السبت، 15 أغسطس 2015

الإسراء 16-17

الإسراء 16-17

الإسراء 16-17

وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)

إنه دائما يجب فقه الآيات في سياق كل الآيات التي تعالج نفس الموضوع مع عدم إهمال أية آية، والناس في تفسير الآية 16 يتجاهلون حتى الآية التالية لها! فيوقعون أنفسهم في مشاكل لا حصر لها!
والموضوع هنا هو سنة كونية تحدد متى يتم إهلاك الكيانات الإنسانية الكبيرة مثل القرى والقرون والأقوام، وثمة آيات أخرى تتحدث عن نفس المسألة، قال تعالى:
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)} هود، {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) الأنعام، وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)} الكهف، {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)} الحج، {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)} الأعراف، {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208)}، {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)} القصص، وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31)} العنكبوت، {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (6)} الأنعام، {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)} الأنعام، {كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)} الأنفال، {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)} يونس، {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)} الدخان، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)} الأحقاف، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)} الحاقة.  
فالآيات تقرر أن إهلاك القرى والقرون والأقوام لا يتم أبدا عبثا، وإنما يتم كنتيجة طبيعية لأفعالهم التي أصروا عليها وتمادوا فيها، ومن هذه الأفعال: الظلم، الكفر، الشرك، الإجرام، الفسق، اقتراف الفواحش، ... الخ، فمن أراد أن يعرف أسباب هلاك الكيانات الإنسانية الكبرى فليقرأ ما ورد في القرءان عمَّن أُهلكوا وعن أفعالهم مثل قوم نوح وعاد وثمود ولوط وشعيب وآل فرعون، فهم يمثلون كل الأنماط المفضية إلى الهلاك كما يفضي السبب إلى النتيجة في القانون العلمي.
ولابد قبل الإهلاك من إرسال الرسل أو النذر، ومن بعد ختم النبوة فقد أصبحت هذه من مهام من أورثوا الكتاب.
ويلاحظ أن الآية 17 قد خُتمت بالمثنى "الخبير البصير"، وهو يشير إلى ما لدى الله تعالى من خبرة وعلم ببواطن الأمور فضلا عن كونه حاضرا مع عباده يرى ما يفعلون، فبذلك يتأكد بذلك أن سبب هلاكهم وهو ذنوبهم كافٍ تماما، وعلى الإنسان أن يؤمن بأسماء ربه الحسنى وسماته العليا وأن يثق في حقانيته وحكمته.
-------
توضح الآية سنة من السنن التي يجري وفقها انهيار الحضارات وهلاك الأمم، فكل أمة أخرجت للناس إنما تعلو وتسود بما أوتيت من قيم وأفكار جديدة وقوى دافعة وبما أوتيت من متانة البنيان النفسي والاجتماعي وقوة الصلات وشدة الروابط بين مكوناتها، وكذلك من الثقل الأمري المعنوي، ثم تأتى أجيال جديدة لتجنى ثمار كفاح آبائهم الأولين، وسرعان ما يصبح الترف غاية في حد ذاته، فينبذ الخلف منظومات القيم والسنن التي ساد بالاستناد إليها السلف وبنوا مجدهم وحضارتهم، ثم يعبدون الأشياء ويتنافسون في اقتنائها والاستحواذ عليها، ويبددون ما لديهم من طاقات وملكات فيما لا نفع فيه ولا طائل من ورائه، وتتحول منظومات العقائد والقيم والسنن التي شحذت همم الآباء وأحيت موات نفوسهم إلي مجال للجدل العقيم والحرفية والأمور الشكلية، ويصبح العلم بها حكرا على طائفة خاصة، ويُهمل أمر العامة ولا يشركون في أي أمر ويأكلهم المتسلطون عليهم أكل الوحوش ويرتعون في أموالهم ويعتبرون كل ما لديهم ملكا خاصا لهم وتندثر فرائض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلي الخير والتواصي بالحق، فيضج العالم من ظلم المتسلطين وبغيهم، وترتفع المظالم إلى عنان السماء، ويخون الخاصة الأمانة الملقاة على عاتقهم، فبدلا من أن يكونوا أدوات لشحذ الهمم ونشر العلم والنور والحفاظ على القيم فإنهم يتحولون إلى سدنة للمتسلطين على الأمر يزينون لهم طغيانهم ويباركون مظالمهم ويوطنون الناس على الخضوع المطلق لهم ويكفرون من انتقدهم ويسنون ما يلزم من الشرائع والقوانين التي تمكن المتسلطين من الفتك بكل من يحاول التصدي لمظالمهم ويضعون الآليات الكفيلة بإبقاء الأمور على ما هي عليه وهم يحسبون أن الله غافل عما يفعلون، ولكن هيهات، فإنه بمقتضى القوانين والسنن التي هي من لوازم ومظاهر الإرادة والأمر الإلهي تبدأ مرحلة الهلاك الفعلي والدمار لتلك الأمة بعد أن يتجاوز فسادها حدا معلوما وبعد أن يكتب عليها ذلك.
والتعبير (أمرنا مترفيها ففسقوا فيها) هو كمثل التعبير: (يضل من يشاء) فهو لم يأمرهم ففسقوا ولم يضلهم فضلوا؛ أي إنه لم يكره هؤلاء على الضلال ولا أولئك على الفسق، وهو سبحانه لا يأمر بالفحشاء والمنكر والفسق بل ينهي عنهم، وإنما كان الأمر بمقتضى قوانينه وسننه، فلقد أعطاهم الإرادة والاختيار فاختاروا الفسق والضلال لفساد أنفسهم، فإذا تجاوز ذلك حدا معلوما يصبح محتما تدميرهم، ويعنى هذا التعبير أن يصبح القائمون على الأمر في كل مجال من المترفين، والمراد الأمر بمفهومه العام بمعنى أن يصبح الترف مطلبا عاما ثم صفة لازمة لكل قائم على أمر، وهذا يعنى أن يصبح كل خاصة الأمة من المتنافسين في الترف وعبادة الأشياء وطلب المتعة للمتعة.
إن الله تعالى يريد الخير لعباده، لذلك لا يأمرهم إلا بما يؤدى إلى صلاحهم ونجاتهم وفوزهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، فهو يأمر بكل خير وينهى عن كل شر وإذا أراد أن يهلك قرية استحقت الهلاك طبقا للقوانين والسنن التي هي من مقتضيات العدل والقسط وسائر صفاته العليا فإنما يدبر الأمر بحيث يكشف لمترفيهم مدى ازدرائهم للأوامر الشرعية ومدى تنافسهم في الفسوق والعصيان والإفساد، وما ذلك إلا من مقتضيات طبائعهم وفساد قلوبهم، وبسفههم وإفسادهم يكتمل النصاب اللازم لكي يُقضى على تلك القرية بالهلاك طبقا للسنن فيقضى عليهم بأن يدمروا فيتحقق ذلك إذ لا راد لقضاء الله ولا معقب لحكمه، فهو يبين هنا أسلوبه في العمل حتى يأخذ الناس حذرهم، فإذا ما رأوا مترفيهم وقد شرعوا في الفساد والفسق فليعلموا أنه بذلك يوشك أن يحق عيهم القول فليأخذوا على أيديهم حتى لا يهلكوا جميعا.
-------
إن الله سبحانه لم يرد إهلاك القرى عبثا، فهو لا يخلق شيئا عبثا ولا يقضى في أمرٍ ما عبثا، بل كل شيء عنده بالحق والميزان وبمقدار، وهو لا يعذب قرية إلا إذا بعث فيها رسولا، فلابد أنها كانت ملزمة برسالةٍ ما ولكنها كفرت بها، ولم تقم بمقتضياتها بل بما هو مضاد لها، وتمادت في ذلك إلي أن بلغت أعمالها وما ترتب عليها من آثار حدا اقتضى ليس أن يعذبوا فقط ولكن أن يهلكوا، فالإرادة ليست بالأمر الاعتباطي ولكنها فعل يترتب على مقتضيات كل منظومة الأسماء الحسنى من قوانين وسنن، ولكن وفقا لتلك القوانين لابد من سبب مباشر، لذلك ستصل إنذارات وأوامر إلى الملأ منهم المتسلطين عليهم عبر طرق ووسائل عديدة ولكنهم سيتمادون في ترفهم والذي يتضمن عبادة الأشياء والمتع الدنيوية وطلبها لذاتها والتفنن والتعمق فيها فسيقابلون الأوامر الشرعية بالتمادي في تحديها والعمل بما يضادها وهذا هو الفسق، وعندئذ يبلغ النصاب أجله فيقضى في أمرهم ويحق عليهم القول فيحيق بها الدمار، وهذا الدمار هو رحمة بهم لئلا يتمادوا في فسقهم وضلالهم!! إذ أنه قد حق القول عليهم بمعنى أنه لم يعد ثمة سبيل إلى إصلاحهم فقد ختم تماما على قلوبهم، وهذا الختم هو النتيجة الطبيعية لمحصلة أفعالهم الاختيارية، فعند ذلك يكون إهلاكهم رحمة بسائر الإنسانية كما تقتضي مصلحة الإنسان بتر العضو الفاسد الذي لا يرجي شفاؤه حتى لا يؤدى إلى إهلاك سائر الجسم أو كما تقتضي مصلحة الناس إزالة صخرة كبيرة من طريقهم أو كما يكون من مصلحة البشرية أن تأخذ العظة والعبرة مما حدث لقوم اشتهروا باقتراف أنواع معينة من الفواحش والمفاسد.
-------
إن من حق عليهم القول من أهل القرى هم من بلغت خطاياهم حدا استوجب هلاكهم فحُكِم عليهم بذلك، والأمر يتم وفق السنن، ولابد من كثرة مترفيهم ومن أن يوسد فيهم الأمر، وفسقهم هو العمل النهائي اللازم لإخراجهم من دائرة الإمهال ولترجيح كفة هلاكهم واستبعاد أية إمكانية لنجاتهم، فوجود المترفين وكثرتهم ليس في صالح أية أمة، ذلك لأن الحياة ينبغي أن تؤخذ بالجدية اللازمة وبالعزيمة الماضية، فالإنسان أعلى من الأشياء فلا ينبغي أن ينشغل بها أو أن يطلبها لذاتها، فالمترف يعشق الوسائل والأشياء التي سخرت له ويجعل منها غايات يقتنيها ويحرص عليها،  وكذلك يتعلق بالملذات ويطلبها لذاتها ويتفنن فيها، فيستعبد بكل ذلك لما هو دونه، وينسى بذلك مقاصد الدين العظمى التي بها نجاته وسعادته، وينسى ربه الذي يستمد منه أسباب بقائه فيقطع بذلك على نفسه أسباب حياته ووجوده.
-------
إن الله تعالى لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا، وهو مَا كَانَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ، وهو في هذه الآية إنما يبين سننه في إهلاك الأمم التي حقَّ عليها الهلاك بمقتضى السنن.
ومشكلة الناس في فقه هذه الآية هي في ظنهم أن الإرادة الإلهية كإرادتهم التي يغلب عليها الهوى، أو في ظنهم أنها أمر عشوائي اعتباطي، وهم بذلك يسيئون إلى ربهم.
والحق هو أن الإرادة الكونية التي يترتب عليها الفعل والإنجاز والتنفيذ هي مقتضى كل منظومة الأسماء الحسنى، فأسمى الصفات والقيم سارية فيها، فكل ما أراده الله تعالى حق وعدل، وهو لا يريد إهلاك قرية إلا من بعد أن تتجاوز أعمالهم السيئة حدا معلوما يجعل منهم خطرا على البشرية وعقبة كؤود في سبيلها، وكونه يأمر مترفيها هو ككونه يُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فهو لا يقتص من ظالم بمؤمن طيب وإنما بظالم مثله لا تأخذه به رأفة، وعندما يعقد قومٌ ما العزم على التمادي في الكفر ويتفاخرون بذلك فإنه يستدرجهم إلى ما فيه هلاكهم ويمد لهم مدا، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذهم بغتة.
وكما سبق القول لا ظلم في ذلك، فالعدل والحق والرحمة متحققون في كل أمرٍ أراده.

*******



هناك تعليق واحد: