السبت، 6 يونيو 2015

من تاريخ المذاهب والمسلمين2

من تاريخ المذاهب والمسلمين2

يتساءل الكثيرون عن أسباب تخلف المسلمين وكان من الأولي بهم أن يتساءلوا عن أسباب عدم انقراض هؤلاء المحسوبين ظلماً علي الإسلام، إن هؤلاء كانوا بالفعل علي وشك الانقراض قبيل أن تبدأ الإمبريالية الغربية في الإطباق والانقضاض عليهم، ولقد أخذت تلك الإمبريالية توجه إليهم ضربات موجعة مؤلمة ولكنها لم تكن أقسي ولا أمضى من تلك الضربات التي كان العالم المحسوب علي الإسلام يتلقاها ولا الأمراض التي كانت تفتك به بسبب ما يتمسك به من مذاهب ضالة جامدة، لذلك تحت تأثير ضربات الإمبريالية بدأ هذا العالم المسمى بالإسلامي يفيق ويراجع نفسه ويحاول أن يتحرر ولو قليلا من المذاهب التي سببت جهله وتخلفه وانحطاطه وكرست كل ما يؤدي إلي فنائه وتلاشيه الذاتي، فسيادة المذاهب الضالة المنحرفة التي حلت محل الدين قادت العالم الإسلامي إلي التشبث بكل قوة بكل ما يؤدي إلي تخلفه وتدهوره وانحطاطه، وهكذا أصبح الناس في هذا العالم يدافعون بشراسة عن تعاطيهم المستمر للسم البطيء ويقدسون من يجرعونهم هذا السم.

وبمراجعة وقائع التاريخ الثابتة يتبين أن الأمة الإسلامية قد تولي الرسول بنفسه تربيتها منذ أن كانت في المهد وكذلك تولي تزكيتها وإعدادها، لذلك سرعان ما تعملقت وأصبحت أمة خيرة فائقة مهيأة للقيام بكل المهام المنوطة بالإنسان العالمي الخليفة ولتحقق المقصد الإلهي وليتم استخلاف الإنسان في الأرض، ولكن واكب نمو وازدهار تلك الأمة وجود أعداء لها من المحسوبين عليها، وهؤلاء هم المنافقون الذين حذر منهم القرءان الكريم، ولقد أصبح هؤلاء هم شياطين الإنس الذين تحالفوا مع شياطين الجن الذين يسعون منذ القدم لإحباط المقصد الإلهي من جعل الإنسان خليفة في الأرض، وكان الخطأ الرهيب الذي وقعت فيه الأمة أنها لم تقم وزناً لهذا التحذير الشديد، بل لقد تحول هؤلاء المنافقون بفعل مشيئة محدثي المذهب اللاسني إلي أعضاء في فئة مقدسة أطلقوا عليهم مصطلح الصحابة الذي وضعوا له تعريفا يلزم بإعماله اعتبار هؤلاء المنافقين غير المعلومين والأعراب غير المؤمنين وغيرهم من حاملي لقب (الصحابة).
ثم وضعوا تعريفا للسنة جعلوها به مرادفة للمرويات الآحادية الظنية، ثم جعلوا تلك السنة مثلا للقرءان تقضي عليه وتنسخ بعض آياته، وبذلك أصبح كل ما يصدر عن أولئك المنافقين أصلاً من أصول الدين يضارع القرءان الكريم، باختصار أصبح المنافقون أربابا مشرعين في الدين.
ثم شُغل المسلمون بتبعات أهوائهم القبلية وبعض آثار الجاهلية التي لم يستطع أكثرهم التخلص التام منها فنشب صراع مرير في معسكر أهل الحق فتَّ في عضدهم وجرَّأ الناس عليهم، كانت البطون القرشية تكن عداءً مريرا لبني هاشم ولا تريد أن يظل الأمر فيهم مثلما كانت النبوة فيهم، لم تكن لديهم نفس النظرة العالمية الراقية للإسلام التي لدى صفوة المسلمين الآن.
كان الناس ممزقين بين انتمائهم للإسلام وبين انتمائهم العميق الجذري للقبيلة، ولحداثة عهدهم بالإسلام فقد كانت عصبيتهم القبلية تتغلب عادة، وعندما رأت إحدى زوجات النبي قريبها سهيل بن عمرو مكبلا في قيوده بعد هزيمة قريش في بدر لم تتمالك مشاعرها وأخذت تبكته وتتعجب من تخاذلهم أمام الرسول الذي سمعها فقال لها: "أعلى الله ورسوله تحرضين؟!"  
ولذلك كان لابد من صراع بين من تشربوا الإسلام الحقيقي وبين من ظلت النزعات القبلية حية ومسيطرة في نفوسهم، وأزكي هذا الصراع فعل المنافقين، لم يستطع قادة الحزب القرشي تفهم حقيقة الأمور وما حدث من تطورات، لم يكونوا يرون إلا الخطر الذي نشئوا على رؤيته؛ خطر استئثار بني هاشم بالأمر، وكان هؤلاء القادة ومنهم سابقون إلى الإسلام قد أثروا ثراءً هائلا بسبب سياسة عمر بن الخطاب المالية والتي كانت مخالفة لسنة النبي ولسنة أبي بكر، وهي توزيع الغنائم والأموال على الناس طبقا لأولوية دخولهم في الإسلام.
هذه السياسة أدَّت إلى استئثار هؤلاء بثروات أسطورية مع بقاء باقي الأمة في فاقة شديدة، وقد ندم عمر بسبب ذلك وعقد العزم على "أخذ فضول أموال الأغنياء وتوزيعها على الفقراء"، فتمَّ اغتياله بعد أن أعلن ذلك بقليل!
وأصبح خوف أكابر القرشيين من عترة النبي مزدوجا، فهم لا يريدون للإمام علي أن يتولى الأمر فيفقدون هم بذلك فرصتهم نهائيا، وبالإضافة إلى ذلك سيفقدون أموالهم، فحدثت المؤامرة التي ترتب عليها تعيين عثمان خليفة، وهو رغم مآثره وكرمه وأريحيته وسبقه للإسلام كان قد أصبح شيخا كبيرا، وكان الولاء لـ(أهله وعشيرته) مقدما على أي أمر آخر فأرسل يستدعي عمه (عدو الرسول وطريده) الحكم بن أبي العاص وابنه مروان، وسرعان ما أصبح مروان هذا هو الحاكم الفعلي، وبدأ التمكين للأمويين في الأرض، فتم تعيين الفاسق الوليد بن عقبة بن أبي معيط واليا على الكوفة بدلا من سعد بن أبي وقاص قائد القادسية كما تم تعيين كبير المرتدين عبد الله بن سعد واليا على مصر، وتم توسيع سلطات معاوية، وتضاعفت العطايا لأكابر القرشيين لشراء سكوتهم، وهكذا بدأ الانهيار السريع والهرولة نحو الفتنة!
استجمعت قريش كل قواها في موقعة الجمل، تركهم معاوية بالطبع لعلمه بأنه المستفيد الأكبر من نتائج المعركة مهما كانت، فقادة الجمل لم يكونوا مدركين لحقيقة الأمور ولا للأمر الواقع الجديد، وظلوا أسرى ماضيهم وتعصباتهم القبلية وأوهامهم، كانوا في حيرة من أمرهم يتقلبون بين المتناقضات بسرعة عجيبة وغرابة شديدة، تورطوا في السفك العشوائي لدماء المسلمين والتمثيل بهم، ففتحوا بابا لم ولن يُغلق، أثبتوا أنهم لا يصلحون لقيادة الأمة ولا لبناء دولة!
وفي الشام كان معاوية يعلم أن نظام الحكم البدائي في المدينة لن يستمر طويلا، فترك الأمور تمضي على أعنتها، بل ترك الخليفة عثمان لمصيره، وكان يمكنه إنقاذه، وأخذ هو يعد العدة ويمهد الأمر لنفسه ويدرس نقاط قوته ونقاط قوة من يمكن أن يهددوا خططه، ويمكن تلخيص الأمر كما يلي:
  1. كان لديه أقوى جيش نظامي محترف في المنطقة، وقد عمل على أن يكون ولاء هذا الجيش له هو شخصيا، كما استمال القبائل القوية إلى صفة، وهكذا أصبحت أقوى قبائل الشام وهي "كلب" أشد وفاءً له من الكلب لصاحبه.
  2. أمسك بكل موارد وأموال ولايته عنده وتحكم فيها بما يخدم مصالحه وخطته.
  3. كان واقعيا يعلم حقيقة الناس ولا يخدع نفسه بقداسة موهومة في أحد، كان يعلم أن أكثرهم يعبدون الدنيا، فعمل على استمالتهم بالمال والمداهنة والمصانعة.
  4. كان أيضا خبيرا بقدرات الرجال وإمكاناتهم فعمل على شراء ولاء أقدرهم بشتى الطرق، كما عمل على التخلص ممن لا يمكن أن تنطلي عليهم حيله بأحقر وأخس الطرق.
  5. استعان بموظفي الإدارة الرومانية القديمة لإحكام السيطرة على رعيته.
  6. رأى أن الإسلام بصورته المثالية وبكتابه هو الخطر الأكبر على خطته، استعان بأهل الكتاب مثل سرجون الرومي وعائلته فضلا عن اليهود فاستغلوا براعتهم المعهودة ووجدوا له المخرج؛ اختلاق مصادر ثانوية والنفخ فيها، بدأ وضع المرويات وتضاعف النقل عن أهل الكتاب.
  7. كان يعلم أن المعسكر المعادي له يضم فئات متنافرة وأنهم سرعان ما سيختلفون وأن المخلصين فيه قليلون، وأن التدهور العام للأمة في الأخلاق والتمسك بالإسلام وبسبب التكالب على الدنيا يعمل لصلحه.
  8. كان يعمل لصالحه أيضا تعصب الأعراب الذين أزعجهم انضمام العجم للإمام علي.
  9. لم يكن يتقيد بدين أو عرف أو أخلاق فاستعمل شتى الجرائم لإرهاب الناس وترويعهم.
وهكذا كان تغلب أهل البغي أمرا محسوما، وسرعان ما تسلطوا على أمور الأمة بسهولة شديدة وغير متوقعة وأفسحوا بلاطهم لكل من نافقهم وتملقهم من أهل النفاق والمتآمرين علي الإسلام واكتفوا منهم بالتظاهر الشكلي بالإسلام، وكان الجميع يعلمون أن القرءان الكريم هو أكبر تحد لهم ولأغراضهم، وأنهم لا قبل لهم بمخاطرة استبعاده أو حتى تحريفه، أما التحدي الثاني فكان وجود أهل الحق الذين التفوا حول عترة الرسول وأصروا على الاعتصام بمثاليات الإسلام.
وقد علمهم أهل الكتاب أهمية المصادر الثانوية ونقلوا إليهم خبراتهم، ولم يقصر أهل الكتاب في اهتبال الفرصة التي جاءتهم فبدأت أكبر عملية وضع مرويات وتزوير في التاريخ.
وتحت تأثير كل ذلك تمت صياغة وإحداث مذهب جديد يكون بديلاً عن دين الحق وجُعِلت له السيادة والقداسة علي الناس، وبالطبع لم يتضمن هذا المذهب أيّا من الأمور الكبرى التي تشكل الأركان الجوهرية لدين الحق، كذلك تم تجريده من جوانبه الوجدانية، كما أُحدث في هذا المذهب كل ما يمنع إعادة بناء الأمة حتى لا تشكل من بعد أبداً خطرا علي المتسلطين عليها، وهكذا أصبح محور هذا المذهب الأموي (اللاسني) وكل المذاهب التي سيتفرع إليها الخضوع المطلق لكل من قهر الناس وتسلط عليهم وإن جلد الظهور ونهب الأموال، كان هذا هو الركن الحقيقي والأساسي، وكانت المؤامرة رهيبة وكان التدبير محكماً بحيث أنه لولا وجود القرءان الذي تكفل الله بحفظه ولولا جهاد فئة مختارة من المسلمين علي رأسهم الأئمة من عترة النبي لاختفى تماما دين الحق لحساب المذهب اللاسني المتسلط.
أصبح المذهب الأموي هو مذهب الأغلبية الساحقة والسواد الأعظم بقوة القهر والاستبداد الأموي، وبحكم أنه كان لأهالي البلاد المفتوحة الإسلام المتاح والمعروف؛ أي أصبح المذهب الأموي هو الإسلام الأرثودوكسي، كان من الممكن أن يندثر دين الحق تماما، خاصة وأن كل الناس قد روَّعهم إرهاب معاوية وعدم تورعه عن اقتراف أبشع الجرائم للحفاظ على سلطانه، وقضى على أملهم تماما اعتزامه توريث الأمة لابنه الفاسق، خاصة وأن الأمر مرَّ بطريقة معاوية المعلومة، كان الاستسلام لذلك الواقع القاسي المرير يعني ضياع أصول الإسلام.
وكان لابد من عمل بطولي فذّ وغير معهود لإنقاذ الإسلام، وكان ذلك الاستشهاد النبيل للإمام الحسين وصفوة من أهل بيت النبوة، هذا الاستشهاد هو الذي أنفذ الإسلام، ومازال ينقذه إلى الآن، فهو الذي يوقظ الصفوة جيلا بعد جيل لمحاولة تصحيح الخطأ المفروض بقوة الأمر الواقع وبقوة الدهماء والغوغاء العاتية وبقوة المؤسسات الشيطانية المسماة بالدينية.
هل يمكن أن يتصور أحد أن يقرأ طفل صغير وهو في فجر طفولته ويعيش في بيئة سنية خالصة، قصة استشهاد الإمام الحسين فيتغير بذلك مجرى حياته ويقرر البحث عن الحق لذاته، ولا يأبه بكل ما يسمعه من حوله، ويأنف أن يجتمع في مذهب واحد مع معاوية وابنه؟ ثم يقرأ هذه الكلمات من بعدها فتزلزل كيانه: «أما ورب البحار والنخيل والأشجار والمهامه والقفار والملائكة الأبرار والمصطفين الأخيار، لأقتلن كل جبار بكل لدن خطار ومهند بتار بجموع من الأنصار ليس بمثل أغمار ولا بعزل أشرار حتى إذا أقمت عمود الدين، وزايلت شعب صدع المسلمين، وشفيت غليل صدور المؤمنين وأدركت ثأر النبيين، لم يكبر على زوال الدنيا، ولم أحفل بالموت إذا أتى».
وهكذا ظلَّ هذا العمل البطولي الفذ يعمل عمله لإيقاظ المصلحين والمجددين ويقيم الحجة على التافهين والضالين والمبطلين ويكشفهم لمن أراد الحق من الباحثين المخلصين.
تخلخلَ ثبات المذهب الأموي عند الناس، وقامت الثورات ضدهم، فاضطروا إلى كشف وجههم الشيطاني، ولم يتورعوا عن تثبيت ملكهم باستعمال أبشع الوسائل، وأحدث لهم رجال دينهم العقيدة الجبرية لتشرعن أعمالهم ولتثبيت مذهبهم.
ولكن هذا الدين سرعان ما أثبت فشله أمام أتباع الفلسفات والأديان الأخرى، وأصبحت خيبة المدافعين عنه أثقل من أن تُحتمل، لذلك اشتدت الحاجة إلى تيار عقلاني (بمقاييس العصر القديم) يمكن أن يُدافِع عما يظن الناس أنه الإسلام فظهر تيار الاعتزال.
كان ظهور تيار الاعتزال بمثابة جرعة عقلانية قوية هائلة لم تستطع الأمة تقبلها، فتصدى له الأثريون من أتباع المذهب الأموي، وتسبب ذلك في ازدياد قوة وبطش هذا التيار، وظهر ذلك للخلفاء للعباسيين، فآثروا تبني هذا المذهب خاصة وأنه يعطيهم كل السلطات ويجرد الأمة من أي حقٍّ لها عند من يتسلط عليها.
وقد ظهر المذهب الشيعي كثورة على المذهب الأموي، وكان له فضل الحفاظ على جزء كبير من التراث الديني والتاريخي للأمة، ولكن ما تعرض له أتباعه، ولكونه كان حركة سرية لزمن طويل فقد تسربت إليه انحرافات كثيرة وخاصة من التراث الفارسي، وهو على كل حال لم يستطع أن يستوعب كل عناصر دين الحق، فقد نشأ هيكله كرد فعل على وجد بنية المذهب الأموي.
 ولقد تعرض المذهب السائد لتحسينات كبيرة على أيدي الأئمة تحت تأثير وفعل الحقائق الدامغة التي ذاعت وانتشرت ولم يكن من الممكن إخفاؤها إلى الأبد، لذلك خفت حدة عداء هذا المذهب لأهل بيت النبي وأصبح الإمام علي خليفة راشدا بعد أن كان العدو المبين لمؤسسي ومحدثي هذا المذهب وأتباعهم، وكان ذلك تحت تأثير ذيوع المرويات الصحيحة التي تبرز مكانته ومكانة أهل البيت في الإسلام، وكان بطلا هذا التصحيح هما الإمامان الشافعي وابن حنبل، أما محاولة أبي حنيفة فلم تؤثر كثيرا حيث اندثر علمه، وأتم قاضي قضاة الدنيا اليهودي أبو يوسف وضع المذهب المنسوب إليه.
فتح أبو يوسف الباب لتحويل الدين إلى حِيَل وألاعيب تلمودية لصالح المتسلطين والقادرين، وإن كان يُحسب لمذهبه عدم اشتراط القرشية في الخلافة أو ولاية الأمر، ولعلَّ الناس لا يعلمون الآن أن قرشية الخليفة هي من أهم أركان الدين!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! وعلى العموم فقد كان ذلك هو السبب لتفضيل الأتراك للمذهب الحنفي وفرضه على الناس أينما تسلطوا، ولولاهم لاندثر!!!
وكذلك كانت الحروب الفكرية التي شنها الفلاسفة وأتباع المذاهب والأديان القديمة والتي شكلت خطرا شديدا علي الإسلام سببا في محاولة إدخال قدر من العقلانية في هذا المذهب والذي كان قد تنكر بحكم طبيعته للجانب العقلاني من الإسلام الحقيقي، وبالطبع ظلت طائفة متمسكة بهذا المذهب بصورته اللاعقلانية القديمة وكفَّرت وزندقت أي خروج عليها فازداد تفرق الدين وتمزق المسلمين، ولقد أتت المحاولة المذكورة إلي صيغة الإسلام بأمور محدثة لوثت نقاءه، ثم تحت تأثير الصراع مع أتباع المذهب الجامد اشتط الفريقان فاشتد جمود هؤلاء بينما استفحل خطر الأمور المحدثة لدي أولئك حتى كادت تطغى على أصول الدين نفسه وتكتسب أهمية أكثر مما بقي في المذهب من أركانه وسننه.
وكان ظهور التيار الأشعري هو الحل الوسط، وهو اتجاه حاول أن يوائم بين عقلانية المعتزلة وبين جمود الاتجاه الأثري، ولما كانت هذه المحاولة على غير أسس راسخة فقد أخذ جهابذته منذ نشأته يبتعدون عنه في اتجاه الاعتزال.
ولما كان المذهب المتسلط قد استبعد تقريبا كل الجانب الوجداني من الدين فلقد أُخِذ المسلمون بالتفوق الوجداني والأخلاقي والروحاني للآخرين عليهم، وكان لزاماً أن يبحث ذوو التطلعات الوجدانية والنفوس الحساسة عما يلبي مطالبهم، فأخذ التصوف يتسلل إلي هذا المذهب ويحاول أن يجد له مكانا فيه، ولقد جاء هذا التصوف محملاً بعقائد وممارسات ومصطلحات كل الأمم العريقة التي مارسته، وكان ذلك إحداثا في الدين، وهكذا اشتعل صراع مرير بين التابعين للمذهب الأثري المحسن وبين أتباع المذهب الجديد المتطور وازداد تفرق الدين وتمزق المسلمين.
ولم يستطع التصوف أن ينال اعترافاً رسمياً حقيقياً إلا عندما تعرضت الأمة لخطر ماحق مثَّـله الصليبيون والمغول والتتار، وعندها فرض التصوف نفسه كخير وسيلة لتعبئة الشعوب ولتربية الفرسان والجنود، واستفحل أمر الطرق الصوفية براياتها وتنظيماتها، وهكذا اتسع المذهب السائد ليستوعب بعض الجوانب الوجدانية التي كانت مهملة وشبه محتقرة في المذهب الأصلي، ومازال الباقون على المذهب الأصلي السلفي يتصدون بشراسة للتصوف ويعتبرونه زندقة وتحريفا واحداثاً في الدين.
ولكن اشتدت سطوة التصوف بالفعل في العصرين الأيوبي والمملوكي، وبدأ السلاطين يخشون بأس مشايخه، وسرعان ما بدأت الانحرافات تتسلل إليه على كافة المحاور، ظهر بعض من تصدوا له وغلوا في ذلك مثل ابن تيمية وتلاميذه، لم يُجدِ ذلك شيئا خاصة بعد سيطرة العثمانيين الذين كانوا أصلا أتباع طريقة صوفية مليئة بالتحريفات، وفي العصر العثماني لم يكد يوجد رجل دين إلا وله مذهب عقائدي (أشعري عادة)، ومذهب (فقهي) وطريقة صوفية يتبعها.
لم يكن ذلك في صالح الدين في شيء بعد توقف التطور الحضاري والانهيار التراكمي المريع The horrible avalanche breakdown، وعلى مدى قرون التسلط العثماني خرجت الأمة من ركب الحضارة وكادت تخرج من الوجود، ولولا انتصار العلمانية في الغرب لما تركوا منهم على الأرض ديارا.
لقد تبنت المذاهب السائدة مقولات كان كل منها كفيلاً بالقضاء علي أعتي الأمم، وهي بصفة عامة قد أعلنت الحرب علي إعمال أثمن ما لدي الإنسان من ملكات، وهي تجرده من أسلحته التي استحق بها أن يكون مكرما ومفضلا وحاملا للأمانة وخليفة في الأرض ثم تدفع به إلي خوض أعتي المعارك لكي ينال هلاكاً مستحقا، لذلك كان لابد من انقراض هذا العالم المحسوب علي الإسلام أو علي الأقل انهياره، أما سبب بقاء المسلمين رغم كل ذلك فهو وجود أهل الحق فيهم، فلا بد من وجود طائفة ظاهرة أم باطنة هم أهل الله وخاصته هُم العاملون بدين الحق وهم الحاملون لرسالته حتى وإن جهلهم الناس أو جهلوا هم ذلك في أنفسهم، فهم عباد الله الذين آلوا علي أنفسهم أن يطيعوا الله في كل أمر أصدره إليهم وجاءهم به رسوله في الرسالة التي حملها منه إليهم، فأهل القرءان هم أهل الله وخاصته، وهم بالطبع لا علاقة لهم بتلك الفئة التي يسميها الناس الآن بالقرءانيين.

*******

هناك تعليقان (2):

  1. وافر الشكر لك أستاذنا الكريم، على علمك الذى لا تضن به على من طلب.. قبل ان أقرا لسيادتكم لم يكن الفكر الإسلامى فى صوره/مذاهبه المتععدة يثير في آى يقين، اللهم إلا حين قرأت للصوفية وعنهم، وحين قرأت رسائل "إخوان الوفا" فهم وحدهم من اعطانى صورة جيدة ومتماسكة بخصوص ديننا الحنيف.. بعدها قرأت لسيادتكم وكانت كتاباتك وماتزال نقاط تحول جذرى فى فهمى لمقاصد الدين والغاية من وجود الإنسان كخليفة لله عزوجل فى الأرض.

    ردحذف