الخميس، 11 يونيو 2015

القيــاس

القيــاس

 

عرف الأصوليون القياس بعدة تعريفات فمنها أنه: "حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما في حكم أو صفة"، أو: "إلحاق أمر غير منصوص على حكمه الشرعي بأمر منصوص على حكمه لاشتراكهما في علة الحكم".

وبذلك قالوا إن الحكم الشرعى يكون نصاً أو حملاً على نص بالقياس، وهذا ادعاء بلا دليل أو برهان مبين، فالحكم الشرعى لا يكون إلا نصاً أو ما يدرك من فحوي النص ودلالاته التزاماً بالمنهج القرءاني، أما الحمل علي النص  بالقياس فيؤدى إلى حكم بشرى مستنبط، فالقياس ليس أصلا دينياً، وما قدموه من أدلة يقولون إنها شرعية هي مبنية على مغالطات واضحة، فقد قرروا أن القياس هو أصل من أصول التشريع ثم حاولوا استنطاق الآيات القرءانية بما قرروه!

فمن عجائب القياسيين استدلالهم بقوله تعالي: (قلْ يُحييها الَّذي أنْشأها أوَّلَ مرَّة) على حجية القياس!!؟؟! وهذه العبارة التي انتزعوها من سياقها كدأبهم واردة في قوله تعالى:
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) [يس]
فالآيتان تقولان إن الذي أحيى العظام أول مرة هو الذي سيحييها عند البعث، فالآيتان تتحدثان عن شأن إلهي، فما الذي أقحمهم هم فيه؟ وما دخل القياس بذلك؟؟!!
وكذلك استدلالهم بقوله تعالى: (فاعْتَبرُوا يَا أُولى الأبْصَارِ) على تلك الحجية!! وهم كدأبهم أيضاً انتزعوا هذه العبارة من الآية:
{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَار} [الحشر:2]
والآية إنما تؤكد ثبات السنن الإلهية التي نصَّ الكتاب العزيز على أنه لا تبديل لها ولا تحويل وتأمر المؤمنين بالاعتبار مما عاينوه من مصير الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حتى لا يقترفوا مثل ما اقترفوه هم، وهى بداهة لا تأمرهم بإعمال القياس لاستنباط حكم شرعي، ولقد استدلوا بقوله تعالى (فاعتبروا) للدلالة على شرعية القياس، وليس الأمر كذلك، فالاعتبار إنما يكون باستخلاص الحكمة والمقصد والسنة الإلهية للانتفاع بها بصفة عامة والذي يتمثل في مزيد من المعرفة بالله تعالى ومزيد من التقوى والإجلال ومزيد من التحقق بالكمال وليس بالضرورة لاستنباط حكم شرعي، فالآية محل الاعتبار هي دليل على وجود قوانين وسنن لا تبديل لها ولا تحويل.
وبالطبع لا يصح الاحتجاج بمرويات آحادية معلوم أنها ظنية لاستنباط أصل تُبنى عليه الأحكام، فالقرءان -وهو النص الديني الوحيد ذو الثبوت القطعي والمصداقية الكاملة- هو المصدر الأوحد لكل أمور الدين الكبرى، ومنها أصول التشريع.
ولا يوجد أي دليل على أن الرسول كان يقصد إلى تعليم الناس استعمال القياس لاستنباط أحكام شرعية، أما الاستنباط الشرعي المذكور في القرءان فهو في فقه القرءان ذاته واستخلاص أقواله بشأن مسألة ما من كل الآيات التي ذكرت شيئا عنها.

ولكن القياس هو آلية من آليات الاستنباط، وهو عمل من أعمال الذهن الإنسانى بكل ما يعنيه ذلك، ولذلك فلابد أن يكون القياس من عمل أولى الأمر الحقيقيين المؤهلين، أما الحكم المستنبط فيظل حكماً بشرياً لا يلحق بأصول الدين، وثمة فُرقان بين طبيعة الأحكام الشرعية وبين طبيعة السنن الإلهية التى قام عليها أمر الوجود والتى لا تبديل لها ولا تحويل، فلا يمكن الاحتجاج بثبات تلك السنن علي حجية القياس لاختلاف مجالات الإعمال، أما استعمال القياس لاستنباط الأحكام أو للحكم في القضايا الجزئية فلا غبار عليه ولكن يبقى الحكم الناتج اجتهاداً بشرياً لا تزاد به الأحكام الدينية.

ولا يعنى إنكار أن القياس أصل ثابت دينياً أنه ليس ثمة مقاصد أو حِكَم أو علل للأوامر الدينية فالمقاصد والحِكَم وثمرات الالتزام بالأوامر الدينية ثابتة ومنصوص على كثير منها، فتعليل الأحكام والنص على مقاصدها لا يعنى أبداً وجوب القياس حيث لا نص، ولا يعطيه مشروعيته كأصل ديني، بل يعنى أن الكتاب العزيز يتضمن المعايير والموازين التي يعلم الناس منها مدى نجاحهم في القيام بالأوامر الدينية، فنفى القياس لا يعنى نفى تعليل الأحكام والأوامر بل يعنى نفى اعتباره أصلاً لاستنباط أحكام شرعية يُذكر مع الكتاب العزيز كما يفعلون، كما يعني أيضاً نفى اعتبار الحكم الناتج من إعماله حكماً شرعياً ملزماً للناس إلى قيام الساعة.
=======
إن القياس ليس أصلاً ثابتاً لا بالكتاب ولا بسنة الرسول، وإنما هو آلية من آليات الاستنباط يمكن لأولى الأمر بإعماله استنباط ما يلزم الناس مع الالتزام التام بمقاصد الدين العظمى وبالقواعد والسنن المنصوص عليها في الكتاب في كل الأمور مثل ضرورة رفع الحرج وتغليب التيسير وعدم إثقال كاهل الناس بالإصر والأغلال وألا يتحمل الإنسان وزر عمل الآخر، أما الحكم المستنبط فيجب الالتزام به من حيث وجوب طاعة أولى الأمر لا من حيث أنه حكم ديني شرعي، فإن التشريع الديني هو بالضرورة حق لله ورسوله فقط، ومن المعلوم أنه لا يجوز للمؤمن أن يقدم بين يدي الله ورسوله.
ويقول القياسيون أن الدلالة على الأحكام لا تكون فقط بألفاظها وإنما أيضاً بالدلائل العامة التي تبينها مقاصد الشريعة، ولذا يجب مثلاً تحريم ما غلب ضرره نفعه مع أنهم اختلفوا في مقاصد الشريعة تلك وربما أنكرها بعضهم إنكاراً تاماً، أما ما غلب ضرره نفعه ولم يكن ثمة نص على تحريمه ـ لأنه مثلاً لم يكن معروفاً للعرب وقت نزول الكتاب ليحرم ـ فلا يجوز تحريمه، وإنما يمكن لأولى الأمر منعه وتجريمه دون أن يدَّعوا لأنفسهم سلطة التحريم الشرعية، إلا إذا ثبت أنه يندرج تحت أمر من الأمور المحرمة تحريماً ذاتيا مثل كبائر الإثم والفواحش والتقول علي الله والافتراء عليه كذبا، فلبعض المصطلحات القرءان دلالاتها ومعانيها التي تتسع وتتطور كلما اطرد التقدم، فصور الخمر مثلا تنوعت وتضاعفت، وليست هي فقط التي عرفها العرب قديما، وصور الفواحش كذلك ظهرت منها ألوان عديدة.

والشريعة لم تنزل لتتضمن أحكاماً تفصيلية مطولة لكل أمر، فالصلاة مثلاً وهى ركن العبادة الأكبر إنما ورد فقط الأمر بإقامتها، ولم ينص الكتاب العزيز إلا علي الحكمة والمقاصد منها منها مع إشارات إلي أركانها وأوقاتها، وكذلك الوضوء فإنه لم يذكر إلا بإيجاز شديد فى جزء من آية تضمن فقط أركانه الأساسية وختمت الآية بالتأكيد علي أنه لم يكن المقصود جعل الأمر حرجاً على الناس وإنما كان المراد تطهيرهم وإتمام النعمة عليهم، ولقد تضمن الكتاب العزيز وحديث الرسول أحكاماً فيما يتعلق بالأمور الغالبة الشائعة وحث الناس على إعمال ملكاتهم واستفتاء قلوبهم فيما دون ذلك من الأمور النادرة وحذرهم من كثرة الأسئلة التى قد تثقل عليهم أمور التكاليف أو قد يترتب عليها تحميلهم ما لا يطيقونه، ولذا إذا لم يكن ثمة نص على أمر ما كحكم بول الأسد مثلاً أو ما هو غير ذلك من الأمور المسكوت عنها لقلة احتمال وقوعها فلا يجب البحث عنها، فإذا ما وقع أمر نادر كهذا فعلى المتضرر أن يستفتى قلبه ومن الأفضل فى تلك الحالات مثلاً أن يغسل ثيابه دون انتظار فتوى كهنوتية لن تكون إلا تحصيل حاصل.

أما القياس الذي أخذ به البعض فإنما هو في أصله عمل بالنص بعد إعطاء الألفاظ مدلولاتها المستنبطة من آيات الكتابين المقروء والمشهود، فالخمر مثلاً هي كل ما يسكر بحيث يؤدى إلى ألا يعلم الإنسان ما يقول، وهي ليست بالضرورة مقصورة على الخمر التي عرفها العرب، وتدبر الآيات الكونية والعلم بها قد دل على أن سبب الأعراض المترتبة علي شرب الخمر هو المادة الكحولية فيها فوجود الكحول كاف لاعتبار المادة محل النظر خمراً ولا حاجة للقياس، أما من يحاولون الزعم بأن الخمر هي فقط ما عرفه العرب؛ أي المصنوعة من العنب مثلا فهم مخطئون خطأً فادحا، وهذا مثال واضح يبين مدى جناية الولع بالآثار والمنهج الحرفي على الدين، وهذا ما حدث أيضاً في أمر الزكاة، فلم يكن الأمر أمر انحياز لبعض المحاصيل ولا ضد بعض المحاصيل أبدا، والقرءان جعل الزكاة من كل ما تنبت الأرض ويتم حصاده.
والرسول عندما اعتبر الحج ديناً واجب القضاء على أقارب المتوفى أو الشيخ الكبير، أو عندما اعتبر القُبلة كالمضمضة للصائم وذلك في سياق بيان الأحكام الشرعية للصائمين كان مبيناً ومعلماً للحكم الشرعي من حيث هو رسول وليس آمراً لهم بإعمال القياس، ولا يجوز لأحد أن يدعي على الرسول ما لم يصرح به، ولا يجوز تعميم ذلك على كل شعائر الإسلام إذ أن من أصول الدين أنه لا تزر وازرة وزر أخرى وأنه ليس للإنسان إلا ما سعى، وإلا لجاز أن يقوم الابن بأداء كل شعائر الإسلام نيابة عن والده، فقضاء الحج عن الوالد كان لظروف خاصة مبينة في الحديث، وهو خاص بالحج فقط ولا يجوز تعديته بالقياس إلي غيره، وبالتالي لا يجوز اعتبار الحكم أصلاً في حجية القياس، ويجب القول بأنه لا يوجد نص قطعي الدلالة يلزم الناس بإعمال القياس بل إن الشرع فرق بين أحكام المتماثلات في حالات عديدة كما سوى بين المختلفات في حالات كثيرة؛ ففرق بين الصلوات في القصر، وأوجب غسل الثوب من بول الصبية والرش من بول الصبي، كذلك أوجب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، وجعل الصوم كفارة لبعض المخالفات ولم يجعل قيام الليل مثلاً كذلك، وبالمثل جعل لأقارب من لم يتمكن من أداء فريضة الحج أن يحجوا عنه ولم يجعل لهم أن يصلوا بدلاً منه مثلاً.
إن القائلين بالقياس يحتجون بالقليل من الروايات الآحادية مناقضين مذهبهم في أن أصول التشريع يجب أن تكون قطعية مع إقرارهم بأن روايات الآحاد ظنية، وفى نفس الوقت هناك العشرات من الشواهد والقرائن الأقوى التي تمنع الأخذ بالقياس، ولذا فيجب القول بأن الرسول في المرويات التي جعل فيها الحج كالدين الواجب القضاء على الأبناء أو جعل القبلة كالمضمضة إنما كان يستخدم حقه ويؤدى مهمته المنوطة به في تعليم الناس الأحكام، وليس ثمة دليل قطعي على أنه كان يريد من ذلك تعليمهم القياس، والدين لم يأت ليتضمن نصوصاً فيما هو بديهي ولا يحتاج نصاً، مثال: ثمة أمر عام بالتطهر، ولقد بين الرسول ما يلزم لذلك من المعارف مثل القول بنجاسة بول الآدمى وبنجاسة بول بعض الدواب، وهذا يعنى بالضرورة القول بنجاسة البول الحيواني كله، ولا يحتاج ذلك إلى نص ما فإنه لا يمكن حصر كل دواب الأرض لإنسان لم يكن يعرف أساساً إلا ما يوجد في بيئته، أما الاستثناء فهو الذى يحتاج إلى نص كما هو الحال في بول الصبى الذى لم يفطم.
ويجب القول بأنه لا تحريم بالقياس وإنما يحرم الشيء المستجد إذا ما ثبت بالدليل القاطع أنه من مظاهر وتفاصيل واحد من كبائر الإثم والفواحش المنصوص عليها والمحرمة لذاتها، فالاتجار بالأغذية الفاسدة مثلاً محرم لأنه إفسادٌ في الأرض وعدوان علي حقوق الإنسان.
****
إن القياسيين يريدون تفسير النص تفسيرا حرفيا جامدا صرفا ثم يريدون جعل فحوي النص ودلالته الحقيقية وإشارته ومقتضاه أمورا مستنبطة بالقياس، فهم يتوهمون أنه يجب أن ينص صراحة في كل مرة على تحريم نوع محدد هو الذي كان معروفاً لدى العرب كتحريم الخمر مثلاً فهم قصروه على ما كان يصنعه العرب، ثم ظنوا أنه يجب قياس المسكرات الأخرى على هذه الخمر، والحق هو أن الخمر اسم جامع لكل ما يؤدى إلى الآثار المذكورة في الكتاب فلا حاجة إلى القياس لتحريم أي شراب يحتوى على المادة المسببة لتلك الآثار والتي عرف الناس أنها الكحول الآن، كذلك ظنوا أن الزكاة إنما تكون فيما ورد فيه نص في الآثار، ومن هنا ظنوا أن الزكاة لا تجب في الأصناف الأخرى أو أنه يجب قياس تلك الأصناف على ما ورد ذكره، هذا مع أن الحكم القرءاني مطلق، قال تعالى: (وأَنْفِقُوا ممَّا رَزَقْناكم)، وقال: (وآتُوا حقَّهُ يَومَ حَصَادِه)، وقال: (وفى أمْوَالِهم حقٌّ للسائِلِ والمَحْرُومِ)، فالكتاب استخدم في كل ذلك الصيغ العامة التي لا يجوز تخصيصها إلا بقرينة أو بدليل قاطع.
*******
نقد تفصيلي لأنواع القياس

من أنواع القياس قياس الأولى وهو: أن يكون الفرع فيه أولى بالحكم من الأصل لقوة العلة فيه مثل: قياس الضرب للوالدين!!!! على التأفيف بجامع الإيذاء!!!!
إن ما يسمى بقياس الأولى ليس بقياس وإنما هو أخذ دلالة النص وفحواه، ولا يمكن اعتباره قياسا إلا بضرب من التعسف وتجاهل أساليب الخطاب المعلومة وباقتطاع جزء من النص من سياقه، فإن النهي عن قول (أفٍّ) للوالدين مسبوق بالأمر العام بالإحسان إليهما ومتبوع بالنهي عن نهرهما وبالأمر بخفض جناح الذل لهما، فلا حاجة هاهنا للقياس أصلا، كما لا يجوز اقتطاع الأمر (ولا تقل لهما أفٍّ) من السياق ومن كل القرءان ثم القول بأن ضرب الوالدين أو شتمهما محرم باستخدام قياس الأولى، وكل عربي يدرك بالبداهة أن النهي عن القول (أفٍّ) لا يراد لمجرد معناه الحرفي، وكان على من اختلق هذا المثال أن يتحلى بشيء من المشاعر الإنسانية وأيضا من السليقة العربية لإدراك طبيعة الخطاب العربي وأساليبه، فالقرءان كتاب عربي مبين، بل إن استعمال مثل هذا الأسلوب شائع في كل اللغات والاستعمال العامي للغة.
أما النوع الثاني من القياس والذي يكون الوصف الذي اعتبر علة للحكم متحققا في الفرع بقدر ما هو متحقق في الأصل مثل قياس العبد على الأمة في تحديد عقوبة الزني فليس بقياس وإنما هو نتيجة لاستقراء النصوص واستنباط الأحكام، فالعقوبة واحدة على الزانية والزاني وكذلك على السارق والسارقة بنص الكتاب العزيز، وبذلك تكون هناك قاعدة أو سنة تشريعية متعلقة بالعقوبات يجب دائما إعمالها، وهي التسوية في العقوبة، والكتاب ليس مطالبا بالنص على ما هو بين وواضح، فالمساواة بين الرجل والمرأة في التكليف والعقوبات مبدأ ثابت إلا إذا قام الدليل القطعي على وجوب التفاوت، ويقدمون مثلا آخر هو قياس إحراق مال اليتيم!!! على أكله بجامع التلف في كل منهما، وهذا المثال من عجائب القياسيين، هل تجريم إحراق مال اليتيم عمل لا حكم له لكي يبحثوا له عن حكم بالزعم بأنه كأكل مال اليتيم؟ أليس ذلك من الظلم المبين لليتيم فضلا عن كونه خيانة للأمانة ومن الإفساد الشديد ومن الاعتداء الغاشم على الحقوق؟
أما النوع الثالث من القياس الذي يكون تحقق العلة في الفرع أقل وضوحا من تحققها في الأصل، ومن ذلك إلحاق النبيذ بالخمر في تحريم الشرب، وهذا ليس بقياس، فالنبيذ (وهو أصلا أي فاكهة منقوعة في الماء) لا يُحرم إلا إذا تخمر جزء منه، وبذلك يصبح خمرا وينطبق عليه حكمها، فلا قياس هنا، فالخمر مصطلح عام لكل ما تخمر.
فعلة التحريم هي تخمر المشروب بحيث يمكن أن يُسمَّى خمرا ويسبب سكرا لمن يتعاطاه، والذي يعني كما هو معروف الآن تحول جزء من المادة إلى كحول، فلا قياس، فإذا كان الأصوليون قد جعلوا علة التحريم هي الإسكار لأنهم طلبوا وصفاً ظاهراً منضبطا فذلك شانهم، أما الكتاب العزيز فلقد حث الناس على معرفة العلل والأسباب الحقيقية، وهو إذ يحرم مادة ما فلتأثيرها الخبيث على الإنسان وليس لاسمها، كذلك طالب الكتاب الناس بالاجتهاد لاستنباط الحكم والمقاصد.
إنه يوجد أمر قرءاني قطعي باجتناب الخمر، ولم يحدد النص نوعا معينا منها، فهي إذاً مصطلح شرعي يتسع باطراد التقدم وازدياد المعرفة، والقرءان يخاطب قوما يعقلون ويفقهون لا يتلاعبون ولا يحتالون، وليس لأحد أن يقول مثلا: طالما أن علة التحريم هي الوصول إلى حالة من السكر لا يعلم فيها المرء ماذا يقول إذاً فيمكن تعاطي الخمر دون الوصول إلى هذه الحالة، فالأمر هو بالاجتناب التام.
إن القائلين  بالقياس قد جهلوا الأسلوب القرءاني في بيان الأمور، فهذا الأسلوب يقتضي البدء بالأمر العام ثم ذكر أحد تفاصيله اللازمة والملائمة لحال الأمة الأمية التي نزل عليها الكتاب، فالأمر بإعداد القوة كاف تماما للمطلوب لأن القوة اسم جامع شامل، ولكن الأسلوب المشار إليه اقتضى تفصيله بأمر مادي يعرفه العرب وهو (رباط الخيل)، ومن المعلوم أن الرسول لم يكتف برباط الخيل وإنما كان يستخدم كل ما يمكنه من سلاح ضد أعداء الدين، وكذلك ثمة أمر عام بالإحسان إلى الوالدين وهو متبوع ببعض الأوامر التفصيلية ، فكل ما يتناقض مع الأمر العام محرم لذاته وليس قياسا على الأمر التفصيلي المذكور ، كذلك فإن إعداد الدبابات والصواريخ مثلا ليس قياساً علي رباط  الخيل وإنما التزاما بالأمر العام بإعداد القوة، وكذلك ثمة أمر عام بالسعي إلى ذكر الله تعالى عند النداء للصلاة من يوم الجمعة وثمة أمر من لوازمه وهو ترك البيع، فالأمر العام يقتضي بذاته ترك كل الأعمال بما فيها البيع، ولذا فكل ما يشغل عن الصلاة من الأعمال منهي عنه التزاما بالأمر الجامع لا قياسا على البيع، إن القياسيين بمسلكهم هذا يظنون أنه ليس ثمة إلا المعنى الحرفي للعبارة، وبالتالي كان لابد من ذكر كافة المهن المعروفة والتي ستستجد إلى جانب البيع وإلا فان الاكتفاء بذكر البيع يعنى وجوب قياس المهن والأعمال الأخرى عليه , ولهم يجب القول بأنه يجب عليهم أن يفقهوا أسلوب الخطاب القرءاني وأنماطه وان يفقهوا فحوى هدا الخطاب ودلالاته.
ولكن كيف جاز ببال فحول (الفقهاء) أن يستدلوا بقوله تعالى {كَما بَدأْنا أوَّل خلقٍ نُعِيده} على شرعية تعدية الحكم الشرعي في أمرٍ ما إلى أمر آخر؟؟!! أو أن يجعلوا من أمر الله للناس بالاعتبار بمصير السابقين حجة في شرعية القياس؟!!!! وكيف ظلَّ أهل الفن وذوو الاختصاص يرددون ذلك على مدى أكثر من 12 قرنا؟
إن القول بالقياس قد فتح الباب لكي يتحول الدين إلى مجموعه من المسائل والأحاجي والحيل يبدع فيها البعض ويتكسبون بها، ويجب العلم بأن معالجة الأحكام في القضايا الجزئية تختلف عن معالجة الأحكام الشرعية، ففي القضايا الجزئية والحكم بين الناس يمكن استخدام القياس والاستئناس بما صدر من أحكام من قبل في القضايا المتشابهة، أما الزعم بأن وسيلة كهذه يمكن استعمالها لاختلاق أحكام دينية جديدة فهو زعم باطل، بل هو نوع من التشريع في الدين بما لم يأذن به الله تعالى.
 لقد غلبت على الأصوليين العقلية القضائية التجزيئية، وخلطوا بين مجالات لا يجوز الخلط فيما بينها، ولهم يجب القول بأن حكم القاضي في مسألة جزئية متعلقة ببعض الأفراد ليس كالحكم الشرعي الملزم للبشرية جمعاء في أمر تعبدي  وليس كسنة كونية حاكمة على مصير الأمة بل على مصير البشرية جمعاء، ويجب القول بأنه لا يوجد ما يلزم الكتاب العزيز بالنص الحرفي على كل حالة جزئية، ولابد من استقراء النصوص  أخذاً في الاعتبار أن الله تعالى لم يفرق بين الجنسين في العقوبة، كما أنه لم يحل أحدا من التزاماته بسبب نوعه, كذلك لم يحرم أحداً من حقوقه بسبب هذا النوع، ولذا فتعدية الحكم المنصوص عليه بالنسبة إلي الرجل إلى المرأة لا يعد قياسا بل هو من الأخذ بطبيعة الخطاب العربي ومن العمل بفحوى النصوص ودلالاتها ومن إدراك الروح القرءاني العام، فلا يجوز نفي ما هو ثابت بأقوى الأدلة والبراهين والمنطق القرءاني واللغوي ليمكن الزعم بأنه ثابت بالقياس!
=======
ومن عجائب الأصوليين اتخاذهم الآيات التي تبين ثبات السنن الإلهية الكونية حجة لإثبات القياس في الأحكام الشرعية الدينية مع اختلاف مجالي عمل الطائفتين، فلا يجوز أن يتخذ البعض من الآيات التي تنص على ثبات الكلمات والسنن أو التي ترتب النتائج على الأسباب والعلل أو التي تبين الحكمة والمقصد من الأمر لا يجوز لهم اتخاذ ذلك كحجة لإثبات مشروعية القياس فالأمور مختلفة والمجالات أيضا مختلفة، فلا يجوز استحداث أحكام دينية في أمور مسكوت عنها باستعمال القياس، إنه يجب القول بأن القياس هو آلية استنباط ممكنة ولكنه مثل كل آليات الاستنباط لا يصلح لاستحداث حكم ديني، وإنما لاستحداث حكم اجتهادي يُقبل من حيث أن الإنسان ليس بمكلف إلا بما هو في وسعه ولأن الأمور المسكوت عنها فيها سعة ومسموح فيها بهامش اختلاف كبير.
انه يجب العلم بأن الله سبحانه قد جعل كتابه قرءانا عربيا فهو يستعمل الأساليب اللغوية العربية المألوفة للتعبير عن الأمور, ولذا فان تحريم  شتم الوالدين مثلا لا يكون مستنبطا بالقياس على النهى عن قول (أفٍّ) لهما, بل إن ذلك النهى تعبير مجازى حقيقته هي النهى البات عن أي صورة من صور الإيذاء  لهما  خاصة وأنه مسبوق بالأمر القاطع بالإحسان إليهما.
إنهم يريدون قصر العبارات على معانيها اللفظية فقط، وهذا ما لا تعرفه أمة من الأمم في لغتها، وعندما يقول أحد المعلمين لتلامذته لا أريد أن أسمع همسا مثلا فإنهم يدركون لتوهم بالبداهة أن هذا نهى بات عن إحداث أدنى نوع من الضوضاء فضلاً عن أعلاها، ولا يتصورون أبدا أن هذا القول يسمح لهم بالصراخ ولا يمنعهم عنه إلا استخدام قياس الأولي!
=======
إنه لا يجوز لأحد أن يقول مثلاً إن أصول التشريع هي الكتاب العزيز ثم العقل أو أن يقدم العقل، أو أن يقول أنها الكتاب ثم السنة ثم الإجماع ثم القياس فهو جمع بين أمور متباينة ومتفاوتة تفاوتاً هائلاً إذ كيف يجعلون آراءهم مقارنة للكتاب العزيز، وإنما يمكن القول بأن مصادر المعلومات هي الكتاب العزيز وما ثبتت نسبته إلى الرسول من سيرة أو قول أو فعل أو خلق والآيات الكونية والوقائع التاريخية وكذلك الآثار المنسوبة إلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان، فلا يجوز التسوية بين مصادر المعلومات وبين آليات الاجتهاد أو بين تلك المصادر وبين آلات الاجتهاد، فمصدر المعلومة قد يكون مثلا آية من آيات الكتاب، وآلة الاجتهاد هي العقل أو الوجدان، أما آلية الاجتهاد فقد تكون القياس مثلاً، فالقياس هو آلية ذهنية لاستنباط حكم بشري اجتهادي أو وضعي وليس بديني فيما لا نص فيه، أما الإجماع فلا وجود له وليس بآلية ممكنة، وإنما يمكن بدلاً منه اعتماد آلية أخرى هي الشورى، فهي آلية لتبادل الآراء بين أولى الأمر وتمحيصها واختيار أفضلها أو أرجحها، أما العقل فهو الملكة القلبية التي لدى الإنسان والتي بها يمكنه تدبر آيات الكتاب ومعرفة معانيها وكذلك فحص وتمحيص ما فى عداه من مصادر المعلومات بخصوص أمر ما.
وبالنسبة إلي الأحكام الشرعية الخاصة أي تلك الأحكام العملية التي يجمعها ما يعرف عادة باسم (الفقه)، فتلك الأحكام إما أن تكون منصوصاً عليها في الكتاب العزيز أو فيما لا يخالفه من الآثار النبوية والذي قامت الأدلة والبراهين على إمكان اعتباره والأخذ به، وإما أن يمكن استنباطها من النصوص باستخدام قواعد التفسير اللغوي المتعلقة بالألفاظ والعبارات مع مراعاة المعاني القرءانية للمصطلحات والتي يمكن التوصل إليها بالاستقراء والاستنباط من النصوص، وكذلك فحوى الخطاب، كذلك يجب الإفادة من البراهين المادية الملموسة التي قدمها العلم الحديث، مثال: لقد بين التقدم العلمي أن التأثير الضار للخمر إنما يرجع إلى احتوائها على الكحول، ولذا فإن هذا المصطلح في الحقيقة يعنى أي مشروب أو مأكول يحتوى على تلك المادة، وهذا ليس قياساً وإنما هو تفسير للمصطلح بحقيقته، فالذي يغنى عن القياس هو التعمق في فقه دلالات الألفاظ وفحوى العبارات أي التعمق في التفسير، والتفسير أصل شرعي معتمد فإن الإنسان مطالب بأن يفقه آيات الكتاب، وإدراك مدلولات الآيات سيظل يتسع إلى يوم الدين بتقدم العلوم الطبيعية واللغوية.
فالأصل ما لم يكن منصوصاً عليه نصاً صريحاً قاطعاً أو مبرهناً عليه بالبرهان القاطع فإنما هو أصل اجتهادي لا يمكن الأخذ به إلا إذا احتفت به قرائن مؤيدة، ولا يطبقه إلا أولو الأمر المعتبرون ولا يزاد به ولا بالأحكام المستنبطة بإعماله في أصول الدين أو أحكامه، بل تظل تلك الأحكام اجتهادية يمكن لمن يأتي من بعد أن يستأنس بها دون أن يعدها أصلاً أو حكماً شرعياً.
ويجب القول بأنه لا يمكن استحداث حكم يقال إنه شرعي في أمر مسكوت عنه، وإنما يجوز لأولى الأمر استنباط حكم له إذا كان ثمة ضرورة لذلك من حيث تمكنهم من الإلمام بمقاصد الدين ومنظومات سننه وسبل إعمالها، وكذلك بإعمال الشورى بينهم على أن يظل هذا الحكم أمراً بشرياً تجب طاعته من حيث وجوب طاعة أولى الأمر لا من حيث أنه حكم شرعي، فلا يجوز لإنسان بعد أن ختمت النبوة أن يزعم أن حكماً قد استنبطه باجتهاده هو حكم شرعي.
فالاجتهاد ليس هو القياس، ولكنه الإعمال الموجهة للملكات الذهنية في مصادر المعرفة بهدف تفسير نص ما أو استنباط حكم خاص بفعل أو بسلوك ما أو استنباط قانون يصف ظاهرة ما أو يعبر عن الارتباطات بين الظواهر، وقد يمكن الاستعاضة عن بعض أجزاء مصادر المعرفة بصور تمثلها مثل منظومة المقاصد ومنظومة القيم ومنظومات السنن والشرائع ومجالات الإيمان والسلوكيات.
ولذلك لا بد من الاجتهاد لتفسير النصوص أو لاستخلاص واستنباط الأحكام وصياغتها، ولا يجوز للمجتهد الذي يُعمِل الآليات المعلومة كالقياس وغيره أن يقول إنه قد استنبط حكم الله تعالى في الأمر، وإنما يجب أن يقول إنه استنبط الحكم الذي أدى إليه اجتهاده هو، ولم يكن أحد من السابقين الأولين ينسب حكما وصل إليه بنفسه إلي ربه، وهكذا علمهم الرسول، ومجال الاجتهاد إنما هو آيات الكتاب العزيز والمرويات ويمكن الاستئناس بما صحت نسبته إلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومن اتبعوهم بإحسان.
إنه لا يجوز القول بأن القياس هو أصل ديني يُذكر مع كتاب الله تعالى وإنما هو مجرد آلية لاستنباط بعض ما يلزم الناس من أحكام، والحكم الناتج لا يكون أبداً حكما دينيا! وبالطبع لا مجال للقياس لاستنباط حكم هو ثابت أصلا بوجود نصوص محكمة، أو لكونه من فحوى ومقتضيات نصوص محكمة أو أمور دينية ثابتة.

*******


هناك تعليق واحد: