الأحد، 8 نوفمبر 2015

الاسم الإلهي الشهيـد

الاسم الإلهي الشهيـد 

قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }الحج17  *  {إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً }النساء33  *  {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}فصلت53  *  {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً }الأحزاب55  *  {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقرءان لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ }الأنعام19
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ }آل عمران98  *  {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ }يونس46  *  {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }سبأ47  *  {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }المجادلة6  *  {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }البروج9
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ }الرعد43  *  {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً}النساء79  *  {لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً}النساء166  *  {فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ }يونس29  *  {قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً }الإسراء96  *  {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }العنكبوت52  *  {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }الأحقاف8  *  {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً }الفتح28

فالاسم "الشَهِيد" هو من أسماء النسق الأول من الأسماء الحسنى.

الله تعالى هو الشهيد المطلق والحاضر المطلق لأنه مع كل شيء بذاته وبمنظومات أسمائه وسماته وبملائكته وجنوده وآلاته، لذلك فهو يرى كل شيء في كافة صوره وأطواره وتقلباته؛ فلا يعزب عنه مثقالُ ذرة في السماوات ولا في الأرض، فهو يرى ويطالع الكائنات والوقائع والأحداث وكل شيء من حيث منظومة أسمائه ومن حيث ما خلق من آلات وأدوات فكل ما لديهم من شهادات ماثل عنده حاضر بين يديه.

فهو سبحانه الشهيد لأنه الحاضر المطلق مع كل شيء، قال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(4)} (الحديد)، فكل شيء مشهود له من كافة حيثياته وكيفياته، فهو مشهود له سبحانه من حيث أسماؤه كما أنه مشهود له من حيث مخلوقاته الذين هم آلاته وأدواته، فكل ما يشهدونه في كل حين هو ماثل عنده حاضر لديه، وهو أولى بشهاداتهم منهم، فهو الشهيد لأن لديه الشهادة الحق عن كل أمر، ولذا فكفى به شهيدا على كل شيء، فهو يشهد لعباده المرسلين بالصدق فيما بلغوا عنه، وهو يشهد لكل عبد من عباده ضد من ادَّعوا عليه، وهو يشهد لهم أو  عليهم بما اطَّلع عليه منهم، فشهادته هي الأمر الحاسم في حق أيِّ شخص في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، فهو الشهيد على ما يدور في أعماق الإنسان من خواطر وأفكار ومشاعر ومن وساوس الشيطان.

وشهادته على صدق رسالة من أرسله تـقتضي أن يؤيدَه بالحجج الباهرة والبراهين الساطعة الكافية لهداية كل باحث عن الحقيقة وكل من أراد الهدى بإخلاص وصدق بحيث لا يضل إلا الجاحد المتعنِّت، وقبل كل هذا فهو الذي يشهد لنفسه بما لها من السمات والكمالات والأسماء الحسنى والانفراد بالألوهية، قال تعالى: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(18)} (آل عمران).

إن الله سبحانه هو سبحانه الشهيد المطلق، فله الإحاطة التامة بكل الكائنات في كل أطوارها، بينما يشهد كل كائن بقدر طاقته ووسعه وإمكاناته، ولذا كان الله سبحانه هو الأكبر شهادة فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، فهو الشهيد الحاضر مع كل شيء، فهو حاضر مع المجرة كما هو حاضر مع الذرة، وكل ما هو شهيد عليه مسجلٌ لديه، فذلك الحضور هو ما يجب أن تخشاه النفوس وتنفطر منه القلوب، وهو أيضا الذي يوجب الأنس بالرب الحبيب، كذلك يوجب الحياء منه والتعلق به والإجلال له، ولأنه الشهيد المطلق فكفى به شهيدا ، بيد أنه اتخذ أيضا شهداء من عباده، فثمة عباد له هم الشهداء المعتمدون عنده، وله إذا شاء أن يتخذ من الشهداء ما يشاء حتى أنه ليستشهد بأعضاء الإنسان على الإنسان.

وتبين آيات القرءان أنه سبحانه قد اتخذ شهداء من الملائكة ومن خاصة بنى الإنسان، فهؤلاء هم مظاهر الاسم وآلاته، فالشهادة بالنسبة للإنسان هي مرتبة متميزة من مراتب الصلاح، فهي فوق الصلاح العام ودون الصديقيـة، وقد يجمع الله تعالى لعبد من عباده بين المراتب جميعا، وشهيد الشهداء هو الرسول الأعظم، فهو الشهيد على كل الأمم وعلى الشهداء من كل الأمم، وأمة الإسلام هي الأمة الشهيدة على كل الأمم بمن فيها ممن تحقق بتلك المرتبة إذ لا يمكن أن يكون ثمة شهيد بعد ظهور الإسلام إلا فيها، قال تعالي: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ(78)} (الحج).
*****
إن المتحقق بمقتضيات الاسم الإلهي الشهيد تكون شهادته مقبولة عند ربه، فهو الذي يمكن أن يُرجع إليه بخصوص أمر ما ويمكن أن تعتمد شهادته ويترتب عليها فعل أو حكم أو قضاء، فالشهيد المذكور في الآية السابقة هو من ارتقى إلى مرتبة من مراتب من أنعم الله عليهم وهي الشهادة، قال تعالي:
{وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا(69)} (النساء)، {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} (الحديد: 19).
والفوز بمرتبة الشهادة هو أمر في وسع كل مؤمن بل هو مأمور بأن يسعي إليها، قال تعالي:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} (النساء: 135).
والشهادة كما أنها مرتبة هي أيضا وظيفة منوطة بالرسل والأنبياء والصديقين والصالحين، لابد لهم من العمل بمقتضياتها، وتمام ظهور ذلك وتحققه إنما هو في اليوم العظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين، قال تعالى:
{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ(51)يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ(52)} (غافر)، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ(18)} (هود)، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(17)} (الحج)، {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ(89)} (النحل).
أما المقتول في سبيل الله تعالى فسيحظى لتوه بتلك المرتبة العالية؛ مرتبة الشهادة، حتى ولو لم تكن أعماله السابقة تجعله أهلاً لها، فهو يكون حيًّا عند ربه يُرزق، وهو يحظى بحياة حقيقية في عالم البرزخ، فلقد باع نفسه لله رب العالمين وقبل الله منه نفسه واشتراها منه، ولما كان هو الكريم المطلق فسيعطيه عوضا عنها حياة أبدية تكاد تكون حسية تسمح له بأن يكون من جند الله تعالى وبأن يشارك في كل ما يختص بنصرة دين الحق، فيقوم بتشجيع المجاهدين وبث الرعب في قلوب الكافرين، ويقوم بتثبيت أقدام المقاتلين في سبيل الله تعالى، ويلقى إليهم بالإشارات التي يتلقاها من لدية الاستعداد لقبولها ممن صلح منهم، إن الشهيد المقتول في سبيل الله تعالى يضحي بحياته في سبيل نصرة الحق، ويبيع نفسه لله تعالى، ويفضله بذلك على أهله الذين هم في أمسّ الحاجة إليه، ولذا يتولى الله أمرهم بمعنى أنه يشفعه فيهم، وهذا يعنى أنه يجعله صالحا لإفاضة الخيرات عليهم، والمفيض هو الله، والشهيد هو الأداة، يوصل إليهم ما ينفعهم من النصائح والأمور المعنوية بأي سبيل متاح، ولا تناقض بين ذلك وبين ما قاله سبحانه في الكتاب:
{وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(164)} (الأنعام)، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ(18)} (فاطر)، {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى(38)} (النجم).

فكما ينتفع المرء بما تركه له والده من الثروة المادية فإنه ينتفع بما تركه له من ثروة معنوية، ولذا ينتفع الأبناء بصلاح الآباء، قال تعال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا(82)} (الكهف)، فجعل من صلاح أبيهما سببا فى حفظ الكنز لهما حتى يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما، فليس ثمة من تـناقض بين الآيات، فإن الظروف المادية والمعنوية الأفضل التي يجد المرء نفسه فيها نتيجةً لسعى والده وعمله لن تنفعه إلا إذا كان هو أصلا مهـيئـاً للاستفادة من هذه الظروف ولديه الاستعداد لقبول آثارها، فالولد الذي لديه استعداد جيد مثلا سيستفيد من مال أبيه ويستثمره وينميه، أما من ليس لديه هذا الاستعداد فسيبدد تلك الثروة، فالأمر معلَّق باستعداد المرء وطبيعته وماهيته والتي يترتب عليها سعيه، ولذا فليس للإنسان إلا ما سعى، وما الظروف التي يجد نفسه فيها إلا شروطا  حدية مبدئية محايدة قد تكون في صالحه، وقد تكون وبالاً عليه بغض النظر عن طبيعتها، فرُبَّ إنسان أفسدته كثرة ما لديه من مال ورُبَّ إنسان أصلحه لذلك، فالأمر منوط بسعي الإنسان المترتِّـب على ما لديه من استعداد، والميراث المعنوي ليس كالميراث المادي الذي يقسم بين  الأبناء بنسب محددة ومعلومة، فلن يرث أخلاق الوالد واهتماماته وعلومه وصلاحه إلا من كان لديه الاستعداد لذلك، وربما ورث عنه ذلك من لا يعرفه، أما الآية القائلة: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ(21)} ( الطور)، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(38)} (المدثر)، فإنها تنص على قانون آخر من قوانين الوجود، وهو أن كل إنسان إنما هو رهين بآثار أعماله الاختيارية، فمصيره معلق بها ومترتِّـب عليها.

فالله سبحانه هو الشهيد المطلق الذي يشهد لكل مخلوق بما هو له وبما هو عليه, وهو يرتب علي ما شهد من عباده الآثار اللازمة وفقا لما لديه من القوانين والسنن, فهو الشهيد من حيث هذا الاسم ومن حيث آلاته وهم الشهداء ذوو الشهادة المعتمدة لديه والمقبولة بإذنه وعلي رأسهم الملائكة والرسل وأولو العلم, ويرتفع تواً إلي تلك المرتبة من قتل في سبيل الله تعالي مهما كان عمله قبل مقتله، ولا يشترط أن يكون ذلك في موقعة حربية فمن جهر بكلمة الحق مثلا لإعلاء كلمة الله تعالي أو لإقامة القسط أو لقول الحق أو لدرء الظلم في حضرة متسلط جائر فقتله فهو شهيد, ومن كان يحاول إنقاذ مستضعف يتعرض لعدوان فقتل فهو شهيد، فكل من قتل دفاعا عن حق إنسان أو كرامته فهو شهيد، وكذلك كل من قتل دفاعا عن شأن من شؤون الدين مثل أوامره أو أركانه أو سننه أو قيمه.

*******


هناك تعليق واحد: