الجمعة، 14 أغسطس 2015

الأنفال 55 إلى 58

سورة الأنفال 55 إلى 58

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)

في الميزان الإلهي فإن شَرَّ الدَّوَابِّ هم الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، فهم المصرون على الكفر المعتصمون به والعاملون بمقتضاه، وهم الذين يسري كفرهم في أعمالهم فيعملون على إلحاق الأذى بالمؤمنين والعمل على استئصالهم، وهم لا يراعون عهدا ولا يرقبون في مؤمن إلَّا ولا ذمة.
والدابة هي كل ما يدب على الأرض من الكائنات بما فيها البشر، والتعبير المستعمل في الآية يشير إلى أنهم شر الدواب مطلقا وليس شر الناس أو البشر فقط، وذلك أمر بديهي، فالدواب من غير الإنسان لا تتصرف إلا بحكم الضرورة وبما يكفي لبقائها وبقاء نوعها، أما الذين كفروا فقد اختاروا بمحض إرادتهم أن يكونوا محض شر.
وقد قال الله في آية سابقة في نفس السورة: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)}
والكلام في هذه الآية هو فيما يتعلق بالكيان الجوهري، فمن هذه الحيثية لا مجاز، فشر الدواب بالميزان الحقيقي هم الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ، فهم لذلك لا يسمعون نداء الحق ولا يعقلونه ولا ينطقون به، فلا أمل في أن تتحسن أحوالهم، أما بالنسبة لمن لا علم لهم بالكيان الإنساني الجوهري ويريدون التمسك بالمعاني المألوفة للمفردات اللغوية فلهم أن يعتبروا الكلام مجازيا.
والآيتان 22 و55 متكاملتان، فالعبرة بالحالة على المستوى الجوهري، ومن أصر على كفره هو لا يعقل من حيث هذا المستوى مهما كانت قدراته وإمكاناته على المستوى الظاهري، فلطول اعتصامه بالكفر وعمله بمقتضاه أصبح من حيث الكيان الجوهري أصم وأبكم ولا يعقل، فلا قيمة هاهنا لحواسه وملكاته على المستوى الظاهري، سينتفع بها في الدنيا المحدودة الزائلة، ولكنها لن تغني عنه شيئا في دار الخلود.
ثم تبدأ الآيات في الحديث عن طائفة معينة كانت معلومة للرسول والمؤمنين، وهم لم يكتفوا بكفرهم بالرسالة الخاتمة وإنما تعمَّدوا الانحياز إلى الكافرين أعداء المؤمنين رغم العهود المبرمة، دون خوف من تبعات ذلك ولا تقدير لعواقبه، وما ذلك إلا لشدة إيمانهم بباطلهم وحرصهم على استئصال المؤمنين.
فأمثال هؤلاء يجب عند إدراك وجودهم في معركة أن توجه إليهم ضربة قاصمة يرتجف من هولها من هم خلفهم من الأعداء الآخرين، فيتشتتون ويتشردون عنهم.
وفي المعركة كذلك يجب ضرب الصفوف الأولى منهم ضربة يتفرق من هولها والخوف منها من هم خلفهم من الصفوف الأخرى.
فكل ذلك هي أمور لازمة في المعارك مع الذين كفروا والمعتدين لحسم الأمور وتحقيق السلام بأقل قدر من الخسائر، ولا سبيل إلى التعامل مع المعتدين والوحوش البشرية إلا هكذا.
إن إنزال الضربات المروعة بالأعداء تلقي الرعب في قلوبهم وقلوب أمثالهم فلا يتورطون من بعد في العدوان ويبادرون بالجنوح إلى السلام، وتُحفظ بذلك للأمة هيبتها وكرامتها وعزتها، فلا مكان في عالم الذئاب للأرانب والغزلان.
وبذلك أيضا يتعلم الآخرون ضرورة احترام العهود والمواثيق المبرمة مع الأمة فلا يتجرؤون على نقضها أبدا.
إن الإسلام هو دين الحق والعدل والرحمة، ولكنه، أيضًا دين العزة والقوة، والمسلم الحقيقي قوي أبيّ عزيز، وليس بحمل وديع ولا بنعجة، وهو يطرد عن كيانه وقلبه كل أسباب الوهن واليأس والضعف والاستسلام، وهو يعلم أن ربه هو الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ، ولكنه أيضًا شديد العقاب وعَزِيزٌ ذُو انتِقَام.
لذلك فيجب التصدي للأعداء الناكثين غير مأموني الجانب في الحرب، فإذا ما صادفهم المؤمنون وظفروا بلقائهم في هذه الْحَرْب؛ أي في تضاعيفها في ميدان المعركة؛ فيجب اهتبال الفرصة إلى المدى الأقصى والتنكيل بهم بإنزال ضربة قاصمة بهم يرتجف من هولها من خلفهم من المتحالفين معهم المناصرين لهم فيتفرقون عنهم، وبذلك يتم تقصير أمد الحرب.
إنه في ميدان المعركة يجب العمل بمقتضى هذه الآية، فيتمّ ضرب العدو في مقتل بكل قوة وشدة، ويتم العمل على بث الرعب في قلبه بكافة الوسائل، كما يجب الحرص على إيقاع أكبر قدر من الخسائر البشرية بهم ليتعظ بهم غيرهم.
كذلك إذا ما تبين لأولي أمر الأمة أن الطرف الذي وقعت معه معاهدة سلام سيخون العهد، بمعنى أنه ظهرت دلائل تشير إلى ذلك، فيجب إعلامهم بذلك ومواجهتهم به، حتى يستوي الجميع في العلم به، فلا يجوز خيانة العهد دون أن يجهر الطرف الآخر بذلك، ولا يجوز الغدر بهم أو خيانة العهد دون أن يعلنوا عدم تقيدهم به.
أما إذا بادروا هم بنقض العهد بالقول أو بالفعل فإنهم يكونون بذلك خائنين ومعتدين، فيجب على الأمة قتالهم بكل ما هو متاح من وسائل.
وتذكر الآيات سمة إلهية وشأنا إلهيا وسنة إلهية هي: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}، فهذا أمر ثابت يقتضي سنة لا تبديل لها ولا تحويل، فيجب على من يأمل أن يحبه ربه على أن يطهر نفسه من كل آثار صفة الخيانة ومن كل أفعال الخيانة، وعليه أن يتزكى بالتحلي بنقيضها الفعال وهو الأمانة.

*******

هناك تعليق واحد: