رؤية توحيدية مادية عقلانية روحانية
أولًا: من الذرّة إلى الموجة إلى
المجال، رحلة تحوّل الوجود
بدأت الفيزياء الحديثة ببحثٍ عن
“الشيء الصغير الصلب” الذي يتكوّن منه كل شيء.
كان
دالتون يرى الذرّة كـ كرة مادية مصمتة،
ثم
جاء طومسون فرأى فيها كتلة موجبة فيها إلكترونات سالبة،
ثم
جاء رذرفورد فتصوّرها نواة مركزية تدور حولها إلكترونات،
ثم جاء بور فقيد وكمم حركة
الإلكترونات
ثم جاء دي برولي فجعل للإلكترونات
موجات مرشدة
ثم
جاء هايزنبرج وبورن فجعلا الموجات سحابة احتمالات رياضية،
ثم
جاء شرودنجر فجعل الإلكترونات سحابة موزعة حول نواة
ثم جاء ديراك فاكتشف للإلكترون
مضادا
ثم جاء فاينمان فجعله اهتزازًا في
مجالٍ كمومي شامل.
وهكذا، تلاشت المادّة شيئًا
فشيئًا من تحت أقدام الفيزيائي،
حتى
لم يبقَ منها سوى أنماط من الاهتزازات والمعلومات.
إنها ليست جسيمات تتحرّك في فراغ،
بل الفراغ نفسه هو الحركة،
الفراغ لم يعد فراغا بل بحارا
وما
الجسيم إلا تموّج في بحرٍ لا يُرى — بحرٍ من الإمكان.
ثانيًا: سقوط “الشيء” وصعود
“العلاقة”
كانت الفلسفة القديمة تبحث عن
“الجوهر”،
أما
العلم الحديث فاكتشف أن الجوهر ليس شيئًا، بل علاقة.
الواقع
لا يُبنى من كيانات مستقلة، بل من تفاعلات:
موجة
مع موجة، مجال مع مجال، ملاحِظ مع ملاحَظ.
وهكذا وُلدت الأنطولوجيا
العلائقية (Relational Ontology):
ليس هناك وجود منفصل، بل شبكة
وجودية كلّ عقدة فيها تكتسب معناها من علاقاتها بالكلّ.
تمامًا كما في الميكانيكا الكمّية:
الجسيم
لا يملك موقعًا أو طاقة محددة إلا حين يتفاعل،
أي
أن الوجود = التفاعل.
ثالثًا: الوعي يعود… لكن بوجهٍ
جديد
حين رفض الفيزيائيون القول بأن
الوعي “يُسقط دالة الموجة”،
لم
يطردوا الوعي من الكون، بل أخرجوه من موقع “الساحر” إلى موقع “العارف”.
ثم جاءت الثورة المعلوماتية لتقول:
ربما
الوعي نفسه ليس سوى شكلٍ من أشكال التنظيم المعلوماتي.
أي
أن الحقل الكمومي الذي يشكّل الواقع،
قد
يكون في ذاته حقلًا معرفيًا، لا بمعنى الإدراك البشري،
بل
بمعنى القدرة على ترميز العلاقة واستجابتها —
وهي
أول بذور الوعي الكوني.
لقد عاد الأثير القديم،
لكن
لا كجوهر مادي،
بل
كـ نسيج معلوماتي طاقوي واعٍ بذاته.
أثير
جديد من “الحقول” و“الترابط الكمّي” و“الهندسات الطوبولوجية” التي لا ترى بالعين،
بل بالعقل المستنير.
رابعًا: من الحتمية إلى الإمكان —
من الميكانيكا إلى الميتافيزيقا
كان نيوتن يرى الكون آلة،
أما
الكمّ فيراه كائنًا حيًا من الاحتمال.
فبدل
القانون الصارم، نجد المعادلة الاحتمالية؛
وبدل
اليقين، نجد اللاتحديد؛
وبدل
المادة الجامدة، نجد رقصة من الموجات.
هنا يتحوّل العلم من أن يكون
وصفًا لما هو موجود إلى أن يصبح كشفًا لما يمكن أن يوجد.
وهذا
جوهر التحول:
من "الواقع" إلى
"الإمكان"،
من
"الكينونة" إلى "الصيرورة"،
من
"الوجود الجامد" إلى "الوجود المتحوّل".
خامسًا: وحدة الوجود العلميّ — أو
الروحانية العقليّة الحديثة
حين ننظر من هذه القمة، نرى أن كل
التفسيرات — مهما اختلفت لغتها — تشير إلى حقيقة واحدة:
أن الكون ليس مجموع أشياء، بل
كلٌّ واحدٌ حيّ.
فـ"المجال" هو الذات
الكونية،
و"الجسيم"
هو وجهها الجزئي،
و"الطاقة"
هي نبضها الداخلي،
و"الوعي"
هو إدراكها لذاتها فينا.
هنا يلتقي العلم بالفلسفة،
والفلسفة بالروحانية،
في
رؤية تقول إن الوجود ليس “خارجنا” ولا “داخلنا”،
بل
نحن والوجود تجليّان لذات واحدة متدفقة في الزمان والمكان.
القرءان يقول:
{وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}،
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ}.
وها هي الفيزياء الحديثة تقول
الشيء نفسه بلغةٍ أخرى:
"الراصد
جزء من المنظومة التي يرصُدها، والمجال الذي يملؤها هو ذاته وجوده."
سادسًا: الرؤية الكلية
سابعًا: الخاتمة الموحِّدة
وهكذا، حين نُمعن النظر في مرآة
الفيزياء،
نكتشف
أن البحث عن “المادة” أو “الطاقة” أو “المجال”
ليس
إلا بحثًا عن معنى الوجود ذاته.
لقد عبر العلم من الذرّة إلى
الموجة إلى المجال إلى المعلومة،
فإذا
هو يعبر — دون أن يدري — من الظاهر إلى الباطن،
من
الكمّ إلى الكلمة،
من
القانون إلى المعنى.
إنها رحلة الإنسان من خارج الكون
إلى داخله،
حتى
أدرك أن الكون كلّه داخله،
وأن
الخلق مظاهر للحق.
وفي لغة العلم:
“الكون يعي ذاته
من خلالنا، والمجال الكوني هو نحن حين نعرف.”
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق