القراءات السبع
ثم العشر: دراسة نقديّة في النشأة والوظيفة والمعيارية
أولًا:
الإطار التاريخيّ والمعياريّ لاختيار القراءات
إنّ
اختيار القراءات السبع ثم العشر لم يكن تأسيسًا وحيانيًّا
(Revelatory Establishment)، بل كان اختيارًا بشريًّا اجتهاديًّا
(Human Scholarly Selection)، تحكمه ظروف علميّة وسياسيّة وثقافيّة.
فالقراءات
التي اشتهرت باسم السبع إنما اعتمدها ابن مجاهد (ت 324هـ) في كتابه المشهور
السبعة في القراءات، لا على أنها أفضل أو أَولى من غيرها، بل على سبيل التمثيل
والتقريب (Representative Canonization)؛ لتيسير الحفظ والتعليم وضبط التداول
القرائي.
وممّا
يُلاحظ أنّ هذا الاختيار لم يكن متوازنًا جغرافيًّا ولا موضوعيًّا؛ إذ اختار ابن
مجاهد ثلاثة من الكوفة (عاصم، حمزة، الكسائي)، وواحدًا من كل من مكّة، المدينة،
البصرة، والشام، مع أنّ أهل الأداء واللغة كانوا يُؤخّرون الكوفيين في مراتب
التقديم، نظرًا لشدّة تلوّنهم اللهجي وتأثرهم بالاختلاط اللغوي بعد الفتح.
ثانيًا:
التقييم النقدي لاختيار ابن مجاهد
لقد
انتقد أئمةٌ كُثر ابن مجاهد على هذا التخصيص، منهم الإمام المهدوي، الذي رأى أنّ
كتابه أحدث أثرًا سلبيًّا في وعي العامة، حتى غلَوا في أمر “سبعة ابن مجاهد” إلى
حدّ تكفير من يقرأ بما هو أشهر في النقل وأقوى في اللغة، فقالوا: “من خالف قراءات
السبعة فقد خالف القرءان”.
وقد
سجّل مكي بن أبي طالب (ت 437هـ) أنّ عدد الأئمة المتقدمين الذين كانت لهم قراءات
مشهورة يزيد على السبعين، وأنّ فيهم من هو أعلى رتبة وأجلّ قدرًا من كثيرٍ من
السبعة الذين اختارهم ابن مجاهد، وأنّ الطبري نفسه زاد على هؤلاء خمسةً وعشرين
قارئًا.
بل
إنّ بعض العلماء ـ كأبي حاتم السجستاني ـ ترك حمزة والكسائي وابن عامر، لعدم وثاقة
طريقهم عنده أو لميلهم إلى مذاهب الأداء المفرطة، وقد قيل إنّ إدخال الكسائي
تحديدًا كان لأسباب سياسية، إذ كان من المقرّبين إلى السلطة العباسية، وكان
لمنزلته تلك أثرٌ في ترسيخ مكانته ضمن السبعة.
ثالثًا:
أثر العمل المجمعي لابن مجاهد
لم
يُحدث اختيار ابن مجاهد فقط توحيدًا تعليميًا، بل أفرز أيضًا ما يمكن تسميته بـ "سلطة
القراءات السبعية" (The Canonical Authority of the
Seven Readings)، حيث نشأ في الوعي العام أنّ هذه القراءات
وحدها هي الممثِّلة للوحي، فنتج عن ذلك تقديس اصطلاحيّ (Terminological Sanctification) لا
يستند إلى نصٍّ ولا إلى تواترٍ حقيقيّ.
بل
إنّ “تواتر السبعة” لم يكن واقعًا قبل اختيارها، بل تولّد بعد الاختيار نتيجةً
لانتشارها المؤسسيّ والتعليميّ. فالقرءان كان موجودًا وثابتًا في الأمة قبل ابن
مجاهد، لكن الشهرة التعليمية (Pedagogical Popularity) هي
التي جعلت هذه القراءات تبدو وكأنها وحدها المتواترة.
رابعًا:
إضافة ابن الجزري وتحوّل المفهوم
بعد
نحو خمسة قرون، جاء ابن الجزري (ت 833هـ) فأضاف ثلاث قراءات إلى قراءات ابن مجاهد،
وقال في عبارته المشهورة: “أضفت
ثلاث قراءات، فأصبحت القراءات المتواترة عشراً”.!!!!!!
وهذه
العبارة تكشف مفارقة علمية دقيقة: إذ لا يمكن للتواتر (Mutawātir
Transmission) أن يُكتسَب بقرارٍ إضافيّ أو باختيارٍ
متأخر، فالتواتر وصفٌ لواقعٍ تداوليّ لا يُنشَأ بالاصطلاح.
ومن
هنا يُقال بحقّ إنّ ما حدث هو توسيع اصطلاحي (Terminological Expansion) لا إثبات
تواترٍ واقعيّ (Empirical Continuity)،
مما يجعل القول بوجوب الالتزام بسبع أو عشر قراءات مخصوصة خارج المنهج النصي
العلمي الصارم.
خامسًا:
القراءة والرواية: بين النصّ والإنسان
القراءة
ـ من الناحية التاريخية ـ ليست وحدة قائمة بذاتها، بل هي تأليف بشريّ
(Human Compilation) من روايات وأوجه سبق أن تلقّاها القارئ
عن شيوخه، كما صرّح بذلك الإمام نافع إذ قال إنه “ألّف قراءته مما تلقّاه عن سبعين
من شيوخه”.
والتأليف
هنا لا يعني أنه اختلق شيئا من عنده، وإنما اختار لكل حرف أقوى ما وصل إليه، ومن
البديهي أن هذا العمل استمر طوال حياته، ولذلك تعددت الروايات والأوجه.
ومن
ثَمّ، فالقول بأنّ “قراءة حفص عن عاصم” أو “ورش عن نافع” نزلت من السماء
كوحدة مغلقة (Closed Canonical Unit) قولٌ
باطل لا أصل له؛ إذ لم يكن وجود أيّ من هذه القراءات ممكنًا قبل وجود أصحابها،
وإنما وُجدت مفرداتها متفرقة في ألسنة الصحابة والتابعين.
فـ القرءان
واحد في أصله النصيّ واللساني (Unified Qur’anic Prototype)،
وإنّما القراءات هي أنماط أداء بشرية متعدّدة (Human Reading Variants) داخل
ذلك الأصل الواحد، لا تمثل مصاحف مستقلّة، ولا يجوز اعتبارها متوازية استقلالًا،
كما لا يجوز إلزام الناس بها على سبيل الدين والإيمان.
سادسًا:
التواتر والقبول: من المعيار إلى التداول
إنّ
تواتر القراءة لم يحدث زمن القارئ نفسه، ولا بعده مباشرة، وإنما تكوّن بعد أن
استقرّ اختيار ابن مجاهد وانتشر تدريجيًا في مؤسسات التعليم والإقراء.
فمن
الخطأ القول بأنّ رواية حفص مثلًا كانت “متواترة” في عصر الطبري، إذ لم يذكر عنها
شيئًا، مما يدلّ على أنها لم تكن بعدُ ظاهرةً جامعةً مشهورة.
إنّ
مفهوم التواتر ذاته في القراءات يجب أن يُفهم بوصفه تواترًا تداوليًا
(Communal Diffusion) لا تواترًا نصيًا أصلانيًا
(Primordial Textual Transmission).
سابعًا:
البعد المهنيّ الأكاديميّ للقراءات
تعلّم
القراءات السبع أو العشر، في حقيقته، مهارة أكاديمية مهنية
(Professional Academic Competence)، تندرج ضمن علوم الأداء الصوتي واللساني
التاريخي (Phonetic-Historical Studies)، لا ضمن العقائد الإيمانية الملزمة.
فهي
أشبه بالتخصّص الفني الذي يُثري معرفة القارئ بتنوّع اللغات واللهجات، لا معيارًا
للتقوى أو دلالةً على الأكرمية.
ولذلك
فإنّ القول بوجوب إتقانها على كل مسلمٍ لا أصل له من الدين، إذ تكفيه القراءة
الأوْلى (The Primary Reading) التي تُوصله إلى
أداء حقّ القرءان وتلاوته الصحيحة وفهمه المباشر.
فمن
تذرّع بعدم معرفته بالقراءات لهجر القرءان فقد انقلب عليه تسامح الرسول نفسه الذي
أقرّ تعدّد الأداء وأباح وجوه النطق المختلفة تسهيلًا لا تعسيرًا.
ثامنًا:
وحدة النصّ ووحدة الرسالة
إنّ
الإقرار بتعدّد القراءات لا يعني التعدّد النصّي (Textual Plurality)،
بل يعني التنوّع الأدائي ضمن الوحدة الأصلية (Performative Diversity within Textual
Unity).
فالقرءان
نزل بلسان واحد جامع (Unified Qur’anic Tongue)،
وهو محفوظ بما هو أقوى من التواتر، وكلّ اختلافٍ يُروى إنما هو داخل حدود هذا
اللسان، ولا يجوز أن يُفهم على أنّه تعدّد مصاحف مستقلة، أو أنّ هناك “قرآن حفص”
و“قرآن ورش”، فهذا انحراف عن الوعي النصّي والشرعي كليًا.
الخاتمة
يتّضح
من هذا التحليل أنّ ما سُمّي بالقراءات السبع أو العشر ليس وحيًا متعدّد الطبائع،
ولا مصاحف متباينة، بل اختيارات بشرية تمثيلية تنظّمت في سياقٍ علميٍّ تربويٍّ
أكثر منه نصّيًّا وحيانيًّا.
وقد
ساهم انتشارها في ترسيخ نموذجٍ معياريٍّ موحّدٍ للتعليم والإقراء، لكنه لا يعبّر
عن انغلاق النصّ القرءاني في سبعة أو عشرة أوجه، بل عن انفتاحه التاريخي على لغات
العرب وطرائق أدائهم، ضمن إطار الوحدة الكبرى للذِّكر.
وختامًا
يجب التأكيد بأن القرءان محفوظ فيما حُفٍظ من قراءات، ولكن لا تنفرد قراءة معينة
بأنها القراءة الأوْلى
*******
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق