السبت، 2 يناير 2016

الأعراف 199

الأعراف 199

خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ(199)
المسلم مأمور بأن يكون سمحا رفيقا لين الجانب، يرضى من الناس بما تيَّسر من أعمالهم وبما هو في إمكانهم ووسعهم، فلا يرهقهم من أمرهم عسرا، يبشر ولا ينفر، ييسر ولا يعسر وأن يعاملهم بالعفو والإغضاء والصفح الجميل.
وهو مكلف بأن يأمر الناس بما علا وسما من مكارم الأخلاق والمستحسن من الأفعال التي تميل إليها الأنفس السوية الزكية، وهي تُعرف بنقيضها من المنكرات والمستقبحات من مساوئ الأخلاق، والأمر بالعرف يتضمن أن يكون الإنسان تجسيدا حيا له، فذلك أشد فعالية وأدعى إلى نجاح الأمر والمسعى.
وهو مأمور بالإعراض عن الجاهلين، والجهل هو نقيض العلم والحلم، فالجاهلون هم السفهاء المجردون من العلم والذين يجهلون أنهم كذلك، وهم بالتالي لا جدوى من التعامل معهم بالحكمة والموعظة الحسنة وبالجدال بالتي هي أحسن، فأمثال هؤلاء لا تصلح إمكانات الإنسان المنفرد بمواجهتهم والتصدي لهم، ولا رادع لهم إلا قوة المتسلطين عليهم، فلا جدوى من إهدار الموارد وتبديدها معهم، والإعراض عنهم لا يكون فقط بتجاهلهم، ولكنه يكون بعدم الانشغال بأمرهم أو بالكيد لهم أو بالرد على أذاهم.
فالآية تحث على التحلي بمكارم الأخلاق والعمل بمقتضاها، وذلك من لوازم وتفاصيل ركن التزكي، وهو من أركان الدين الجوهرية المؤدية إلى تحقيق المقصد الديني الأعظم الخاص بالفرد، وتسمية مكارم الأخلاق بالعرف تتضمن الإشارة إلى سموها وعلوّ قدر من اتصف بها وإلى رائحتها الزكية الطيبة على المستوى الجوهري، لذلك من أسباب نجاح الأمر بالمعروف أن يكون الآمر أصر متحليا بها، فرائحتها الزكية التي أصبحت لنفسه ستجتذب النفوس التي ما زالت فيها بقية من خير إليها.
***
إن المؤمن مأمور بالإعراض عن الجاهلين، فمن هم الجاهلون هنا؟ إنهم الذين يريدون دائما نصا قاطعا حتى في الأمور الخاضعة للعرف والقانون الطبيعي وفيما سكت عنه الحق سبحانه رحمة بعباده ولكي يحثهم على إعمال ملكاتهم، فالجاهلون يستدركون على ربهم ويريدون أن يخضعوه لمنطقهم وإلزاماتهم ويريدون أن يتحول الدين إلى مجموعة هائلة من الطقوس التي تتعلق بكل شيء، أو أن يتحول إلى مدونة قانونية شكلية بحيث يكون لكل فعل إنساني حدث أو يمكن أن يستجد أو يحدث حجم شرعي بالمعنى الذي يتصورونه.
وبذلك تختفي مقاصد الدين العظمى ومنظومات قيمه وأوامره الكبرى وسط ركام هائل من الفتاوى التي تحلل وتحرم وتريد تفصيلا دقيقا لكل أمر وحكما لكل فعل، ولقد ضرب الله تعالى مثلا لهؤلاء في قصة بنى إسرائيل مع البقرة التي أمروا بذبحها ويبين القرءان وحديث الرسول أنهم بتشددهم شدد عليهم وكانوا سببا فيما وضع عليهم من إصر وأغلال.
إن الأمر خاضع لقوانين وسنن، فمن أصر على أنه لابد من نص فيما يتعلق بأمرٍ ما وهل هو حلال أم حرام بعد أن سكت الشارع عنه وتعنت في ذلك فلابد من أن يشدد عليه، وقد يحرَّم هذا الأمر بسبب سؤاله، فما الذي سيؤدى إليه ذلك؟ إنه سيتحمل وزر ما سببه للناس من عنت وحرج، كذلك فإن الأمر غير المحرم لا عقاب على من تعاطاه أو تناوله أو أتى به فإن كان ثمة ضرر مادي فلن يتجاوز الأمر هذا الضرر الطبيعي، أما إن كان الأمر محرما فلا بد من ضرر على المستوى الباطني يؤدى إلى عقاب في الحياة الآخرة، فمن يقترف أمراً محرماً فانه يجنى على نفسه مرتين مرة بسبب الضرر المادي الذي سيلحق به ومرة بسبب مخالفته لتشريع إلهي عن عمد وإصرار فلابد حينئذ من أن يذوق وبال أمره ومن أن ترتد عليه آثار فعله في حلقة لا تلين.
***
لقد زعم الضالون المولعون بالنسخ أن تلك الآية قد نُسِخ أولها وآخرها وترك وسطها مع أن النسخ وفقا لادعائهم هو نسخ آية بآية وليس نسخا لكلمة أو لكلمتين أو لجزء من آية، وبذلك جاءوا من عند أنفسهم بما تجاوز ما ألقاه الشيطان إليهم، والحق هو أن قولهم هذا هو كفر مبين وهو من الإلقاءات الشيطانية التي أدت إلى هجران الكتاب العزيز.
والآية تبين أنه يجب الإعراض عن الجاهل لأنه أصبح ميئوسا منه؛ فلقد صار الجهل ديدنه يستعذبه ويتلذذ به ولا يبغي عنه حولا، فالجاهل هو من أعرض عن استعمال ملكاته القلبية الذهنية والوجدانية وأعرض بذلك عن تزكية نفسه فأصبح بذلك أضل من الأنعام لأنه أهمل ما هو لازم لكي يكون إنسانا وليحقق مصالح نفسه كإنسان، ذلك في حين أن الأنعام تعرف ما يلزمها و ما يحقق صالحها بمقتضي فطرتها، ولا جدوي من الجدال مع الجاهل لأنه للأسف يكون عادة معجباً بجهله ويكون ذا قوة نفسية شديدة يستمدها من تسلط الشياطين عليه واستخدامهم له ليكيدوا للصالحين، لذلك فالمجادل معه لن يجني إلا مزيدا من التدهور فضلاً عن خسارته لوقته وجهده.
-----
لقد ظن بعض السلف أن موضوع النسخ مباراة مفتوحة على الكل أن يتفنن فيها ويأتي بالعجب العجاب ليسبق غيره وليبهر الدهماء وليأت فيه بما لم يستطعه الأوائل، وكان أولي لهم أن يرتعدوا فرقا من هول تطاولهم علي كتاب العلي الحكيم، فإن لم يكونوا قادرين علي أن يرتقوا إلي مرتبة كهذه فكيف لم يلزموا أنفسهم بما اصطلحوا هم عليه من أن النسخ يكون لآية لا لجزء منها، ولكن اصطلاحهم هذا مدحوض أيضا، ذلك لأنه لا توجد آية زعموا أنها منسوخة إلا وهي تتضمن أمورا لا يمكن الزعم بأنها منسوخة ومنها ما تذكره الآية من أسماء الله الحسني، وأصبح دأب الخلف أن يأتوا في ذلك بما لم يستطعه السلف، حتى لقد زعم بعضهم أن أول تلك الآية وآخرها منسوخ أما وسطها فليس بمنسوخ، وقالوا إن الأمر: {وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} منسوخ بما أسموه بآية السيف، وعليه فعلى كل مسلم أن يبطش بمن يصادفه ممن يعدهم من الجاهلين وأن يقتله وأن يستبيح ماله وفقا لتفسيرهم وعلي الأمة الإسلامية أن تشعلها حرباً لا هوادة فيها علي الإنسانية جمعاء، إن القائلين بالنسخ بلغوا في الاستخفاف وتسطيح الأمور والسخافة حدا غير مسبوق ومن الأفضل للمتكسبين بهذا الإفك المبين أن يبحثوا لأنفسهم عن مهنة أكثر شرفا.


*******

هناك تعليق واحد: