة،
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ
الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ
مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ
لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ، هُوَ كتاب متشابه مثان، فهو متسق اتساقا ذاتيا A book with a perfect self-consistency، فلا اختلاف فيه أبدا (إلا بالطبع وجود
اللفظ "اختلاف" والكلمات ذات الصلة به)، فمن وجد اختلافا فلا يلومن إلا
نفسه، وذلك يقتضي استخلاص القول القرءاني على ضوء أنه لا اختلاف فيه وأن كل آية من
آياته تلقي الضوء على هذا القول وتعين على استخلاصه، فكل الآيات التي تعالج أمرًا
ما متكافئة من هذه الحيثية فلا يجوز التفريق بينها لأي سبب من الأسباب، وإذا وجدت
اختلافًا فهو في فقهك، وليس في القرءان، فقهك للآية قد يختلف عن فقه غيرك، بل عن
فقهك أنت من مرحلة من حياتك إلى أخرى.
ذَلِكَ
بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي
الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ.
وَمَا
اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ
الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
ج3
وكل
عنصر من عناصر منظومة السمات القرءانية يدحض زعمهم بأن في القرءان آيات منسوخة،
القرءان هو الكتاب الأعلى والأقدس، لا يوجد أي نصّ أعلى منه لكي يقررَ أي شيء
بخصوصه، أو ليبطل بعض أحكامه، هذا فضلًا عن أن تبيين نص أو تفصيله لا يكون بإلغائه
أو إبطاله.
ولقد
حصَّن الله تعالى كل الآيات التي زعموا أنها منسوخة بذكر اسمٍ من أسمائه فيها أو
بذكر سنةٍ إلهية أو شأن إلهي أو حكم ثابت لا سبيلَ إلى إبطاله.
سيقولون
إن النسخ يتعلق بحكم جزء من آية، هذا مع أن دليلَهم يقول بأن نسخ الآية يكون بما
هو خيرٌ منها، وآيات القرءان هي الخير، ولكل آية قرءانية حجيتُها ومصداقيتها
الكاملة.
الآية
تتضمن اسمًا إلهيا، وهذا خبرٌ لا سبيل إلى نسخه، وتتضمن أحكامًا ملزمة سارية، ولا
سبيل إلى نسخها، والأمر الذي قالوا بأنه منسوخ هو {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ
وَأَنتُمْ سُكَارَى}، هذا رغم أنه حكم ملزم، ولا يمكن نسخه، لا يحق لأحد أن يقرب
الصلاة الآن وهو سكران، وسيظل هذا الحكم ساريا، فكيف يقولون بأنه نُسِخ؟
إن
قولهم بالنسخ يدل على خلل خطير في مفهومهم عن الإلهية، ولقد كان من أسباب ظهور
الأديان التي حلت محل الإسلام، أو بالأحرى هو اختلق ليشرعن لها وليكون مبررا
لوجودها.
إن
الأمر هو كما يلي:
1.
كلام الله تعالى
متسق، لا اختلاف فيه، ولا يناقض بعضه بعضا، التناقض هو في فقهك أنت للآيات.
2.
لديك قولان
متناقضان لا يمكن الجمع بينهما، قول هو من كلام الله الحقاني الثابت والمجمع عليه،
والمتسم بما للقرءان من علوٍّ مطلق ومصداقية، وقول منسوب إلى الرسول عبر خمسة أو
ستة أجيال، من بعد أن تمزقت الأمة وضربتها الكوارث والفتن وأصبح وضع وتحريف
المرويات هو الأصل الكاسح، فأنت ملزم باتباع كتاب ربك.
3.
الرسول اكتسب
صفته كرسول من الرسالة التي أرسله ربه بها، فهو لا يخالفها، هو يتلو عليهم آيات
الكتاب، ويتبعه، ولكن لا يبطل شيئا منه.
4.
الله تعالى، وهو
الإله الواحد لا يوحي إلى رسوله سرًّا ما يناقض كلامه الذي أمر الناس باتباعه ووعد
المتبع له بالجنة، وتوعد المخالف عنه بالنار.
فالأمر
محسوم، القول بوجود آيات قرءانية منسوخة هو إفك مبين، وقد فتح الباب للريبة في
آيات كتابٍ لا ريب فيه، فالقول بالنسخ وفقًا لمفهومهم هو من الوحي الشيطاني،
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ
مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا
هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ
لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا
يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ
وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)} الأنعام
وكل
ما زعموه لما يسمونه بالسنة من الوظائف هو أصلا للقرءان، القرءان مبين ومبيِّن
وتبيان لكل شيء، ومفصَّل على علم، قال تعالى: الر تِلْكَ
آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقرءان مُبِينٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقرءان مُبِينٌ،
الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، {.... وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ
الْكِتَابَ تِبْيَانًا
لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً
وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين}
[النحل:89]، وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ
هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن
رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى
لِلْمُسْلِمِين} [النحل:102]، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ
الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ
عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} [الشورى:52]
الكلام
كما هو واضح عن القرءان الكريم، وهو تِبْيَان لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً
وَبُشْرَى، ولكن للمسلمين، فمن لم يجده كذلك فليس من المسلمين.
قال المحاور: ولكن كل المذاهب تقول بأن
القرءان هو مرجعها الأول، وهم مع ذلك يقولون بالنسخ!
خالف
عن ذلك المعتزلة ومن تأثروا بهم عندما قدموا ما يسمونه بالعقل على النقل، وهذا،
على كل حال، خطأ فادح ومخالفة منطقية خطيرة، فلا يجوز وضع ملكة ذهنية إنسانية في
معادلة واحدة مع نصّ إلهي، الملكة لازمة لفقه النص، ولكنها لا تكون مصدرًا
للمعلومات مثله.
أما زعم
سدنة المذاهب فلم يصدِّقه منهجهم، فهم قدموا مصادرهم الثانوية عليه، وأخذوا منها
جل دينهم وأسسه، ولذلك اختلفوا.
ج4
قال المحاور: وما هي المشكلة؟ لماذا لا
تتعدد الأقوال في فهم القرءان؟ أليس مسموحا بالاختلاف في الدين!
لا
اختلاف في القرءان، القول القرءاني في نفس المسألة واحد، يتم التوصل إليه باتباع
منهج قرءاني صارم، لابد من منهج قرءاني يمكن نقله إلى الآخرين وتداوله والتحقق من
نتائجه، وعلى سبيل المثال يمكن لكل إنسان باتباع منهج استخلاص المثاني التي أوتيها
الرسول أو منهج إحصاء الأسماء الحسنى أو أحكام الطلاق .... الخ أن يصل إلى نفس
النتيجة.
قال المحاور: ولكن الإنسان مخلوق
للاختلاف
البشر خُلقوا مختلفين، ولابد من التعايش مع كل مقتضيات
ولوازم ذلك، وخلْقهم كذلك هو من لوازم تحقيق المقاصد الوجودية، وهي مقدمة على
غيرها، ولكن اختلافهم لا يعني وجود أي اختلاف في القرءان، لا يوجد أي اختلاف أو
تناقض في القرءان، القول بوجود آيات قرءانية منسوخة يعني وجود تناقض أساسي فيه لا
يزيله إلا إبطال بعضه، وإبطال آية قرءانية هو، لا محالة، كفرٌ بها، القول بالنسخ
هذا هو إفك مبين.
والقول القرءاني في المسألة الواحدة واحد، ولكن يوجد
هامش حرية مسموح به في إطار العمل بالأمر القرءاني.
لذلك،
هناك اختلاف محمود بسبب طبيعة بعض الأمور، وكذلك بسبب الطبيعة البشرية، فهو يكون
في نطاق هامش الحرية المسموح به، فهو من حيث الدين لا يؤدي إلى تنازع، وإنما إلى
تحقيق المقاصد الإلهية، ومن هنا كان الأمر بالشورى، كما أن هناك تعريفات وأركان
مفتوحة يمكن أن تتغير مصاديقها بتغير الزمن ومدى كفاءة أولي الأمر الحقيقيين
وأحوال العصر والمصر.
فهناك
أمور هي بحكم طبيعتها سيالة، فلا يجوز تجميدها، ويجب التعامل معها على هذا الأساس،
وهناك أوامر دينية هي بحكم طبيعتها مفتوحة، بمعنى أن مصاديقها وتفاصيلها قابلة
للتغير من إنسان إلى آخر، وكذلك للتطور، وذلك بحكم عالمية الدين وصلاحيته لكل زمان
ومكان، الإسلام دين من أهم سماته العالمية، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً
لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ...}، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ
اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ...}، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى
عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ
رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين}، {... قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ
إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِين}، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ
مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا}
لذلك
فلدى كل إنسان الحرية ليقوم بمثل هذه الأوامر، بل ويبدع ليحسن أداءها على هديٍ من
القرءان، فالقرءان هدى ونور، وله الهيمنة المطلقة على كل الكتب الأخرى بما فيها
الكتب المنزلة.
قال المحاور: ألا يوجد هدى ونور في
الكتب المنزلة الأخرى؟
بلى،
فيها هدى ونور، اقرأ نص الوصية العظمى، جاء في الإصحاح 12 لإنجيل مرقص:
(28 فَجَاءَ وَاحِدٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَسَمِعَهُمْ
يَتَحَاوَرُونَ فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ أَجَابَهُمْ حَسَنا سَأَلَهُ: «أَيَّةُ
وَصِيَّةٍ هِيَ أَوَّلُ الْكُلِّ؟» 29 فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ
الْوَصَايَا هِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. الرَّبُّ إِلَهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ.
30 وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ
كُلِّ فِكْرِكَ وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هَذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى. 31
وَثَانِيَةٌ مِثْلُهَا هِيَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. لَيْسَ وَصِيَّةٌ
أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْ هَاتَيْنِ».
والوصية أصلها في التوراة في سفر التثنية؛ الإصحاح السادس.
فالمسلم
ملزم بالإيمان بالكتب الإلهية، بل وبالرجوع إليها لحسم بعض الخلافات، ومن ذلك،
مثلا، إصرار بعضهم على أن المقصود بكلمة "مصر" في قوله تعالى لبني
إسرائيل: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} هو أي مصر من
الأمصار، وليس مصر البلد المعروف، هذا رغم أن القرءان لم يستعمل هذه الكلمة إلا
بمعنى مصر، وأنها وردت في قراءات وبعض نسخ المصحف الإمام بدون تنوين، وأن النحو
يجيز تنوين العلم الثلاثي ساكن الوسط، وهذا مستعمل في القرءان، كما أن كلمة
"مصر" وردت عَلَمًا على بلد محدد أربع مرات، ولكنهم مصرون على قولهم،
فبالرجوع إلى التوراة يتبين أن بني إسرائيل قد طلبوا من موسى أكثر من مرة، وكلما
واجهتهم مشكلة، أن يعود بهم إلى مصر، فقد كانوا مصريين، لا يعرفون لهم وطنًا
غيرها، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا
يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ، فهم كانوا الطائفة المستضعفة من أهل الأرض،
والأرض (طا) هو من أسماء مصر عند المصريين القدماء.
وقد
أتى بهم إلى صحراء، من بعد أن كانوا يعيشون في بيئة غنية بالمياه، يتناولون مما
تنبت الأرض، ويأكلون السمك مجانا، بل إن صناعة العجل الذي كان مقدسا عند المصريين
كانت ليجعلوه أمامهم عند العودة ليتقبلهم المصريون.
ورد في التوراة سفر العدد
الإصحاح الحادي عشر:
4وَاللَّفِيفُ
الَّذِي فِي وَسَطِهِمِ اشْتَهَى شَهْوَةً. فَعَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَيْضًا
وَبَكَوْا وَقَالُوا: «مَنْ يُطْعِمُنَا لَحْمًا؟ 5قَدْ تَذَكَّرْنَا
السَّمَكَ الَّذِي كُنَّا نَأْكُلُهُ فِي مِصْرَ مَجَّانًا، وَالْقِثَّاءَ
وَالْبَطِّيخَ وَالْكُرَّاثَ وَالْبَصَلَ وَالثُّومَ. 6وَالآنَ قَدْ
يَبِسَتْ أَنْفُسُنَا. لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ أَنَّ أَعْيُنَنَا إِلَى هذَا
الْمَنِّ!»
وبذلك
تحسم التوراة الأمر.
قال المحاور: وماذا عن مصطلح الصحابة؟
من
جديد نقول بأن القرءان هو المصدر الأوحد لمصطلحاته، والمصطلح قد يرد في القرءان
صراحة، وتكون معانيه موزعة على الآيات طبقًا للنهج القرءاني المعلوم، وقد يكون
معبرًا عنه بلوازمه ومقتضياته ودلالاته.
ولم
يحدث شيء من ذلك بالنسبة لكلمة "صحابة"، فهي لم ترد في القرءان، ولم
يخرج القرءان الكلمات ذات الصلة بها عن معناها اللغوي المعلوم، والذي هو مجرد
تلاقٍ في الزمان والمكان، ولم يكسب شيئا منها أي دلالة اصطلاحية، الصحبة قد تكون
بين إنسان وبين جماد، وقد تكون امرأة نبي، وهي أشد الناس صحبة له، كافرة.
وهم
يعرفون الصحابي بتعريف لا علاقة له بالقرءان أو باللغة أو بالمنطق ثم يكسبونه
معاني الخليل.
قال
تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) الإسراء
فالخليل
هو الصديق الحبيب والخالص والناصح، وهو لم يقل "لَاتَّخَذُوكَ صاحبًا"
لأنه بالفعل صاحبهم على اختلاف أحوالهم بين الكفر والإيمان، فالخلة هي التي تعني
التوافق، والمرء على دين خليله، أما الصحبة فهي مصطلح محايد.
ولقد
كان القرءان محايدا بالنسبة لأهل القرن الأول، فقد أثنى على أعمال بعضهم وصفاتهم
الحسنة، ولكنه ندد أيضا بما صدر عن بعضهم من كبائر الإثم.
قال المحاور: وما هو القول القرءاني في
الصحابة؟
لا
يجوز الانشغال بالإجابة عن سؤال خاطئ، السؤال الصحيح هو: ما هو تصنيف القرءان لأهل
القرن الأول؟
قال المحاور: أي على مدى مئة عام؟
كلا!
القرن في القرءان جيل من الناس لاقترانهم في زمان واحد، وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ
الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا
بَصِيرًا، فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ
يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ،
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ
وذو
القرنين لم يتسم بذلك لأنه عاش مئة عام، وإنما لأنه شهد جيلين مثل عزير مثلا.
والمروية
التي تتحدث عن خيرية القرون تبين ذلك: خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ،
ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ
فالقرءان،
وسورة التوبة بالتحديد، تبين مراتب أهل القرن الأول، وهي:
1. السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.
2. من اتبعوهم بإحسان
3. من آمن من بعد الفتح
4. من خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا
5. المرجون لأمر الله
6. من أسلموا ولمَّا يؤمنوا
7. المؤلفة قلوبهم
8. المنافقون.
والقرءان كتاب حقاني موضوعي لا يرتب أي مراتب على
ارتباطٍ ما بأحد الصالحين وإنما على الصفات والأعمال، فهو لم يمتدح أو يذم أية
طائفة إلا بصفاتها وأعمالها.
ومن أسلموا ولمَّا يؤمنوا هم الأعراب، فلقد قُبِل منهم
الإسلام الظاهري المقيد Superficial and restricted Islâm على أمل أن يؤمنوا بمخالطة المؤمنين، فلا دين بدون إيمان،
الدين بدون إيمان هو النفاق، وَمِمَّنْ
حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا
عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ
مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ.
ولكن
لا إكراه في أمر الإيمان، لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ،
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ
تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ.
والله
تعالى يريد من الناس أن يؤمنوا به بمحض اختيارهم، لأنه لن ينتفع أحد إلا بعملٍ
أقدم عليه بمحض اختياره.
والفرق
بين الأعراب وبين المنافقين أن الأعراب يمكن أن يؤمنوا، أما المنافقون، فلا أمل
فيهم، ولا جدوى منهم، وهم شر أعداء المؤمنين، وقد كانوا هم الأكثرية بمقتضى
الآيات: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ
بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا
ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)} [يوسف]، {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ
آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ
فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)} يس.
فالإيمان
هو أساس أركان دين الحق، الإسلام الرسمي الاصطلاحي القرءاني الكامل، والإيمان يكون
بما في القرءان، وأول أركان الدين الإيمان بالإله الواحد الذي له الأسماء الحسنى
والسمات والأفعال المذكورة في القرءان، وهذا هو أساس الدين، ويجب اتباع المنهج
القرءاني لاستخلاص قوله في أي مسألة.
قال المحاور: وما هي ملامح هذا المنهج؟
هو منهج قرءاني علميّ منطقي، فهو مبني على تعريفات
ومسلمات قرءانية، وكل بنية علمية مبنية على تعريفات ومسلمات:
الهندسة الإقليدية مبنية على حوالي 10 تعريفات وخمس
مسلمات،
الهندسات
اللاإقليدية مبنية على حوالي 10 تعريفات وحوالي 5 مسلمات معلومة، وهي
لا تأخذ بالمسلمة الخامسة للهندسة الإقليدية
الميكانيكا
الكلاسيكية مبنية على 7 تعريفات وحوالي 4 مسلمات
الإلكتروديناميكا
الكلاسيكية مبنية على 7 تعريفات وحوالي 4 مسلمات
النسبية الخاصة مبنية على من 6 تعريفات ومسلمتين، ثبات
صور القوانين الطبيعية واستقلالها عن النظم المرجعية ذات السرعة الثابتة فيما
بينها، وثبات سرعة الضوء،
النسبية العامة مبنية على من 7 تعريفات و3 مسلمات، مبدأ التكافؤ العام، ثبات قوانين
الفيزياء في جميع الإطارات، ربط هندسة الزمكان بمحتواه المادي الجاذبية، انحناء الزمكان
بتأثير المادة.
ميكانيكا
الكم مبنية على 10 تعريفات ومن 3 إلى 4 مسلمات
الإلكتروديناميكا
الكمية تقوم على حوال 9 تعريف 5 مسلّمات جوهرية
الكروموديناميكا
الكمية تقوم على 12 إلى 14 تعريف من 4 إلى 6 مسلّمات جوهرية
فالهندسة الإقليدية مثلا تتحدث عما تسميه بالنقطة والخط
المستقيم والسطح، وتعرف كل مصطلح منها، أما مصدر التعريفات والمسلمات في العلوم والرياضيات
فهو محل خلاف بين العلماء والمناطقة.
تُعدّ
التعريفات والمسلَّمات الركيزة الأولى لكل نسقٍ علميٍّ متكامل، إذ تحدِّدان مجال
النظر، ومنطق الاستنباط، وأفق التطبيق، فالتعريف يرسم المفهوم الأولي الذي تُبنى
عليه القوانين، بينما المسلَّمة تمثل حكمًا ابتدائيًا يُسلَّم به من غير برهانٍ
داخل النسق، ويُستعمل أساسًا للاشتقاق الرياضي أو الفيزيائي.
فمصدر
المسلَّمات والتعريفات يمرّ بتطوّرٍ فلسفي عميق، يمكن تقسيمه إلى ثلاث مراحل كبرى:
1.
مرحلة الاستنباط
العقلي المجرّد كما في الهندسة.
2.
مرحلة التجريب
المادي كما في الميكانيكا والإلكتروديناميكا الكلاسيكية.
3.
مرحلة التركيب
العقلي–التجريبي (في النسبية والفيزياء الكمية
وكذلك الأمر في دين الحق ومنهجه، فله تعريفاته ومسلماته،
والمصدر المستقل الأوحد لها هو القرءان الكريم، هذه التعريفات والمسلمات يجب العلم
بها والإيمان بها والعمل بمقتضاها، أما الدعوة إليها، أو إقناع الآخرين بها فهذا
أمرٌ آخر.
والعنصر الديني أو القول القرءاني في أي مسألة إما أن
يكون ماثلا فيه بطريقة صريحة، وإما أن يستلزم الأمر إعمال المنهج القرءاني لاستخلاصه،
هذا المنهج يتضمن الاستقراء والاستنباط والاستنتاج، وللمنهج القرءاني تعريفاته
ومسلماته وبديهياته الماثلة في القرءان، القرءان هو مجمع البينات والمسلمات Axioms and postulates اللازمة للمنهج
القرءاني، يجب التسليم بما ذكره القرءان عن أي مسألة، وبناء أي بحث على ذلك، وهذا
هو الإيمان، ويصدقه العمل بمقتضاه.
وعلى سبيل المثال لاستخلاص وصياغة هيكل الدين يجب أن تتبع
المنهج العلمي المنطقي، لذلك لابد من منهج ومسلمات لاستخلاص عناصر الدين من مصادره، وبديهيات
ومسلمات Axioms and postulates نظرية
الأمور الدينية القرءانية هي:
1-
القرءان هو المصدر الأوحد المستقل للدين، وكل مصدر آخر يستمد شرعيته
ومصداقيته منه، ويبقى للقرءان الحكم والقضاء والعلوّ والهيمنة عليه.
2-
القرءان هو المصدر الأوحد لكل أمور الدين الكبرى، وميزان الأمور من الأمور
الكبرى، فهو في القرءان.
3-
القرءان هو المصدر الأعلى لأمور الدين الثانوية.
4-
كل أمر قرءاني صريح أو ضمني لابد أن يكون له مكانه في نسيج الدين.
5-
القرءان هو مبين ومبيِّن وتبيان لكل شيء من أمور الدين.
6-
القرءان كتاب محكم متشابه متسق اتساقا تاما ومثانٍ، ويصدق بعضه بعضا، فلا
اختلاف فيه.
7-
يجب العمل بمقتضى منظومة السمات القرءانية عند التعامل مع القرءانية، وهي
لها الحجية الكاملة والأولية والهيمنة على كل ما يمكن أن يُقال بخصوصه وعلى
المصادر الثانوية.
8-
كل آية من آيات القرءان لها مصداقيتها التامة، فيجب استفتاؤها في كل مسألة
ذكرت شيئًا عنها، فالآيات
القرءانية التي تشترك في معالجة مسألةٍ ما كلُّها متكافئة وكل آية منها لها حجيتها
الكاملة.
9-
لا وجود في القرءان لآيات منسوخة، بل فيه آيات ناسخة لبعض أحكام الشرائع
السابقة.
10-
القرءان هو المصدر الأوحد لما يجب الإيمان به من أمور الغيب.
11-
القرءان يتضمن
ما يلزم لتوصيف الأمر الديني.
12-
القرءان يتضمن
ما يلزم لتحديد وزن الأمر الديني.
13-
ما ذكره القرءان
من تفاصيل الأمر هو أهم تفاصيله.
14-
القرءان يذكر الأمر صراحة أو ضمنا (بالمفهوم أو الفحوى أو بالمقتضى أو
بالإشارة)، والمقصود بالذكر الصريح هو النصّ على معنى
مباشر صريح، أما المفهوم أو الفحوى وفقًا لمصطلحنا
فيتحدد بالرجوع إلى كافة السياقات القرءانية الممكنة، أما المقتضى فهو المطلوب
من الإنسان وفقًا لكل النصوص ذات الصلة بالمسألة.
15-
القول القرءاني في مسألة يتحدد بالرجوع إلى كافة سياقاتها: الآية التي ذكرت
شيئا عن المسألة، مجموعة الآيات التي ذكرت شيئا عن المسألة، السياق الخاص بكل آية
على حدة، كافة السياقات، السياق المعنوي العام، السياق القرءاني العام.
16-
الاختلاف في اللفظ يوجب الاختلاف في المعنى.
17-
توجد ألفاظ مشتركة ومجملة، والقرءان يتضمن ما يعين على إدراك مفهومها.
18-
ما ذكره القرءان صراحة أو ضمنا (بالمفهوم أو الفحوى أو بالمقتضى أو بالإشارة)
من أمور الدين أهم بكثير مما لم يذكره.
19-
الأسماء الحسنى المذكورة في القرءان تقتضي بالضرورة أمورًا دينية.
20-
مصدر منظومة القيم الإسلامية هو الأسماء الحسنى والسمات الإلهية.
21-
يؤخذ مما هو
منسوب إلى الرسول ما يتسق مع كل عناصر دين الحقّ المستخلصة من القرءان الكريم.
22-
لا يجوز الأخذ بما ثبت تعارضه الصارخ مع عنصر قرءاني.
23-
عالمية الإسلام تستلزم وجود أوامر دينية مفتوحة تتطور مصاديقها وتفاصيلها.
24-
الحكم على ما يستجد من الأمور يكون بالرجوع إلى منظومات القيم والسنن الدينية،
وخاصة منظومة السنن التشريعية.
25-
الحكم المستنبط الخاص بالأمور الجديدة يكون منوطًا بأولي الأمر الحقيقين، وهو
يظل حكمًا وضعيا لا يزداد به الدين، ولكن يجب طاعته لوجوب طاعة أولي الأمر.
أما بالنسبة لأهل القرن الأول فالقرءان يثبت ويقرر أنه
لا يمكن وضعهم تحت مسمى أو اصطلاح ديني واحد، وعلى من يريد ذلك أن يأتي بقائمة
بأسماء المنافقين غير المعلومين إلا لله وحده.
إنه يجب تنزيه الرسالة والرسول والدين عن أن يُنسَب
إليهم من ثبت انحرافه وضلاله وإجرامه وبغيه وطغيانه، وكل ما هو مطلوب من المسلم
الآن أن يستغفر إجمالا، لمن سبق بالإيمان منهم، وألا يتخذ من دون الله شركاء
مشرعين، فلن يغني عنه أحد من الله شيئا، وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فَرْدًا.
ومن غير المقبول أن يسألنا أحد عن محدثات الناس في الدين،
من بعد أن أعلنا أسس منهجنا القرءاني.
قال المحاور: وما هي فائدة العلم
بالمثاني؟ وما هي المثاني أصلا؟
المثنى
الإلهي هو أصلًا اسمٌ إلهي واحد في اللغة العلوية المحكمة، وقد استلزمَ التعبيرُ
عنه باللسان العربي اقترانَ اسمين
مفردين بترتيب معين، وهو يشير إلى سمة واحدة محكمة تفصيلها هو السمتان اللتان يشير إليهما
الاسمان المفردان، لا
بمعنى أن السمة الواحدة مركبةٌ منهما أو أنها ازدواج لهما، بل بمعنى أن هاتين
السمتين من تجليات وتفاصيل السمة الواحدة المحكمة، أما هذه السمة فلها معانيها
الخاصة التي تشير إليها الآياتُ التي ذُكر فيها المثنى، فالمثنى الإلهي يُلتَمسُ
معناه ودلالاته ووظائفه من الآيات القرءانية التي ورد فيها ومن المعاني اللغوية
للكلمتين المعبرتين عنه.
ذلك
لأن القرءان كان قبل تفصيله بلسان علوي محكم ثم جُعِل بالتفصيل قرءانًا عربيا، قال
تعالى:
{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا
لَعَلِيٌّ حَكِيم}، {الَر كِتَابٌ
أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِير}
وترتيب
الاسم في المثنى أمر هام ومميِّز، فإذا كان ثمَّة مثنى مكوَّنٌ من لفظين كـ"الغفور الرحيم"، فإن المثنى
المكون من نفس اللفظين باختلاف الترتيب كـ"الرحيم الغفور" هو بالضرورة
مثنى آخر يشير إلى سمة أخرى، كما نقول في اللغة وفي بعض الكيانات الرياضية (xy ≠ yx)، لذلك تختلف مدلولات الآيات المصاحبة للمثنى
"الغفور الرحيم" اختلافًا بيِّنًا عن مدلولات الآيات المصاحبة للمثنى
"الرحيم الغفور"، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المثنيين "الحكيم العليم"
و"العليم الحكيم" والمثنيين "الغفور الحليم" و"الحليم
الغفور"، فلكل مثنى حقيقته الخاصة والمميزة.
مثال:
الحليم الغفور
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ
وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ
وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا
غَفُورًا} [الإسراء:44]،
{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا
إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}
[فاطر:41]
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ
يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا
كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ
حَلِيمٌ} آل عمران 155،
{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم
بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} البقرة 225، {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ
وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقرءان تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ
عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} المائدة101
آيتا
الحليم الغفور: شؤون وأفعال إلهية، مكية
آيات
الغفور الحليم: المغفرة والتشريع والسلوك، مدنية
ومن ثمرات منهج استخلاص المثاني:
1.
ثبوت أن استخلاص
أي عنصر ديني أو منظومة دينية يجب أن يكون وفق منهج قرءاني حقاني يتخذ من القرءان
المصدر الأوحد لأمور الدين الكبرى والمصدر الأعلى للأمور الثانوية.
2. إن منهج استخلاص المثاني كان بمثابة النموذج المبدئي Prototype الذي بيَّن
جمع المنهج القرءاني للاستنباط والاستنتاج والاستقراء، وهو مبدئي لأنه تم نسج
مناهج على منواله لاستخلاص باقي عناصر ومنظومات دين الحق، وعلى رأسها منظومات
الأسماء الحسنى، ثم منظومات المقاصد والقيم والأركان والأمور والسنن الدينية.
3. العلم بالرسول الحقيقي، الرسول القرءاني، وسيكون هناك
بعض التفصيل لذلك.
4.
بيان أن القرءان معجز أيضًا برسمه،
ولقد رمز الله تعالى لرسوله في آيات المثاني
السبع وسورها إلى بعض توقيتات الأمور الهامة المتعلقة بحياته لتكون بشرى منه له، وهذا من أسباب حذف بعض الحروف المنطوقة
من رسم بعض الكلمات.
5. يمكن
معرفة المثاني التي أوتيها بعض عباد الله المصطفين الأخيار المذكورين في القرءان.
قال المحاور: وما هو قولهم في المثاني؟
يقولون
بأنها أسماء مزدوجة أو مقترنة لتذييل الآية بما يناسب موضوعها، وهم يعربون الاسم
الثاني كتابع للأول أو كصفة ثانية.
والحق
أن للاسم الإلهي التقدم على الآية المصاحبة له تقدمًا ذاتيا، ومن حيث الدرجة
والمرتبة، إذ لا زمان ثمَّ، والآية تبين بعض معانيه ومقتضياته ومهامه.
قال المحاور: وهل يختلف الرسول القرءاني
عن الرسول السني؟
نعم
يختلف الرسول القرءاني عن الرسول التراثي، الرسول القرءاني كان مجسِّدا لأوامر
وسنن وقيم القرءان، فلقد كان مأمورًا باتباع القرءان، فلابد أنه فعل، والمثاني
السبع التي أوتيها تبين الكثير من سماته وإمكاناته وأفعاله الحقيقية.
قال المحاور: وما هي المثاني التي
أوتيها؟
يجب
أولا العلم بمعنى المثنى المؤتى المقتضى
عندما يربّ الله
تعالى عبده باسمٍ ما فإن في حقيقته يوجد ما هو مقتضىً لهذا الاسم.
لذلك فالمثنى
المؤتى هو الكيان الأمري الروحاني الذي اقتضاه المثنى الإلهي المشترك معه في
اللفظ، فهو مثنى أمري مقتضى.
والرسول لم يؤت
بالطبع المثاني التي هي أسماء إلهية، فهو العبد المحض لله، وإنما أوتي مقتضياتِها،
وهي الكيانات الأمرية الروحانية الهادية المشار إليها، فالمثنى المؤتي هو مثنى
مقتضى.
ولا
حرج من وصف إنسان بمثان مشتركة لفظيا مع المثاني الإلهية، والرسول موصوف في
القرءان بأنه رؤوف رحيم، {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم}
[التوبة:128]
والإنسان موصوف بأنه سميع بصير، {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ
نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2]
ولكن
الصفات الإنسانية مجعولةٌ مقدرة محدودة مقيدة، فهي من آثار السمات الإلهية التي هي
واجبة ذاتية مطلقة، وتتعالى علوا مطلقا على التصورات والمفاهيم الإنسانية.
ولكن
مشكلة أكثر الناس أنهم لا يفقهون حتى اللغة التي يتحدثون بها، هل توجد أي مشكلة في
وصف إنسان بأنه رؤوف أو رحيم أو غني أو كريم أو حي أو قوي أو لطيف أو عليم أو علام
... الخ؟ كلا بالطبع، وهذه أيضًا كلها أسماء إلهية سمَّى الله تعالى بها نفسه في
كتابه، هذا رغم الفارق الهائل بين السمات الإلهية وبين الصفات الإنسانية، وكذلك
يمكن أن يوصف الإنسان بالمثنى المقتضى، ومما استعمل منها في القرءان لوصف الإنسان:
الرؤوف الرحيم، السميع البصير.
وللأسماء الحسنى، ومنها المثاني، مقتضيات متنوعة، ومنها
مقتضيات كيانية، وهي لطائف أمرية تُضاف إلى الكيان الإنساني الجوهري، وهذا هو
التأييد بروحٍ من الله.
وهناك قيم وأخلاق، وهي معانٍ راقية يتحقق بها الإنسان
ويعمل بمقتضاها، فيتسمى بالأسماء الواصفة منها.
فالذي
أوتيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ هو
اللطائف الأمرية والصفات الإنسانية الجوهرية التي هي من مقتضيات الأسماء الإلهية؛
أي إنه أوتي السمات المقتضاة وليس عين الأسماء الإلهية، فلكل اسم إلهي معانٍ
مقتضاة في العالم الأمري، فالأسماء الإلهية لا تصير صفات لمخلوق، والفرق هائل بين
السمة الإلهية الذاتية والأصلية والواجبة والمطلقة والتي تتعالى علوا مطلقا على
التصورات والمفاهيم الإنسانية وبين صفة المخلوق المحدودة النسبية والمقيدة والتي
هي من آثار ومقتضيات السمة الإلهية.
فالأمر
هو من التأييد بالروح المشار إليه في قوله تعالى: {.... أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ
الْمُفْلِحُون} [المجادلة:22]
والإيتاء يمثل
إضافة إلى الحقيقة الجوهرية The quiddity, the essence مع ثبات الأنانية الإنسانية The human I-ness.
إن إيتاء المثاني هو بالنسبة للكيان
الجوهري إضافات
دائمة إلى هذا الكيان وعمل ما يمكن تسميته ببرمجة مدمجة دائمة Built-in programming، وبالنسبة
للرسول كان بذلك مستعدا ومؤهلا ليتلقى القرءان العظيم، فكان لذلك بمثابة Software، وقد كان بالنسبة له أيضًا ذكرًا، بمعنى أنه
كان حاضرًا في ذاكرة عمل رئيسة دائمة A
permanent working memory
خاصةٍ به، بحيث تكون أعماله وفقًا له، ومبينة له، ومصدقة له.
وإيتاء المثاني كان سابقًا ومواكبًا لإيتاء القرءان
العظيم، وبه اكتسب الرسول الاستعداد اللازم لتلقي هذا القرءان، وبه كان كيانه
الجوهري متسقا مع القرءان، فكان هو مجسدًا له ولما هو فيه من القيم والسنن،
فالاتحاد تامّ بين الرسول وبين رسالته.
قال المحاور: ولكن توجد أقوال أخرى عن
المثاني!
كل
قولٍ صحيح متعلق بهذا الأمر هو مترتب على ما هو مذكور هنا فإيتاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ سبعًا من المثاني اقتضى إيتاءَه
الفاتحةَ والقرءانَ العظيم وإنزالَ القرءان عليه وإرسالَه به، فهو الإنسان
الفرد من بين العالمين الذي تحمل وطأة ذلك، قال تعالى:
{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقرءان مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ
عَلِيم} [النمل:6]،
{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ
مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ
(4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)} الدخان، {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ
مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)} [غافر:2]، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ
الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} الشعراء
{لَوْ
أَنزَلْنَا هَذَا الْقرءان عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا
مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُون} [الحشر:21]
وسيرة الرسول كانت في نطاق المثاني
الإلهية التي أوتي مثانيها المقتضاة، قال تعالى:
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ
الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي
السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)} الشعراء.
والوجود كله يعامل الإنسان وفق الحقيقة
الجوهرية المشار إليها.
قال
المحاور: وما هي المثاني السبع التي أوتيها الرسول؟
هي:
"حكيم عليم" و"سميع عليم" و"خلاق عليم" و"عزيز
عليم" و"عزيز رحيم" و"قوي عزيز" و"غفور رحيم".
هذه
المثاني هي مثانٍ أمرية من مقتضيات المثاني الإلهية المشتركِة معها في الألفاظ،
وهي: "الحكيم العليم" و"السميع العليم" و"الخلاق
العليم" و"العزيز العليم" و"العزيز الرحيم" و"القوي
العزيز" و"الغفور الرحيم".
وكان يجب أولا تقديم وشرح منهج
استخلاصها.
قال
المحاور: وهل توجد مثانٍ أخرى؟
نعم يوجد في قوائم الأسماء الحسنى 59
مثنى.
قال
المحاور: وما علاقة ذلك بالرسول القرءاني؟
من العلم بالمثاني التي أوتيها الرسول يتبين أنه كان
حكيما عليما؛ ذا علم محكم بالأصول والسنن والكليات والمقاصد والغايات، ويوقرّ
السنن الكونية التي أجرى الله عليها أمور عالم الشهادة لتحقيق مقاصده الوجودية،
وكان تركيزه على الأمور الجوهرية، وكان لا يحب التعنت والتفريع والتشقيق في
التفاصيل والأمور الشكلية، وكان يعمل لكي يضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
لقد تلقى الرسول القرءان ككيان أمري واحد، وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقرءان مِن
لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيم، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر، إِنَّا
أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِين، وذلك في قلبه
المبارك، ثم بدأ تنزيله شيئا فشيئا.
وكان الرسول سميعًا عليمًا؛ ذا ملكات ذهنية فائقة
واستجابات وجدانية سامية، زكيَّ النفس، ذكيّ القلب، فائق اللبّ، وكان خلاقًا عليما
ذا قدرات فائقة على الإبداع والتدبير والتصريف والتنفيذ واجتذاب القلوب.
وكان عزيزا عليما ذا قدرة فائقة على الحكم بالعدل
والقيام بالقسط والحكم الصائب والتقدير الصحيح الراجح.
وكان عزيزا رحيما شديدا على الكفار رؤوفًا رحيمًا
بالمؤمنين.
وكان قويا عزيزا لابد من انتصاره الانتصار النهائي التام
على كل أعدائه.
وكان غفورا رحيمًا، ذا عفو وصفح وحلمٍ وسماحة وود ورأفة
حريصًا على دعم صلاته بمن آمنوا به واتبعوه.
قال المحاور: ولماذا بعد كل ذلك لا تأخذ
بالسنة النبوية؟
يجب
ضبط المصطلحات والتعود على استخدام المصطلحات الصحيحة، السنة النبوية هي تفعيل
الأمور القرءانية، وهي أساس دين الحق، فكل أمرٍ قرءاني هو عنصر من عناصر الدين،
وقد أصبح سنة نبوية يجب العمل بمقتضاها، ومن يعمل بأمرٌ قرءاني يكون قد عمل
بالضرورة بسنة نبوية.
أنت
تسأل عن المرويات التي نسبوها إلى الرسول، وقام بعضهم بجمعها، مشكورين، ولكن من
بعد فوات الأوان، وبالتحديد من بعد أن تمزقت الأمة وفرقوا دينهم، وكانوا شيعًا،
وعصفت بهم الفتن، وكان الوضع والتحريف فيما هو منسوبٌ إلى الرسول هو الأصل،
والجهابذة يقرون بأن ما صححوه لا تتجاوز نسبته 1% مما جمعوه، ولا يوجد ما يضمن
العصمة لمناهجهم، ولا لطريقة تطبيقها.
قال المحاور: ولكن المرويات منسوبة إلى
الصحابة!
المرويات
وما تسميه بالصحابة يشكلان عنصرين لحلقة مفرغة Vicious circle، بمعنى أن تعريف كل واحد من العنصرين مبني
على تعريف الآخر، وبناء شيء على ذلك هو الاستدلال الدائري Circular
reasoning or logic، وهو باطل أو خُلْف، Circular logic is a logical fallacy Absurd، وبالمصطلحات
العربية هو دور مضمر، وهو خُلْف، فلا يمكن بناء دين ملزم للبشرية جمعاء على ذلك،
ومن المعلوم أن أكثر المرويات آحادية ظنية، وأكثر الآراء اعتدالا أنه لا يؤخذ منها
علم أو عقيدة، وإنما عمل، وهذا هو قول أهل السنة الأشاعرة، وإن كانوا لم يلتزموا
به.
فبالنسبة للمرويات يوجد منهج للتعامل معها، وقد تبين
بتطبيقه أن أكثر مرويات البخاري ومسلم ذات أصلٍ صحيح، ولكنها لا تمثل الدين تمثيلا
صحيحا عديدة، دين الحق أكبر وأعلى وأسمى وأرقى منها بكثير، ونحن ضد الإنكار
العشوائي للمرويات، ولا نرفض أية مروية إلا إذا ثبت تعارضها المطلق مع أصل قرءاني.
فالمرويات تستمد مشروعيتها أساسًا من النصّ على وجوب
اتباع ملة إبراهيم، ومن وجود أوامر دينية مفتوحة، ومن النص على مهام الرسول.
ومنهجنا يقتضي الأخذ بالمروية المتسقة مع دين الحق
الماثل في القرءان، حتى وإن ضعفها الجهابذة، ومن ذلك، مثلا، أننا نأخذ بالمروية
الواردة في الجامع الصحيح "إن لله تسعة وتسعين اسما، كلهن في القرءان، من
أحصاها دخل الجنة"، هذا رغم أن الألباني قد استبشع عبارة "كلهن في
القرءان"، وصبّ على أحد رواتها جام غضبه، فهل رأْيُ الألباني وغيره في أحد
الرواة يصلح كحجة لرفض عبارة "كلهن في القرءان"، وهل هذه العبارة بلغت
من البشاعة عنده ما يجعله يصفها بالزيادة المنكرة، ويصف الحديث بأنه منكر جدا، وما
هي مصلحة الراوي في إحداث هذه الزيادة؟ هل كان عميلا سريًّا A secret agent للقرءان
الكريم؟! وهل تضعيف الألباني له يجعله الكذاب المطلق الذي لا يؤخذ منه أي
قول؟!
إنه من البديهي أن تكون أسماء الله الحسنى كلها في
القرءان، فهذه الأسماء تشكل المفهوم الإسلامي للإلهية The Islamic
concept of divinity، ولقد قال تعالى: {اللَّهُ
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، {وَلِلّهِ الأَسْمَاء
الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ
سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون}
قال المحاور: ولكن ألا يحق لأي مسلم أن
يتعامل مباشرة مع القرءان؟
دين
الحق يتضمن أوامر كبرى يجب العمل بها قيامًا بحق القرءان، ومن ذلك: الاتباع،
التلاوة، القراءة، النظر، التدبر، التفكر، الفقه، العقل ... الخ، وكل ذلك مجاله
آياته، والإنصات إذا قُرئ، ولكن يجب القيام بما يلزم لذلك، مثلا، القرءان بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِين، فيجب توفر علم وفقه اللسان
العربي والسليقة العربية، وتوجد منظومة كبرى من منظومات الدين تتضمن أسس التعامل
مع القرءان الكريم، والعمل بدين الحق على كافة المستويات يتضمن القضاء على الجهل،
ونشر العلم، ومن ذلك العلم بلسان القرءان.
قال المحاور: وبذلك يجب الرجوع إلى أهل
الذكر!
يجب
الإقرار بأن الناس متفاوتون في كل شيء، ولابد من تفوق فئة منهم في علم وفقه
القرءان، أهل الذكر هم أهل العلم الحقيقي بالكتب الإلهية المنزلة، ويجب الرجوع
إليهم في كل ما يختص بهذه الكتب، وأهل الذكر الآن هم أهل القرءان، ولكن أهل الذكر
هؤلاء هم علماء، وهم الصفوة من أولي الألباب، فهم لا يمكن إنتاجهم عن طريق معاهد
دينية مثلا، وهم ليسوا طائفة من الكهنة التي تحتكر أسرارا تضمن لهم التسلط على
الناس واستعبادهم أو استعباد عقولهم، هم علماء مثل العلماء الطبيعيين مثلا، وعلمهم
هو الذي يزكيهم، ويظهر تفوقهم.
قال المحاور: وماذا عن التراث؟
لا يمكن الاستغناء عن تراث الأمة كله، ولا محوه، هذا
التراث فيه الكثير من الصحيح، والقرءان بلسان عربي مبين، يجب توفر العلم والسليقة
اللازمة لفقه هذا اللسان، ولا يمكن هاهنا الاستغناء عن معاجم اللغة، ولا يمكن
التعامل مع القرءان بدون معرفة معاني مفرداته اللغوية وقدر كاف من النحو والصرف، لا
يمكن الاستغناء عن المعاجم إلا بمعرفة كل دلالات الحروف كرموز أصلية، وكذلك دلالات
ارتباطاتها المختلفة وحركاتها ومواقعها الممكنة في الكلمة، وهذا غير متاح الآن إلا
جزئيا، وعلى مستوى فردي محدود.
*******
ردحذفكفيتم ووفيتم حضرتكم وإجابتكم رغم قصر الحلقة الشديد إلا أنها مركزة جدا
يا ليت قومي يعلمون ، كان اللقاء حجة عليهم لو كانوا يعقلون لطالبوا بسلسة لقاءات حتى تفي بما ظهر لهم من درر وعلوم ولكنهم لا يفقهون .
ردحذف