الثلاثاء، 11 أغسطس 2015

أولو الأمـر ج1

أولو الأمـر ج1

إن ولي الأمر في دين الحق هو المؤمن الجدير باتخاذ القرارات الملزمة في أمرٍ ما بحكم صلة شرعية (كالوالدين في الأسرة بالنسبة لأفراد الأسرة) أو بحكم التأهيل والتخصص.
فولي أمرٍ ما هو المتمكن منه والمتمرس به والذي يعلم عناصر دين الحق ويعمل بمقتضياتها، وهو بحكم تأهيله وهويته لا يستطيع أن يخالف أي عنصر من هذه العناصر.
والأمر كلمة عامة تشمل كل مجال موجود أو من الممكن أن يستجد من أمور الحياة، ومن الواجب على الأمة أن تعمل على أن تؤهل في كل أمر من لديه الاستعداد لذلك، فكما يتم التأهيل في فرع طبي أو هندسي أو علمي أو قانوني أو مهني أو الإداري أو الاقتصادي......الخ يجب أن يتم التأهيل في الأمور الإدارية العامة والتنفيذية، فإدارة أمور أمة أهم بكثير من إدارة أمر شركة، وأولو الأمر التنفيذي يجب أن يكونوا على دراية تامة بتاريخ العالم بصفة عامة وتاريخ بلدهم بصفة خاصة وبالأمور الاستراتيجية وبأمور الإدارة والاقتصاد وغيرها فضلا عن وجوب تمتعهم بقدرات ذهنية عالية ولياقة نفسية وصحية مقبولة، فلا يجوز أن تكون كل خبراتهم التآمر في الظلام وحشد الدهماء وخداع البسطاء.......الخ، كما يجب توفر مدارس لإعداد المؤهلين في الإدارة العليا يتقدم لها كل من يجد في نفسه القدرة على التمكن من هذا المجال، وبالطبع يجب أن يكون قد تلقى من قبل تعليما أكاديميا رفيعا.
وشرعية ولي الأمر في الإسلام مستمدة من كونه عاملا بمقتضى عناصر ومنظومات دين الحق، وهي مستمدة من كونه مؤهلاً في أمره ومتمكناً منه ومتمرساً فيه، فمتى خرج عن شيء من عناصر دين الحق إلى تحكيم أهوائه أو أهواء الناس أو أهواء أهله أو عشيرته أو أي أمر غير موضوعي وغير حقاني أو فقدَ تمكنه من الأمر لرفضه تلقي معارف جديدة في مجاله مثلا أو لعدم استعداده للتطور لأي سبب من الأسباب فقد انتفت شرعيته ولم يعد له ولاية على المسلمين، فالشرعية ليست مادة تلتصق بالجسم ولا تزول أبدا، ومن يظن ذلك فمصيره الهلاك حتما وسيسبب لنفسه ولقومه فتنا لا حصر لها مهما كانت درجة صلاحه وتقواه!
والشورى هي آلية ملزمة لكل من ولي أمراً، وهي ركن فرعي من أركان الدين الملزمة، والشورى إنما تكون بين أولي أمرٍ ما فيما يتعلق بمجال اختصاصهم، وإذا اقتضى الأمر توسيع قاعدتها فهم أدرى الناس بمن يجب أن يضاف إليهم فيها، والشورى هي نوع من التفكير وتدبر الأمر الجماعي؛ فهي بمثابة (Mental faculties and experiences share)، ومن له حق الشورى في أي أمر هم أولو هذا الأمر.
وطاعة كل ولي أمر في مجال تخصصه هي أمر قرءاني ملزم، وليس أمرا ثانويا، وهو من تفاصيل ركن أكثر إجمالا وشمولا مثل السجود بالنسبة لإقامة الصلاة، فلا صحة للصلاة بدون السجود، وطاعة ولي الأمر الإداري هي كطاعة الإنسان لطبيبه مثلا عند تلقي العلاج، وهي من وسائل تكريس الانضباط والجدية والشفافية والقانون في الأمة، وهي أيضاً من وسائل الفصل الآمن بين السلطات المختلفة.
-------
إن المراد بالأمر هو كل ما له صلة بالناس في مجموعهم، فمن الأمور: الطب بكافة فروعه، الهندسة بكافة فروعها، التعليم، اللغة العربية، القضاء، الأمور التنفيذية، الأمور العسكرية، العلوم بكافة صورها وأنواعها، القانون، الإدارة، الاقتصاد، الأحكام الشرعية العملية......الخ، وبالطبع فهذه القائمة قابلة للاتساع باطراد التقدم والتطور.
-------
إنه يجب التمييز بين ثلاثة مصطلحات:
  1. القائمون على الأمر بحكم الأمر الواقع.
  2. المتسلطون على الأمر؛ أي بالقوة والقهر.
  3. أولو الأمر وهم المؤهلون له عن جدارة واستحقاق من المؤمنين.
وطاعة أولي الأمر الحقيقيين هي أمر قرءاني ملزم، ولكن لا يجوز الخلط بينهم وبين غيرهم، فلا حق لمن هم من دونهم في طاعة، بل يكون أمرهم مفوضا إلى كل مسلم يرى فيه رأيه مع العلم بأن المسلم ليس مكلفا إلا بما هو في وسعه وأنه توجد أولويات وموازين قرءانية لا يجوز الإخلال بها.
وكل مسلم هو ولي أمرٍ ما، والوالدان هما وليا أمر أسرتهما، ولذلك يلزمهما التشاور في كل أمور الأسرة بما في ذلك فطام رضيعهما.
ولقد أوجب أهل السنة والسلفية الطاعة لكل قائمٍ بالأمر أو متسلط عليه بالقهر طالما لم يحل بين الناس وبين إقامة الصلاة ولم يظهر كفرا بواحا، وكان ذلك لما يلي:
  1. أما أفضلهم فهم من رأوا أن المتسلطين على الأمور منذ أن تحولت الخلافة إلى ملك عضوض لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ولا يتورعون عن اقتراف أبشع الجرائم وسفك الدماء والإفساد في الأرض فعمموا الأحكام الاستثنائية الخاصة بزمن الفتن حماية للناس من بطش المتسلطين وفرضوها على الناس كأحكام دائمة حماية لهم.
  2. أما أضلهم سبيلا فهم من قدَّسوا هؤلاء المتسلطين وجعلوا تصرفاتهم هي عين العدل وحرفوا وزيفوا الدين ليوافق أهواء المتسلطين.
-------
إن ولي الأمر في الأمة المؤمنة بحكم التعريف هو الأجدر به والأهل له والأصلح له وفق مواصفات وضوابط ومعايير وموازين محددة، وجانب من هذه الأمور يتضمن ما يختلف باختلاف الأمصار والعصور، وعلى الأمة ممثلة في الصفوة من أبنائها أن تضيف إلى هذه المواصفات ما أصبح ضروريا بحكم التطور، ومن ذلك حالة الصحة النفسية مثلا ومستوى الذكاء والقدرات الذهنية، ولكن ما أورده كتاب الله هو المواصفات والموازين الثابتة التي لا تبديل لها ولا تحويل، وأي إخلال من قائم بأمر بشيء مما أورده الكتاب يعني بالضرورة أنه ليس بولي للأمر بل هو متسلط عليه، فهو معزول شرعاً وإن لم يُعزل واقعاً وفعلاً، فمن تلك الشروط التحلي بكل الأخلاق الإسلامية ومنها الحرص على أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل والقيام بالقسط والقيام بأركان الدين والعمل على تحقيق مقاصده والتنزه عن الصفات الشيطانية، وهذا يعني أن ولي الأمر الحقيقي لا يمكن أن يظلم ولا أن يأمر بمعصية ولا أن يسرق ولا أن يستكبر ولا أن يفسد في الأرض ولا أن يجعل أهلها شيعا ولا أن يخالف أمراً شرعيا ولا أن يعتبر الأمة متاعاً يورثه لابنه من بعده ولا أن يرفع قبيلته أو أهله وعشيرته فوق القانون والناس ....إلخ، والشروط الجامعة هي التحلي بكل عناصر منظومة القيم الإسلامية والتطهر من كل عناصر المنظومة المعنوية الشيطانية واكتساب كل ما يلزم من علوم ومهارات وخبرات في مجال التخصص.
-------
ولي الأمر بالنسبة لإنسانٍ ما هو كل من له ولاية علي هذا الإنسان بحكم صلة شرعية أو بحكم تأهيله وعمله وتخصصه، والأمر هو كلمة عامة تشمل كل المجالات، وولي الأمر في مجالٍ ما هو المؤهل تأهيلا تاماً في هذا المجال وفق أسس مرتضاة ومتفق عليها ومعلومة للجميع، فوليّ الأمر في مجال طبي معين هو من تلقى التعليم الكافي واكتسب الخبرات اللازمة، وولي الأمر في المجال التنفيذي هو من تلقى كل ما يلزم إدارة وتصريف الأمور في مجاله، وولي الأمر في دين الحق يجب بالإضافة إلى ذلك أن يكون عنده العلم الكافي بهذا الدين ومنظومات قيمه وسننه وأن يعمل بمقتضى ذلك بقدر وسعه.
والقرآن الكريم يتحدث دائماً عن أولي الأمور العامة بصيغة الجمع، ويلزمهم بإعمال الشورى فيما بينهم ويندد بالاستبداد ويجعله من صفات الطغاة الهالكين، وهذا يعني أن الأصل في تقرير أي أمر أو صناعة أي قرار هو وجود جماعة وليس فردا واحدا.
ولولي الأمر الحقيقي حق الطاعة في مجاله، فحق الطاعة هو للوالد علي أولاده وللمعلم علي تلاميذه وللطبيب علي المريض وللعالم علي الجاهل وللرئيس علي المرؤوسين وللقائد علي الجنود ولكل متخصص علي الآخرين فيما يتعلق بمجال تخصصه ولكل صاحب خبرة في مجال علي كل من هو بحاجة إلي هذه الخبرة، فالعمل بهذا الركن من لوازم تنظيم العلاقات بين الكيانات المكونة للأمة ولإشاعة الانضباط والجدية في تناول الأمور ولزيادة تماسك الأمة وتدعيم بنيانها، والعمل بهذا الركن الفرعي يقتضي استقلال كل أولى أمر بأمرهم وأن تكون أوامرهم فيه ملزمة لغيرهم، فلا يتدخل أحد فيه، وهذا يوفر تلقائيا الفصل بين السلطات الذي عرفه الإنسان في هذا العصر وغفل عنه المسلمون رغم كونه متضمنا في نظام أولي الأمر، ومن كبائر الإثم المضادة لهذا الركن الفرعي التمرد والعصيان والفوضى وعدم النظام وعدم الانضباط.
-------
إن مفهوم ولي الأمر في الإسلام يتضمن المعرفة والالتزام بقيم الدين وسننه ومثله وأسسه، فولي الأمر الذي يجوز أن يقرن بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ في نظم واحد إنما يستمد شرعيته من اتباعه له وبالتالي من اتباعه للرسالة التي أتى بها وما تتضمنه من مقاصد وقيم وأركان وسنن، فالطاعة الشرعية إنما تكون لولي الأمر الحقيقي أي لولي الأمر طبقا للاصطلاح الإسلامي، وثمة فرقان هائل بين مفهوم ولي الأمر هذا وبين مفهوم القائم علي الأمر بصفة عامة، فالطاعة التي هي ركن ديني يُثاب المرء عليه ويأثم بمخالفته إنما هي لولي الأمر طبقاً للتصور والاصطلاح الإسلامي، وفي معظم الظروف والأحوال فإن القائم علي الأمر لا يكون بالضرورة ولياً للأمر، فطاعته إنما هي بمقدار اقترابه من الولاية الحقيقية للأمر، أما أسوأ دركاته فهي أن يكون متسلطاً علي الأمر، وفي هذه الحالة فإنه ليس له أي حق ديني علي الناس، بل يجب على هؤلاء العمل على خلعه إن لم يذعن للحق، وهكذا كان الحال منذ أن تسلط الأمويون علي الأمر، أما واقع الحال الآن فإنما هو في وجود كيانات غير دينية بل جغرافية بشرية تعرف بالأوطان التي يتعايش فيها أناس مختلفون في المذاهب والأعراق والأديان، وهذا أمر جديد لا يجوز الخلط بينه وبين الكيانات السابقة عليه ولا إجراء الأحكام الخاصة بها عليه.
ولقد ألزم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أهل القرن الأول بطاعة من يؤمِّرهم عليهم من الأمراء، فكل أمير من هؤلاء كان يستمد شرعيته منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ من حيث أنه كان رسولا إلى العالمين عامة وإليهم بصفة خاصة ومن حيث أنه كان ولى كافة أمورهم، وولاية أمرٍ ما لا تعطى الأمير أو الولي صكَّ غفران ولا تحله من ضرورة الالتزام بالطاعة والبعد عن المعصية ولا تجعله فوق الأمة ولا على الأمة وإنما تلزمه أن يظل منها فإن ظن أنه غير ذلك فقدَ جدارته بالأمر وانعزل قانونا وشرعا، فولاية الأمر ترتب علي القائم بها واجبات وأركان إضافية ولا تعفيه من الأركان الخاصة به كفرد وإن كانت تعيد ترتيب أولويات الأركان.
-------
إن وليَّ أي أمر إنما هو ولي ما يحسنه من أمر وفقا للموازين الشرعية، وهو بالتالي يجب أن يكون قد تلقي التأهيل المناسب واللازم ليكون جديرا بهذا الأمر، وهو ليس بكائن مقدس ولا أبا للأمة ولا زعيما قدريا، بل هو بشر مسئول وملزم بإعمال الشورى.
-------
إن ولي أي أمر في الأمة المؤمنة يجب أن يكون ملتزماً بمنظومات قيمها ومثلها وأركانها وسننها ومقاصدها بالإضافة إلي جدارته بالأمر، فولي الأمر لا يمكن أن يتصف بصفة من عناصر المنظومة المعنوية الشيطانية، ومن هذه العناصر الفسق والفجور والظلم والاستبداد والجهل والإجرام والاستكبار والطغيان والأثرة....إلخ، أما أئمة المذهب اللاسني الأثري الذين أفتوا بجواز ولاية الفاجر الظالم الفاسق وسارق الأموال وجالد الظهور وأعطوه حق إبادة ثلث الأمة وحرموا على الناس الخروج عليه فلقد كانوا ينظِّرون لمجتمع المجرمين والشياطين وليس لمجتمع المؤمنين، لقد نهاهم الله عن مجرد تصديق نبأ الفاسق ولكنهم أجازوا ولايته وحرموا علي الناس أدنى انتقاد له، ولقد كان من الخير لهم إذا جبنوا أن يصمتوا وألا يجعلوا من أنفسهم أعوانا للشياطين وحجر عثرة في سبيل التطور الطبيعي للناس، إنه كما لا يجوز للإنسان أن يأتمن جاهلا فاسقا مجرما يدعي العلم بالطب علي جسده فكذلك لا يجوز لأي كيان مؤمن أن يأتمن جاهلا شريرا فاجرا ظالما علي أي أمر من أموره، إن الجهل هو أفدح عاقبة من الخيانة، وويل لأي كيان يسمح لجاهل بأن يتسلط عليه، وويل لأي كيان يسمح لمكوناته الأدنى أن تتحكم في مكوناته الأعلى.
أما في حالة انتشار الفتن وعموم البلوى فثمة أحكام خاصة بها لا يجوز تعميمها، وكل كيان ملزم بالقيام بالأركان في حدود طاقته، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وقد يباح للمؤمن أن ينطق بكلمة الكفر لينجو بنفسه، ولكن لا يجوز أن يجعل من النطق بها ديدنه ودأبه أو سنة مرعية أو قانوناً ملزما.
إن الطاعة للرسول ولأولي الأمر من بعده إنما هي من حيث أنهم ناطقون بما جاء في كتاب الله ومتبعون له وملتزمون بأوامره، ذلك لأن الكتاب لن يحكم بين الناس بنفسه وإنما برجال ينطقون به ويعرفون منطوقه وفحواه ومقتضياته وقوانينه وسننه، وهي لهم بحكم أنهم المؤهلون له وفقاً لمعايير وموازين العصر والمصر ووفقا للآليات التي تتطور أيضا باطراد التقدم.
------------
إن ثقة الإنسان بأن القائم على الأمر في مجالٍ ما هو ولي أمر حقيقي بمعني أنه تتوفر فيه كل المواصفات الشرعية اللازمة لولي الأمر ستلقي الطمأنينة في قلبه وستدفعه إلى إتقان عمله وإلى ألا يحاول اتباع سبل ملتوية وأساليب غير شرعية لاستمالة ولي الأمر واستهوائه لكي يأخذ ما لا حق له فيه، أما إذا كان القائم على الأمر ليس ولياً حقيقياً له بل متسلطاً عليه فإن من هم ملزمون بطاعته سيحاولون سلوك كافة السبل غير القانونية لاسترضائه واستهوائه، وسيهمل أكثرهم عمله ليأسهم من صفات وسلوك هذا المتسلط أو لأنهم يرون أن النفاق والمداهنة والتملق هي أجدى وأيسر من أداء العمل كوسيلة لتحقيق المطالب، والمنافق المداهن المتملق إنما يداعب نزعة الربوبية المزيفة الكامنة في نفس المتسلط، وهو إذ يفعل فإنه يشرك بربه ويزيد المتسلط ضلالا كما يُضلُّ نفسه.
ولقد فضَّل الله  بعض الناس علي بعض ورفع بعضهم فوق بعض درجات، وترتب علي ذلك سنن كونية لا تبديل لها ولا تحويل، فلا بد من أن تتميز كل حقيقة إنسانية علي الأخرى، وذلك أمر لازم لتحقيق المقاصد الوجودية والدينية، وعلي الإنسان أن يتوافق مع تلك السنن حتى يتحقق بكماله المنشود وأن يثق بربه وبحسن أسمائه، وكل إنسان فاضل مفضول، وعلي الإنسان ألا يتمنى ما فُضِّل عليه به غيره، ومن غير المقبول أن يستكثر إنسان علي غيره ما فضله الله به دون أن يشكر ربه علي ما فضله هو به علي غيره، وعلي كل إنسان أن يعلم أنه مُزوَّد بما يلزم لأداء ما نيط به من مهام ولتحقيق المقصد من خلقه وأنه ليس مكلفاً إلا بما هو في وسعه.
ويجب التأكيد على أنه من الواجب ألا ينازع الإنسان الأمر أهله ولكن يجوز نصح من ظهرت عليه بوادر الانحراف ويجب أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، أما من ثبت أنه ليس أهلا للأمر بجوره وبغيه فإنه يجب عزله، فليس من حق أحد أن يلزم الناس بطاعة الطغاة الجائرين المجرمين، أما في حالة شيوع الفتنة وعموم البلوى فثمة أحكام استثنائية إستنادا إلى أن الله سبحانه لا يكلف نفسا إلا وسعها وأنه قرر أن للمضطر أحكاما خاصة، ولكن تلك الأحكام لا يجوز تعميمها ولا توسيع نطاق عملها ولا تحويلها إلي قواعد دائمة ولا يجوز أن تستخدم لإحداث تحريف دائم في الدين، والضرورات لا تبيح المحظورات إلا بقدر الحاجة الضرورية ولكنها لا ترفع عنها حكمها كمحظورات.
-------
إن الطاعة لولي كل أمر في مجال أمره هي ركن ديني فرعي ملزم للفرد، ولكنها لا تكون للمتسلط على الأمر أو لمدعي الولاية عليه، فالإنسان الذي يستشير طبيبا علي درجة عالية من الكفاءة في تخصصه يكون ملزما بطاعته ولكنه لا يكون ملزما بطاعة متطفل علي المهنة لم يحصل علي التأهيل أو الإجازة اللازمة لممارستها، والإسلام لا يجعل لأولي الأمر سلطة كهنوتية علي الناس.
ولقد رووا أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم)، فالمروية تشير إلى سنة ثابتة كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ حريصا عليها وهي ترويض الناس وتعويدهم على الانضباط والالتزام ومعالجة عنجهية طباعهم وتكبرهم في أنفسهم، والحديث يبين أن اختيار الأمير منوط بالجماعة أي أن لهم أن يضعوا معايير مرتضاة لاختيار الأمير وهى تختلف بالطبع من عصر إلى عصر، فلقد سكت الحديث عن المعايير وتركها بذلك للناس، فالأمير يُختار من بين الناس برضاهم وفق معايير يعرفونها ويرضونها ولا يُفرَض عليهم، فليس لأحد أن يتأمر على الناس رغم أنوفهم ولا أن يقهرهم على طاعته بسيفه كما يقول بعض سدنة المذاهب.
وطالما اختير ولي الأمر بطريقة شرعية فقد أصبحت طاعته من طاعة الله ورسوله على ألا يأتي بما يخل بهذه الشرعية مثل أعمال الخيانة أو الإخلال بما تعهد باحترامه، فطاعة ولى الأمر الشرعي من تفاصيل بعض أركان الدين، وله أن يقرر ما يلزم الناس في مجال تخصصه وولايته ويصبح التمرد على أوامره من كبائر الإثم ومن الإفساد في الأرض طالما لم يقترف ما يُخلّ بشرعيته أو يقوض مصداقيته، ولكن يجب بيان أنه إذا كان ولى أمر تشريعي مثلا فإن ما يسنه من قوانين ولو كان إعمالا لآليات شرعية يبقى حكما بشريا وضعيا ولا يكتسب أبداً صبغة دينية، كما أن وضعه كولي أمر لا يحله هو من أي أمر شرعي ولا يعطيه حقا في معصية ولا يعفيه من طاعة أولى الأمر الآخرين في مجالات تخصصهم، فإذا أمر الناس بمعصية ما أو بما يتضمن مخالفة لأمر شرعي وجب نصحه وبيان الأمر له، وعلى ولي الأمر أن يقوم بأركان الدين وسننه وخاصة تلك الملزمة له كولي أمر.
-------
إن طاعة أولي الأمر هي ركن ديني إذا كانوا حقا أولي أمر من المؤمنين ومن حيث أن الفرد ملزم بطاعة ما ارتضته الأمة لنفسها من القوانين الملزمة لها، فطاعة أولي الأمر هي الشرط اللازم لاتساق وتجانس الخلايا المكونة لجسد الأمة وكذلك توحد وجهتها ومتانة بنيانها، وولاية الأمر الحقيقية هي التي تتم وفق معايير وموازين ارتضتها الأمة، فهي وظيفة يستحقها من هو أهل لها ولا تعطيه أدني سلطة علي الناس خارج نطاقها، فلا يجوز السماح لمن لم يتلق التأهيل اللازم لممارسة الطب مثلا بأن يتصدر لعلاج الناس ولا بأن يلزمهم بالأخذ بما يطلبه منهم، ولا يجوز لمن تخصص فيما أسموه بالفقه أن يفتي الناس في أمر يستلزم معرفة طبية مثلا.
وآليات إعداد واختيار ولاة الأمر واختيارهم تتغير وتتطور وفق ظروف وأحوال العصر والمصر، ففي بداية التاريخ الإسلامي كان اختيار أولي الأمر منوطا بالصفوة وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وكان لمن يختارون أو لمن يختاره لهم من فوضوه حق الطاعة عليهم، ولم يكن لباقي العرب والأعراب حق الإدلاء برأي في هذا الموضوع وهذا ما اقتضته طبائع الأمور في ذلك العصر خاصة وأن السابقين الأولين قد قُـدِّموا علي غيرهم في كتاب الله تعالي، فكان ذلك أمراً استثنائياً خاصاً بأهل القرن الأول خاصة وأن السابقين الأولين قد نالوا القسط الأوفر من التزكية والتعليم النبوي فكانوا هم بحق أولي الأمر، أما من بعدهم فإن الأمر هو للأجدر به مهما كانت قبيلته وسلالته، ولقد أخطأ الأثرية وأهل السنة عندما حولوا الأمور النسبية المقيدة إلي نصوص وقواعد مطلقة وعندما فرضوا علي الأمة أن يكون القائم علي الأمر أو ما أسموه بالإمام الأعظم قرشياً، ولما كان ما قرروه مضاداً للفطرة فلقد فرضت سنن التطور والفطرة نفسها بكل قسوة ولم تأخذها بالمبطلين رحمة، إنه يجب العلم بأن دين الفطرة لا يمكن أن يفرض عليه ما هو مضاد للفطرة.

------------

هناك تعليق واحد: