الخميس، 26 نوفمبر 2015

الكوميديا الأشعرية

الكوميديا الأشعرية

يتصور الأشاعرة وكثير من أهل السنة أنه في لحظة موغلة في القدم اسمها الأزل كان لدي الإله بطريقةٍ ما كل البشر، وكانوا كلهم سواء فأكسب كل واحد منهم ما شاء أن يضفي عليه من الصفات وكتب على كل ما واحد منهم قصة حياته كاملة وحدد له مصيره، فلما خلقهم كان على كل واحد منهم أن يسلك وفق ما كتب عليه وأن يذهب إلى مصيره المقرر مهما حاول، ولا ظلم في ذلك فالملك ملكه له أن يتصرف فيه كيف يشاء.
وقد كان هناك داران؛ واحدة اسمها الجنة، والأخرى اسمها جهنم، فجعل إحداهما دار تنعيم والأخرى دار تعذيب، ولو شاء لعكس الأمر، وأنه أمر إبليس بالسجود لآدم بمحض المشيئة ولو شاء لعكس الأمر.
أما الأعمال التي يمكن أن تصدر عن الإنسان فقد اصطفت أمامه فأضفي بمحض (المشيئة) على كل عمل صفته من الحسن أو القبح فجعل العدل حسنا والظلم قبيحا، وكذلك جعل الصدق حسنا والكذب قبيحا، ولو شاء لعكس الأمر، كما أنه لو شاء لجعل كل الناس يحبون الكذب والظلم والشر ويشمئزون من الصدق والعدل والخير، وأنه خلق الكون لا لحكمة وإلا لكانت الحكمة حاكمة عليه، وأنه عندما خلق الجن والإنس لعبادته فإنه لم يخلقهم بالفعل لعبادته فاللام المذكورة في الآية ليست لام التعليل المعروفة لغويا ولكنها لام الجعل وإلا فإنه يكون مستكملا لألوهيته بعبادتهم له، وقد يقول أحد المحتجين لو كانت هذه لام الجعل التي لم يسمع بها أحد من قبل لعبده كل الناس ولم يتخلف منهم أحد، أما المتصوفة الأشاعرة فقالوا بالفعل إنهم كلهم يعبدونه بالفعل ولو عبدوا ظاهرا أي شيء من دونه، فمن يعبد الوثن ما عبده لأنه مجرد حجر منحوت وإنما عبد صفات الألوهية فيه، ولذلك فمن عبد إنسانا أو نبيا أفضل ممن عبد وثنا، وأفضلهم من عبده في كل شيء ولم يتقيد باعتقاد ما، فالاختلاف هو في الدرجة وليس في النوع، وبالتالي لم يكن عبدة الأوثان مخطئين، وأنهم كانوا أفضل إدراكا للأمر ممن أُرسلوا إليهم من النبيين.
واستكمالا للصورة الأشعرية فإنه يلزم القول أيضا بأن كل الأشياء كانت لديه سبحانه سواء، ولقد اصطفت كل الأشياء أمامه في الأزل فاختار لبعضها أن يكون بشرا وللآخر أن يكون من الدواب الأخرى، ولو شاء لعكس، ولقد كرم بني آدم وحملهم في البر والبحر، ولو شاء لكرَّم بني أسد أو بني هرّ مثلا ولحمَّلهم الأمانة.
فتلك الكوميديا الأشعرية باطلة تماما، وهي مرتكزة على مجموعة من الأسس الخاطئة، فهم يتصورون للأشياء وجودا قبل وجودها أو وجودا قبل ماهياتها، وهذا هو عين الشرك، ويتصورون أن المشيئة هي أمر عشوائي اعتباطي محض، ولا يعلمون معنى الشيء ولا معنى القدرة على الشيء، ولا يرتكزون إلى أية أدلة شرعية أو لغوية أو منطقية ويكفرون بكثير من الأسماء الحسنى ولا يدركون حقيقة تنزه الإله عن الزمان وإحاطته به ويقولون دون أن يشعروا بتعدد القدماء وقد كان الله ولا شيء معه، وهم متأثرون بمنطق وفلسفة أرسطو الذي كان يظن أن الإله قد أنجز كل عمله في لحظة ما ثم ترك الأمور تمضي وفق ما قرره لها، وهم لا يدركون حقيقة نسبية الزمان، وهم ينكرون المقاصد الوجودية والدينية، ومن الواضح أن الشطط الذي وقع فيه بعض المتصوفة كان لأنهم استخرجوا من المذهب الأشعري نتائجه اللازمة وتمثلوها وعملوا على تذوقها وتأصيلها والتعايش معها.
والأشعرية يفرون دائما من البت في المشكلة المعروضة ويحاولون دائما تحويل الأمر إلى بحث في طبيعة الذات الإلهية أو في أي أمر فلسفي آخر، وهكذا حولوا البحث في طبيعة القرءان وفي مشكلة الحرية الإنسانية إلى بحث في طبيعة الذات الإلهية، كما حولوا البحث في أمر المقاصد من الأوامر الشرعية إلى بحث في طبيعة وتعريف العلة الغائية وجعلوا كل همهم نفي هذه العلة عن الذات الإلهية، وكان يكفيهم القول بأن نسبة الألفاظ إلي الله ليس كنسبتها إلى غيره وأنه يجب التأدب معه عند استعمال الألفاظ الشائعة وعند تسمية الأحرف المتصلة بما هو منسوب إليه من الشئون، فبدلا من تسميتها بلام التعليل فلتسمَّ مثلا بلام بيان القصد أو الحكمة، أما الألفاظ فلا يمكن أن تكون دلالاتها عندما تنسب إليه كدلالاتها العادية، فالأظرف الزمكانية عندما تنسب إليه تتنزه عن معانيها الدارجة وتكتسب معاني جديدة، ذلك لأنه ليس كمثل ذاته أو كيانه شيء، لذلك فحرف "في" مثلاً في الآيات الآتية ليست له أبداً أية دلالة مكانية: {وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ }الأنعام3، { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ{16} أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ{17}}الملك.

والأشاعرة نفوا "الظلم" عن الله تعالى طبقا لمفهومهم هم عن الظلم وليس طبقا للمفهوم القرءاني عنه، ولذلك لم يجعلوا إلقاء المؤمنين في النار يوم القيامة ظلما

ليس من حق أحد أن (يفتّ) في الأمور الإيمانية! والسادة الأشاعرة حولوا أكثر الإيمانيات إلى "فتَّة"، ولذلك تغلب عليهم السلفية بسهولة. 
*******

ويقول الأشعرية: "إنه لا يجوز القول بأن الله يفعل لحكمة وإلا لكانت الحكمة حاكمة عليه ولكن يجب القول بأن أفعاله هي عين الحكمة".
وهذا القول يتضمن تصور أن الحكمة هي أمر مغاير له سبحانه، وأن لها وجودا بطريقةٍ ما مستقلا عنه سبحانه، والحق هو أنه لا يجوز المقارنة أصلا بين ذات وبين سمة من سماتها، فالمقارنة تكون بين سمة وأخرى، أو بين ذاتٍ وذات، والحكمة هي من لوازم الحقيقية الإلهية، ومنظومة أسماء الحكمة تتضمن أسماء تشير إلى سمة الحكمة، هذه المنظومة هي من لوازم الذات الإلهية، فمن يدبر الأمر يفصل الآيات ويتصرف بمقتضى حقيقته لا يكون محكوما عليه ولا مكرها على فعله، فالحكمة سارية في كل أفعاله سبحانه، ومنظومة سمة الحكمة تتضمن الأسماء:
الحكيم العليم، الحكيم الخبير، الحكيم الحميد، العزيز الحكيم، العلي الحكيم، العليم الحكيم، العلي الحكيم، التواب الحكيم، الواسع الحكيم، الحكيم (أحكم الحاكمين، خير الحاكمين).
ويقول الأشعرية إنه لا يجوز القول بأن الله يحيي الأرض بالماء –رغم ما يقوله القرءان- وإنما يجب القول بأنه يحيي الأرض عند وجود الماء، وذلك لأنه قادر على إحيائها بغيره، كل ما في الأمر أنه عوَّد عباده على أن إحياء الأرض مقترن بنزول الماء عليها، فهو اقتران عادي وليس اقترانا سببيا.
وبالطبع لم تكن المسألة أبدا هي الجدل في مجال قدرة الله، ولم يُطالب الله تعالى عباده بالنظر في ذلك، وإنما أمرهم بالبحث في آياته الكونية للتعرف على سننه فيها، ولو فعلوا ما أمرهم به لكان لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا.
أما موقفهم من السببية فقد تسبب في إبعاد هذه الأمة عن العمل بالكثير من الأوامر القرءانية، وهم فيها انحازوا إلى سمة القدرة على حساب سمة الحكمة، بل تجاهلوا تماما منظومة أسماء الحكمة، وبالتالي فقد جعلوا الناس يحجمون عن سلوك الطريق الذي هم مأمورون بسلوكه وهو استعمال ملكاتهم للنظر في آيات الله الكونية والكتابية لكي يغرقوا في عالم ضبابي حالم من الخزعبلات والخرافات، وبالتالي لم يكن غريبا أن تم القضاء تماما على عمليات البحث والتفكير العلمي في العالم العربي الإسلامي بعد أن سادها المذهب الأشعري.
ويقول الأشاعرة أنه كان من الممكن أن يجعل جهنم دارا للفضل وأن يجعل الجنة دارا للعدل ... الخ، وهم بذلك يتصورون أن الجنة والنار كان لهما وجود قبل وجودهما وأنه علق على إحداهما لافتة: "هذه دار الفضل" فكانت دار الفضل، وعلى الأخرى لافتة أخرى: "هذه دار العدل" فكانت دار العدل، ولو شاء لعكس الأمر، فهم يتخيلون أن المشيئة أمر عشوائي محض!

إن الأشاعرة تفوقوا على دانتي صاحب الكوميديا الإلهية وسبقوه بكثير!
*******

هناك تعليق واحد: