الخميس، 5 نوفمبر 2015

مروية "ما يُكتب للإنسان وهو في بطن أمه"

مروية "ما يُكتب للإنسان وهو في بطن أمه"

ورد في صحيح البخاري:
[ 7016 ] حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا الأعمش سمعت زيد بن وهب سمعت عبد الله بن مسعود رضى الله تعالى عنه يقول حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما وأربعين ليلة ثم يكون علقة مثله ثم يكون مضغة مثله ثم يبعث إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ثم ينفخ فيه الروح فإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكن بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل الجنة فيدخلها
وجاء في صحيح مسلم:
12 - (112) حدثنا قتيبة بن سعيد. حدثنا يعقوب (يعني ابن عبدالرحمن القاري) عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي؛
 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة، فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار. وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار، فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة".
7 - (2647) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وأبو سعيد الأشج. قالوا: حدثنا وكيع. ح وحدثنا ابن نمير. حدثنا أبي. حدثنا الأعمش. ح وحدثنا أبو كريب (واللفظ له). حدثنا أبو معاوية. حدثنا الأعمش عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي. قال:
 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالسا وفي يده عود ينكت به. فرفع رأسه فقال "ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار". قالوا: يا رسول الله! فلم نعمل؟ أفلا نتكل؟ قال "لا. اعملوا. فكل ميسر لما خلق له". ثم قرأ {فأما من أعطى واتقى* وصدق بالحسنى* إلى قوله فسنيسره للعسرى} [92 /الليل /5 -10].

ولقد ردّ هذه المروية أناس كثيرون قديما وحديثا حتى قال أحدهم: لو سمعت رسول الله يقول هذا لرددته، وذلك لظنهم أن المروية نص في الجبر، ومع ذلك فالمروية تشير إلي أصل حقيقي قاله الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، والذي دفعهم إلى سوء التأويل ورد المروية هو جهلهم بالإطار العام لدين الحق والذي يتضمن أيضا مهام الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بالنسبة إلي قومه، فالحديث الأصلي كان يقصد إلي تزكية الناس وهي من مهامه وذلك حتى لا يأمنوا مكر أنفسهم ولا مكر الشيطان بهم ولا يركنوا إلي أعمالهم وإنجازاتهم.
وسبق الكتاب علي الإنسان لا يعني جبرا أو إكراها ولكنه يعبر عن صدق التقدير المدوَّن في كتابه المعلوم أي صدق العلم الأولي السابق المترتب علي إدراك تام لحقيقة الكيان الأصلي الجوهري وعلي مدي تأثره بالشروط المبدئية والحدية أي بالظروف المحيطة به والتي يحيط بها العلم أيضا هذا فضلا عن الإحاطة التامة بالقوانين والسنن التي قدرها الله تعالي أصلا، لكل ذلك فإن العلم الذي لدى الحق سبحانه عن أمر ما هو الحق مهما كانت الظواهر التي يراها الناس، والحديث لا ينص على أنه لا جدوى من العمل ولكنه يبين أنه غير كافٍ وأنه لا يجوز الانخداع به أو الاكتفاء به، والنصوص الأخرى من الآيات والأحاديث الحقيقية تبين لماذا هو كذلك، ولكن الذي حدث هو أن أهل الجبرية الصريحة والمقنعة مثل أهل السنة أساءوا تأويل الأحاديث لتتفق مع عقيدتهم الجبرية وعقيدتهم في نفي السببية مما دفع أهل المذاهب الأخرى إلي رد المروية وهذا يتضمن أيضا تسليمهم بصحة تأويل أهل السنة للمروية.
ومن الواضح أن مروية البخاري لم تورد عبارة "فيما يبدو للناس" فضاعفت من حجم الإشكال واللبس، وبتصحيح الأمر يستقيم المعنى، فليس لدى الناس معرفة بحقائق الأمور، ولذلك أعلن الله تعالى أنه هو الذي سيكون له الحكم البات والفصل بين الناس، فعلى الإنسان أن يضع ثقته في الله تعالى الذي هو الحق المبين وخير الحاكمين.
والتحليل السابق يبين أنه لا يجوز المبادرة برد مروية ما، فمن وجد أنها تناقض أمراً دينياً ثابتاً عنده فهو غير ملزم باتخاذ موقف تجاهها ولكن عليه ألا يبادر بردها وليتركها للمتخصصين إلا إذا كانت تعارض مفردة من مفردات الدين أو عنصرا من عناصره بطريقة قطعية فعليه عندها أن يعتصم بكتاب الله تعالي؛ فذلك الاعتصام هو ركن من أركان الدين.
ويجب مع كل ذلك إدراك أن العديد من المرويات المتعلقة بالمصير الإنساني قد تم تحريفها عمدا لتجعل العقيدة الجبرية هي عقيدة الإسلام.
-------
إن المروية المتعلقة بما يكتبه الملَك للإنسان وهو في بطن أمه من رزق وأجل وعمل ومصير وأنه قد يعمل بعمل أهل النار أكثر حياته ثم يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها هي مروية لها اصل صحيح صدر عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، وهى ليست نصا في الجبر أو الإكراه كما يظن الذين أنكروها، وإنما هي تبين طبيعة التقدير، فالتقدير المنسوب إلى الله تعالى هو حق وصدق ولابد من تحققه، وهو يدوَّن أو يكتب إجمالا بمجرد اكتمال البنيان الأولىّ للإنسان، فهذا التقدير من مقتضيات ولوازم الكمال الإلهي، ومن لوازم هذا الكمال أن الإنسان رغم تضمن ماهيته جانبا عشوائيا Random وجانبا شواشيا Chaotic، ورغم أنه أعطى الاختيار والإرادة الحرة لابد أن يصدق عليه ما سبق أن علمه الله عنه وتوقعه له أو قدره له، فالحق سبحانه لن يسوق الإنسان إلى ما قدره له أو عليه وإنما سيعطيه المجال والفرصة ليعمل ويختار ويمارس مقتضيات إرادته الحرة فيصدق عليه كل ما سبق العلم به، وهذا أبلغ في الدلالة على كمال السمات الإلهية.
كما تبين المروية حقيقة فعل الكتابة المنسوب إلى الله تعالى، فالأمر المكتوب المنسوب إلى الله له أنواع عديدة منها:
1.     الأمر الذي وجب تحققه ولا يمكن دفعه أو تغييره، والأمور المكتوبة هي مقتضيات تحقق المقاصد الوجودية وسريان القوانين والسنن الإلهية وتحقق الكلمات الإلهية، ومن ذلك وجود إنسان معين وحتمية موته وبعثه، وهذه أمور لا يحاسب الإنسان عليها.
2.     الأمر الذي وجب تحققه في الدنيا أو في الآخرة نتيجة أعمال الكيان الإنساني السابقة، ومن ذلك مثلا ما كُتِب على أبي لهب بعد موقفه من الرسول أو ما كُتِب على أقوام الرسل نتيجة رفضهم الرسالات وتماديهم في الكفر والإجرام.
3.     الشرائع الملزمة التي يجب على الإنسان العمل بمقتضاها لتحقيق المقاصد الدينية، ومنها السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة.
والمروية تبين للناس أن التقدير الإلهي حق مهما بدا خلاف ذلك للناس، والذي عاش يعمل بعمل أهل النار ربما كان قد نشأ في بيئة خبيثة فتبنَّى معتقداتهم وآراءهم وأسلوبهم في الحياة ولكنه كان بالأصالة طيب المعدن نقى السريرة فظل شيءٌ ما في باطنه يؤرقه وينفره من حياته وأخذت توسلاته الباطنية للخلاص مما هو فيه تتعالى وتتصاعد فاقتضت السنن أن تدبَّر له وسيلة لمعرفة الحق وللتوبة النصوح فقبلت توبته فقبلها منه من وسع كل شيء رحمة وعلما فعمل بعمل أهل الجنة فنجا وفاز، فالحديث الأصلي هو نص في صدق التقدير وكمال العلم وهو يبين للناس أن أبواب الرحمة مفتوحة للناس كافة وأنه يجب أن لا يصد الإنسان عنها خجله مما كان عليه من المعاصي، والجزء الباقي من الحديث يحذر الناس من شر أنفسهم وكيدها ومكرها ويبين للناس أيضا صدق التقدير الإلهي الأولى، والحالة الأخرى المذكورة تعنى أنه ربما ينشأ إنسان في بيئة طيبة فعاش يعمل عملاً صالحا فيما يبدو للناس ولكن كان ثمة نقص خفي في ذاته أورثه كبراً وغروراً وعجبا وظل هذا النقص يستفحل ويتغذى بآثار الأعمال المترتبة عليه إلى أن ران على قلب الإنسان تلك الآثار حتى حرمته تماماً من الانتفاع بعمله وعندها ستصير أعمال الإنسان محض رياء سيدفع الإنسان إلى الشرك من فرط إعجابه بنفسه أو طلبه لرضا الناس، ولقد ضل إبليس الذي كان يعيش مع الملائكة ويعمل بعملهم لفرط افتتانه بنفسه.
ومصير الإنسان يظل منظورا فيه إلى أن يُكتب، واللحظة التي تتحقق فيها هذه الكتابة هي عادة قبل بدء احتضاره واشتداد إحساسه بالعالم الآخر، وهناك بالطبع من يتحدد مصيره قبل ذلك فيُكتب، أما العلم الإلهي فله الإحاطة التامة بكل شيء دخل في مجاله، وهو يتعلق بالأمر على ما هو عليه، والإنسان يُحاسب على المعلومة الظاهرة المتحققة وليس المعلومة المقدرة، ومما يسبب اللبس في هذه القضية:
1.     أن كلمة "علم" تُستعمل للإشارة إلى السمة الإلهية كما تُستعمل أيضا للدلالة على المعلومة.
2.     أن الناس لا تفقه نسبية الزمان وتحاول تقييد الله تعالى بزمان هذا العالم المخلوق.
ولذلك يجب العلم بأن الله تعالى يدبر أمر كل عالم ويصرف آياته فيه وفق نسق السنن الإلهية الكونية الذي أوحاه فيه، وباستعمال ما خلقه من الكائنات، ومن حيث هذه الكائنات، ومنهم الملائكة والجنود بكافة أنواعهم.

*******


هناك تعليق واحد: