الأربعاء، 18 نوفمبر 2015

نظرات في تاريخ مصر 1

من كتب أ.د. حسني أحمد المتعافي

نظرات في تاريخ مصر 1

إن الوطنية أو حب الوطن والولاء له من أركان منظومة القيم اللازمة لصناعة التقدم والتصدي للمشكلات العظام والتحديات التي تواجه الأمة، ولذلك فلابد من إذكاء وتنمية الشعور الوطني للمصريين، ومن أهم ما يلزم لذلك أن يتلقي كل مصري قدرا كافيا من العلم الواعي والمنهجي بالتاريخ، وليس أضر بالمصري من أن يتلقي معرفة عشوائية ومغرضة بالتاريخ صاغها له أعداء مصر، إن جانبا كبيرا من التشويه الذي أصاب شخصية المصري يعود إلى جهله بتاريخ بلده أو تلقيه معلومات مغرضة أو مغلوطة عنه.
ويجب أولاً العلم بأن مصر هي وطن، وليست قبيلة، وليست سلالة عرقية، فكل من استوطن تلك الأرض المعروفة باسم "مصر" هو مصري، فالمصري هو من اتخذ مصر وطنًا وعاش فيها وانتمي إليها مهما كانت سلالته الأصلية أو دينه أو مذهبه أو لغته أو وطنه الأصلي أو تاريخ مقدمه أو مقدم أجداده إلى مصر، فلا عبرة هنا بعنصر الزمن، وهذا شيء طبيعي لم تنفرد به مصر، ولكن الذي انفردت به هو أنها أقدم وطن ودولة موحدة منذ فجر التاريخ وتقع في قلب العالم.
ومن يشكك في مصرية مصري يعيش فيها من ألف عام أو من مائة عام هو نفسه لا يملك ما يثبت أنه من أحفاد خفرع أو رمسيس الثاني مثلا، ولو كان لديه ما يثبت ذلك لما تغير من الأمر شيء، ولو اكتشف الآن أن جده كان قد أتى مهاجرا إلى مصر من مكان آخر منذ ألف سنة مثلا لما تغير بالنسبة له أي شيء، ولن يعطيه ذلك الحق ليكتسب جنسية المكان الذي أتى منه جده.
ومن المعلوم أنه عندما نشأ الإنسان الأول لم يكن هناك أوطان بالمعنى المفهوم الآن، ولكن فيما بعد بدأ أحفاده ينتشرون في البلدان، ومن المعلوم أن الإنسان نشأ في شرق أفريقيا ومنها انتشر شمالا إلى مصر حيث نشأت وتفرعت بالطفرات سلالات أخرى انتشرت شرقا وغربا، فسكان كل بلد من البلدان المعروفة الآن قدموا إليها في عصرٍ ما من خارجها، لذلك فلا يجوز الخلط بين المفاهيم الآتية:
1.    السلالة الجنسية.
2.    السلالة اللغوية.
3.    الدين أو المذهب.
4.    الوطن.
فهذا الخلط الذي يقع فيه أكثر الناس يسبب ما لا حصر له من المشاكل.
فمصر وطنت واحد منذ فجر التاريخ، يعيش فيها شعب ينتمي إلى سلالات متعددة، أتت أصلا من الشرق الإفريقي وتفرعت في مصر، ومنهم من كانت أصوله من مصر ثم عاد إليها من بعد مثلما هو الحال مع الكثير من سكان الشام والبلقان وجنوب إيطاليا، وأكثر سكان مصر ينتمون إلى السلالة E1b1b1 وهي السلالة التي تفرع منها أصل سكان الشمال الأفريقي وسكان البلقان الأقدمين، يليها السلالة السامية (العربية الإسرائيلية) J1e أو M-267، فهذه هي السلالات الأصلية التي هي موجودة في مصر من قبل التاريخ، وقد أضيف إليها على مدى التاريخ سلالات أخرى من الآري القديم واليوناني والروماني والقوقازي والأفريقي بنسب أصغر من السلالات الرئيسة المذكورة، فهذه هي السبيكة التي تشكل الشعب المصري.
أما السلالة اللغوية فهي الآن اللغة العربية المنتمية إلى السلالة الآسيوية الأفريقية مثلها مثل اللغة المصرية القديمة، والعامية المصرية في الحقيقة هي خليط من العربية ومن اللغة المصرية القديمة.
أما الأديان فحوالي 94% من المصريين مسلمون والباقي مسيحيون ينتمي أغلبيتهم إلى المسيحية الأرثوذكسية المشرقية Oriental Orthodox وهو يختلف عن الأرثوذكسية الرومانية الشرقية Eastern Orthodox، والباقي يعتنقون شتى المذاهب المسيحية الأخرى، وقد اندثر اليهود المصريون، وكانوا واحدة من أعرق التجمعات اليهودية في العالم.  
وبالتالي فمن المضحك والمثير للريبة أيضًا أن يحاول أحدهم نفي أو إثبات أن بناة الأهرام كانوا مصريين، فسواء أجاء هؤلاء من أتلانتا المزعومة أو حتى من المريخ فإنهم قد استوطنوا مصر، فهم مصريون بلا ريب، ولذلك أيضًا فمن المضحك المبكي أن يحاول أحد المصريين نفي مصرية الآخرين أو أن يدعي أنه أكثر مصرية منهم بحكم لغة يتحدثها أو ديانة يعتنقها، فمن المعلوم أن الأديان والمذاهب السائدة بمصر الآن قد أتت إليها من خارجها وإن تأثرت صورتها السائدة في مصر بطبيعة مصر والمصريين، ولو اكتُـشف مثلا أن بعض من يعرفون اللغة المصرية القديمة لا يزالون يعيشون في إحدى الواحات المجهولة فلا يحق لهؤلاء أن يزعموا أنهم أكثر مصرية من المصريين المعاصرين، ولذلك أيضاً لا يجوز نفي مصرية الملكة كليوباترا مثلا أو الملك فاروق أو أحمد شوقي....إلخ، ولكن المشكلة هي في أن بعض المغرضين والمخرفين والأفاقين قد نجحوا في قطع الصلة والحيلولة بين أهل مصر وبين أبطالها وعلمائها وشعرائها والصفوة من أبنائها علي مدي العصور، ولقد كان ذلك عادة لحساب المتسلطين عليها وخاصة الفاشلين منهم مع أنه ليس ثمة ما يثبت أن هؤلاء الفاشلين كانوا من سلالة خوفو مثلا، بل إن كل ما يميزهم أنهم كانوا مجهولي النسب.
ومصر لا تنفرد بكون سلالات شتى هاجرت إليها أو استوطنتها على مدى التاريخ ولا بكون السلالة الحاكمة كانت تنتمي أحياناً لبعض هؤلاء، فدول العالم الكبرى ذات الأهمية القصوى هي كذلك، وموقع مصر في قلب العالم يجعلها تتأثر وتؤثر في كل الأحداث العظمى التي حدثت على مدى التاريخ، فهي بمثابة الذاكرة للحضارة الإنسانية.
إن للمصريين أن يفخروا بكل من استوطن مصر من الصفوة والقادة مهما كان أصلهم العرقي القريب أو البعيد ومهما كانت أوطانهم أو أوطان آبائهم الأصلية، فمصر وطن وليست، قبيلة، وليست سلالة عرقية، ولقد كان المصريون القدماء متعددي الأعراق، وكان يعمل في الجيش المصري في العصر القديم عدة سلالات، ولقد تمَّ تدعيم مصر بشعوب عديدة على مدي التاريخ ولا حرج في ذلك ولا غضاضة، فهذا ما حدث مع كافة الشعوب الحية على مدى التاريخ، والجيش المصري الذي دافع عن مصر ضد الفرس بقيادة نختنبو الثاني من آخر أسرة قديمة كان مكونا من 60 ألف مصري و20 ألف من أصل إغريقي و20 ألف من أصل ليبي (سكان واحات مصر).
أما مقياس الوطنية فمعلوم، ولذلك فإن الطولونيين والإخشيديين والفاطميين والأيوبيين والمماليك ممن استوطنوا مصر وربطوا مصيرهم بها ولا يزال أحفادهم يعيشون فيها هم مصريون بلا شك، وقد حققوا لمصر أمجادا يذكرها التاريخ، وتركوا فيها من الآثار والإنجازات ما يجب أن يفخر به كل مصري، هذا بعكس من حكموا مصر من خارجها كالأمويين والعباسيين والعثمانيين الذين نهبوا خيراتها وامتصوا دماءها.
ولا شك أن شعراء مثل ابن الفارض والبارودي وشوقي ممن كانوا يباهون العالم بمصر هم أكثر وطنية ممن استعبد المصريين وأساء إلي مصر، وإن كانت تلك الإساءة لا تجعل منهم غير مصريين.
ومن بعد كليوباترا التي كانت تحكم إمبراطورية مصرية مستقلة لم تتعرض مصر للاحتلال بالمعنى المفهوم إلا على أيدي الرومان ثم العرب ثم العثمانيين ثم احتلال فرنسي قصير كان موجها أساسا ضد العثمانيين، ثم تعرضت مصر للوقوع تحت سيطرة الإنجليز، ولم يكن ذلك احتلالاً بالمعنى المفهوم، فلم تكن مصر أبدًا كالهند مثلا أو أية مستعمرة أفريقية أخرى، فقد كان لها حكومتها الخاصة مع تبعية شكلية للخلافة العثمانية، ولم يمنعها ذلك من تحقيق إنجازات حضارية عديدة، ثم استقلت بعد ثورة 1919.
وبقاء نفوذ إنجليزي قوي في مصر أو قاعدة عسكرية في القناة لا يعني أبدا أن مصر كانت مستعمرة إنجليزية، فهي لم تكن تدفع الجزية مثلا لإنجلترا، ولم يقم الإنجليز بنهب وتجريف مصر مثلما فعل العرب والعثمانيون.
ولم يخبُ الشعور الوطني عند المصريين بعد الاحتلال الروماني، فازداد تمسكهم بدينهم القديم بكل ما استجد فيه من خرافات، وعندما ظهرت المسيحية كانوا من أوائل من سارع باعتناقها وتحدوا بها الرومان الوثنيين، وتحملوا اضطهادا مريعا، وعندما اعتنق الرومان المسيحية تميز عنهم المصريون بمذهب خاص، وتحدوهم به، وتحملوا اضطهادا أبشع من الاضطهاد الذي لاقوه من الرومان الوثنيين.
ثم العرب إلى أن استقل بها أحمد بن طولون بعد حوالي 254 سنة من السيطرة العربية.
ومن بعد كليوباترا كان أول من استقل بمصر هو أحمد بن طولون، وذلك سنة 254 هـ وأسس فيها دولة كانت أقوى وأغنى من الخلافة العباسية وأصبحت مصر تحُكم لأول مرة منذ كليوباترا من داخلها، وقد أيَّده كل المصريين بكافة طوائفهم، وبلغ من قوته أنه فكَّر في استقدام الخليفة العباسي إلى مصر لتكون مقرا لهذه الخلافة الشكلية، وعندما مرض خرج إلى الصحراء ليدعوا له بالشفاء؛ المسلمون بالقرءان والمسيحيون بالإنجيل واليهود بالتوراة، وهذا يبين مدى قوة الشعور الوطني عندهم.
ثم من بعد الطولونيين استقل بها الإخشيديون ثم الفاطميون الذين جعلوها مقرا لإمبراطورية عظيمة قوية مزدهرة، ثم استقل بها الأيوبيون ثم المماليك الذين حققوا لها أمجادا تضارع الأمجاد الفرعونية بشهادة المؤرخين، ثم تعرضت للاحتلال العثماني البشع، ثم جاء الفرنسيون ولم يستطيعوا الاستقرار أبدا ورحلوا سريعا، ثم استقل بها محمد علي وأسس إمبراطورية مستقلة فعليا كانت أكبر من الإمبراطورية الفرعونية، وكذلك فعل الخديوي إسماعيل.
وكل الحكام والقادة الذين استوطنوا مصر وربطوا مصيرهم بها قد أصبحوا بذلك مصريين، ولم تكن مصر بدعا في ذلك، فهذا هو الذي حدث مع الآخرين، ولكن مصر تتميز بأنها أقدم الأوطان، ولا يجوز لأحد أن يصادر على تاريخها أيام الخديوي إسماعيل مثلا بحجة أن جده لم يكن مصريا (وكأن مصر هي سلالة وليست وطنا)، ولكن مثل هذا الاعتقاد الخاطئ يتضمن الكوارث التالية:
1.        حرمان المصريين من الافتخار بتاريخ هم أولى به ويجب أن يساهم في تزكية مشاعرهم الوطنية، هذا بينما يفخر به غيرهم مثلما تحتفل جمهورية كازاكستان بيبرس سلطان مصر ولا يحتفل بها المصريون، بينما هو واحد من أعظم حكامها على مدى التاريخ، وكان بطلا أسطورياً وقائداً عسكرياً ورجل دولة بارعا في نفس الوقت.
2.        وهذا يؤدي بدلا من الافتخار بالتاريخ إلى تكريس الشعور بالنقص والدونية عند المصريين.
3.        وبينما يفخر الإنجليز بولنجتون الأيرلندي والفرنسيون بنابليون الإيطالي الكورسيكي والأمريكيون بأيزنهاور الهولندي لا يفخر المصريون ببيبرس أو قلاوون أو قايتباي!
4.        تكريس العنصرية لصالح كل من كان مجهول النسب، بينما يحصل المصري المولود في الغرب على جنسية بلد المولد بمجرد ولادته يأبى المصري الاعتراف بمصرية من استوطن مصر منذ 1400 سنة مع أن أجداده قد يكونون منهم!!!!!
والحضارة المصرية القديمة كانت حضارة إبداعية، نشأت هنا في وادي النيل، وليس في أي مكانٍ آخر، ونشأت بمجهود الشعب الذي كان يعيش هنا، وليس في أي مكنٍ آخر، وكان محورها محاولة المصريين القدماء ترويض النيل والسيطرة عليه ومواجهة أخطار الفيضان وترويض الطبيعة التي أرغمت أسلافهم على ترك الواحات على جانبي الوادي -بعد أن انقطعت الأمطار أو أصبحت شديدة الندرة- والنزول إلى الوادي الخطر والممتلئ بالوحوش والمهدد بالفيضانات عندما كان النيل في عنفوانه، وهكذا اكتشفوا الزراعة وتوحدوا، وعاشوا بمعزل عن العالم لآلاف السنين، وساعدهم على ذلك مناعة بلادهم بالنسبة للناس في الزمن القديم (قبل اكتشاف واستعمال الحصان في المنطقة).
فقد عرف المصريون مفهوم الدولة الوطنية منذ آلاف السنين، وكانوا يقدسون بلدهم ويعتبرونها "الأرض"، فقد عاشوا في عزلة لآلاف السنين قبل أن يُجبروا على الاحتكاك بالعالم الخارجي، وباللغة المصرية القديمة كان اسم مصر "طا" بمعنى "الأرض" و"طاوي"، وهو مثنى طا (طء) بمعنى الأرضين أو المصرين، والاسم التوراتي مصرايم هو المثنى العبري لـ "مصر"، أما إضافة "مري" أو "كمت" فهو للوصف فقط، فكلمة "طا-مِري" تعني الأرض التي تحب، وكلمة "طا-كمِت" تعني الأرض السوداء الخضرة الضاربة إلى السواد، ولا يجوز حصر "مصر" في أي اسمٍ منهما، ولاسم "مصر" دلالاته الأخرى في اللسان المصري القديم، ومن الجدير بالذكر أن اللغات السامية واللغة المصرية القديمة فرعان من لغة واحدة.


ولم يتعرض الشعور الوطني لدى المصريين للتدهور إلا بظهور جماعات الإجرام السياسي والاتجار باسم الدين والوهابية.

*******


هناك تعليقان (2):

  1. حب الأوطان فطرة.. تحيا مصر دوما وأبدا.. شكرا أستاذنا القدير، بارك الله فى علمك..

    ردحذف