الثلاثاء، 1 ديسمبر 2015

موجز تاريخ المذهب الأموي العباسي

موجز تاريخ المذهب الأموي العباسي


قاد الصحابي الجليل أبو سفيان بن حرب معركة الكفر والشرك ضد الإيمان، فلما هُزم هزيمة نهائية تامة وأسلم (أذعن) انتقل إلى قيادة معركة النفاق ضد الإيمان، وفي معركة حنين وقف أبو سفيان يتمنى الهزيمة للمؤمنين، ومع ذلك أعطاه الرسول جزءا كبيرا من الغنائم حتى اغتنى بعد أن كان قد فقد كل موارده المادية، وفي عقبة تبوك اشترك الصحابيان الجليلان أبو سفيان وابنه معاوية مع بعض الصحابة الأجلاء الآخرين في مؤامرة لاغتيال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، ولكن مؤامرتهم فشلت، وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ.
واتقاءً لشره عيَّن الخليفتان أبو بكر وعمر ابنه يزيد قائدا لأحد الجيوش التي خرجت لحرب الروم مخالفين بذلك أسس الإسلام، فلما هلك يزيد عين الخليفة عمر بن الخطاب مكانه أخاه الصحابي الجليل معاوية، وهكذا وجد معسكر النفاق رجله الكفء المنتظر، فلما تولى الخليفة الأموي عثمان الأمر بدأ معاوية خطته، كان يعلم أن طريقة الخلفاء البدائية في الحكم لابد أن تنقضي، وأن بقاءهم في الحجاز خطر داهم عليهم، فهو بلا موارد ويمكن الاستيلاء عليه وإسقاط الحاكم فيه بمجرد حصاره، وقد تتطوع لخدمته أو بالأحرى إدارته لصالحهم موظفو الحكومة البيزنطية، وتطوع لذلك أيضا أحبار اليهود، أما قوته الضاربة فكانت قبيلة بني كلب الذين كانوا له أوفى من الكلب لصاحبه.
وكان أكثر ما يؤجج نيران الحقد والغضب في نفس الصحابي الجليل المقدس معاوية هو أنه كان يُنادَى باسم النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، خمس مرات في اليوم، وهو كان يعتبر أن هاشم دبرت حيلة لانتزاع المجد والشرف من قبائل قريش والاستثار به، قال المطرف بن المغيرة بن شعبة دخلت مع أبي على معاوية و كان أبي يأتيه فيتحدث معه ثم ينصرف إليَّ فيذكر معاوية وعقله ويعجب بما يرى منه إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتما فانتظرته ساعة وظننت أنه لأمر حدث فينا، فقلت: ما لي أراك مغتما منذ الليلة فقال: يا بني جئت من عند أكفر الناس وأخبثهم قلت وما ذاك قال: قلت له وقد خلوت به إنك قد بلغت سنا يا أمير المؤمنين فلو أظهرت عدلا و بسطت خيرا فإنك قد كبرت ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم فو الله ما عندهم اليوم شي‏ء تخافه وإن ذلك مما يبقى لك ذكره و ثوابه فقال هيهات هيهات أي ذكر أرجو بقاءه؟ ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره إلا أن يقول قائل أبو بكر، ثم ملك أخو عدي فاجتهد وشمر عشر سنين فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره إلا أن يقول قائل عمر، وإن ابن أبي كبشة ليصاح به كل يوم خمس مرات أشهد أن محمدا رسول الله فأي عملي يبقى وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك لا والله إلا دفنا دفنا.
وأوضح ما يعبر عن الاتجاه الأموي هو هذه الأبيات التي تمثل بها اللعين يزيد بن معاوية:
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الاسل
لأهلوا واستهلوا فرحا * ثم قالوا يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القرم من ساداتهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل
لست من خندف ان لم انتقم * من بني أحمد ما كان فعل
لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل
ولم يكن الداهية معاوية ليخفى عليه أنه لم يعد ثمة مجال للقضاء التام على الإسلام والعودة إلى عبادة الأصنام خاصة وأن قبيلته كانت تعلم جيدا بطلان قضية الأصنام وأن أصنام الكعبة لم تكن إلا وسيلة للحصول على الشرف والمال، وكان يعلم أن أي مجاهرة بكفر تعني انهيار كل ما بناه، وكان الأحبار وموظفو الرومان يعلمون جيدا قصة الإمبراطور الروماني جوليان المرتد Julian the Apostate، وكيف فشلت محاولته للتصدي للمسيحية بعد أن أقرها الأباطرة من قبله وتمكنت من الناس، وقد لقي مصرعه غدرا على يد أحد المسيحيين من جيشه! وكان هو بدهائه لا يريد الخوض في مغامرة تودي به بعد أن حقق أهدافه، وقد رفض أن يأخذ بثأر عثمان وقال لابنته التي ناحت في وجهه مطالبة بثأره: " يَا بِنْتَ أَخِي ، إِنَّ النَّاسَ أَعْطَوْنَا سُلْطَانًا فَأَظْهَرْنَا لَهُمْ حِلْمًا تَحْتَهُ غَضَبٌ، وَأَظْهَرُوا لَنَا طَاعَةً تَحْتَهَا حِقْدٌ، فَبِعْنَاهُمْ هَذَا وَبَاعُونَا هَذَا، فَإِنْ أَعْطَيْنَاهُمْ غَيْرَ مَا اشْتَرُوا شَحُّوا عَلَى حَقِّهِمْ، وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ شِيعَتُهُ فَإِنْ نَكَثْنَاهُمْ نَكَثُوا فِينَا، ثُمَّ لا يُدْرَى أَلَنَا الدَّائِرَةُ أَمْ عَلَيْنَا، وَأَنْ تَكُونِي بِنْتَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَكُونِي أَمَةً مِنْ إِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، وَنِعْمَ الْخَلَفُ أَنَا لَكِ بَعْدَ أَبِيكِ"، هكذا رفض معاوية أن يأخذ بثأر عثمان الذي أشعل الفتنة ومزَّق الأمة مطالبة بثأره.
وقد أرشده الأحبار وموظفو الرومان إلى الحل المعلوم والمجرَّب؛ تحريف الدين ليكون وسيلة لتوطيد سلطانه وبقاء الملك في ذريته من بعده، وهكذا بدأت أكبر عملية تحريف لدينٍ على مدى التاريخ، وتمَّ وضع أسس المذهب الأموي وآليات بقائه أيضا، وكان من ذلك:
1.      لم يكن من الممكن القضاء على القرءان، ولكن كان من الممكن محاصرته وصد الناس عنه مع تقديم أسمى آيات التبجيل الشكلي له، ومن ذلك إحداث إفك القول بوجود آيات منسوخة ووضع المرويات التي تشكك في التعهد الإلهي بحفظه.
2.      إبادة كل آثار وأخبار العصر النبوي بإبادة العالمين بها وصرف الناس عنها وشغل الناس بلهو الحديث وتعيين قُصَّاص في المساجد هم بحاجة دائمة إلى الاختلاق والاغتراف من أساطير وخزعبلات أهل الكتاب، وكذلك إحياء كل آثار العصر الجاهلي ومنظومته المعنوية.
3.      إعادة الاعتبار لأبطال العصر الجاهلي وصد الناس عن السابقين الأولين وعترة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بلعنهم على المنابر واعتبارهم بمثابة أعداء رسميين للدولة، والتنكيل بشدة ممن يعترض على ذلك
4.      وضع المرويات ونسبتها إلى الرسول أو تحريف ما هو موجود منها، ثم اعتبارها هي السنة.
5.      تحويل مصطلح صحابي وهو مصطلح لغوي محض إلى مصطلح ديني، واستعماله لتحويل أهل النفاق والمرتدين إلى أرباب مقدسين ومشرعين، وهؤلاء هم أكبر منتفعين إلى الآن بهذا اللقب.
6.      جعل المرويات هي المصدر الأعلى الحقيقي للدين بإحداث أقوال مثل: السنة قاضية وحاكمة على الكتاب، السنة تنسخ آيات القرءان عند الاختلاف والتعارض، السنة توضح مشكل القرءان وتبين مبهمه وتقيد مطلقه وتفصل مجمله، حاجة القرءان للسنة أشد من حاجة السنة للقرءان!!!
7.      وضعوا القواعد اللازمة لإلزام الناس بالخضوع المطلق للمتسلطين الطغاة الفجرة، وتفننوا في صياغتها.
8.      وضعوا القواعد اللازمة لإقناع الناس بالرضا التام عن حالتهم السيئة المتردية، بل وفرضوا التفسير الجبري للدين كركنٍ من أركان الإيمان.
9.      وضع مروية مثل: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" لشرعنة الاغتراف من أساطير أهل الكتاب ودسها في التراث الإسلامي.
10.  وهكذا تم عمل دين بديل، كان أبطاله اليهود بأسماء مستعارة.
11.  في العصر العباسي لم يتورع هؤلاء عن الظهور بأسمائهم الإسرائيلية، وقد تم على أيديهم تنظير المذهب الأموي، ومن هنا كانت تسميته بالمذهب الأموي العباسي.
12.  كان من المفترض أن تقوض الثورة ضد الأمويين الدين الأموي الذي أحدثوه، ولكن العباسيين العريقين في الخيانة وجدوا أن من الأفضل لبقاء سلطانهم اعتناق الدين الأموي ومناصرته بعد أن قضوا تماما على خطرهم، وكان ذلك لأنهم اكتشفوا أن أعداءهم هم نفس أعداء الأمويين.
13.  تم وضع ما يلزم من قواعد تكفيرية إقصائية ضد من يرفضون الدين الأموي العباسي.  
ولكن الناس صدموا عندما عاشوا بين شعوب الشرق الأوسط العريقة ومهد الحضارة، وقد أدركوا مدى بشاعة وتخلف وعدوانية وإجرام الدين الذي يروج له سفلة الأمويين وأنصارهم، كما أدركوا مدى قصور دعاة هذا الدين عند المجادلة مع أتباع الأديان الأخرى، ومن هنا بدأت تظهر اتجاهات عقلانية جديدة، كان على رأسها المعتزلة، وبدأوا يكتسبون الأنصار خاصة بعد نجاحهم في المناظرات مع أهل الكتاب وغيرهم، وكان أكبر نجاح لهم أن استمالوا المأمون العباسي الذي نشأ في أحضان الفرس، ولم يقصروا في انتهاز الفرصة، ولكنهم بالطبع فوجئوا بمدى شراسة مقاومة العامة والدهماء لهم، كان الوقت متأخرا بعد أن تمكن الدين الأموي العباسي من الناس، لم يغن عنهم تحريض المأمون على استعمال العنف، وبعد هلاك المأمون سار خلفاؤه على نهجه قليلا احتراما لذكراه، إلى أن تولى السلطة المتوكل.
سرعان ما أدرك السكير الأكبر المتوكل بن "شجاع" التركية مدى خطأ عمه المأمون ووالده المعتصم، فأما عمه فقد انحاز لبعض الخاصة من المتفكرين غير ذوي الشوكة والذين سيشكلون خطرا على سلطان العباسيين على المدى الطويل ضد الأثرية من أتباع المذهب الأموي الذي يؤله المتسلطين مهما طغوا وبغوا وفجروا ويلزم الناس بالعقيدة الجبرية، أما المعتصم فقد سار على نهجه رغم أنه كان مجرد جلف، وهو الذي طرد الفرس والعرب من الجيش وأحلّ محلهم الترك، وذهب ليعيش معهم في سامراء فأصبح في الحقيقة أسيرا لهم، وسيذهب أكثر الخلفاء من بعده ضحايا لهم، وكان الترك مثلهم مثل الأعراب، لا علاقة لهم بفكر أو عقائد، ولا تصلح لهم إلا ديانة كالديانة الأموية العباسية، وهكذا انحاز المتوكل إلى أرباب الديانة الأموية العباسية وأحيا (السنة) وقهر (البدعة)، وهاتان الجملتان البسيطتان تعنيان هلاك ما لا حصر له من البشر وحملة اضطهاد بشعة ضد من ينحرف قيد أنملة عن الديانة الأموية العباسية، وقد تم تأليه المتوكل من بعد، وعندما سيظهر المتصوفة على الساحة سيجعلونه من القلائل الذين جمعوا بين ألوهية الظاهر وبين ألوهية الباطن مثل (الخلفاء الراشدين).
وكان المنتصر الأكبر هو ابن حنبل زعيم الأثرية الحشوية، ورغم أن أتباع المذاهب الأخرى تعرضوا لتعذيب أكثر منه، بل استشهد بعضهم تحت التعذيب مثل البويطي الشافعي المصري فإن الحنابلة قاموا بالدعاية المكثفة لزعيمهم الذي أصبح إلها من آلهة الديانة الأموية العباسية، وانطلق حنابلته يبطشون بغيرهم ويفسدون في الأرض، بل بطشوا بأتباع معلمي إلههم مثل الشافعية، وأصبحوا هم المسيطرون على مركز الإمبراطورية العباسية، ولكن بدأت قبضة هذه الإمبراطورية تخف عن الأقاليم، ونشأت بعيدا عن العراق مراكز إسلامية حضارية أخرى فرّ إليها كل من لديه ذرة من فكر حر.
وسرعان ما ظهرت واستفحلت المشاكل القديمة، وتبين للناس من جديد بشاعة وفقر ودموية الديانة الأموية العباسية، فظهر الأشعري، وقام بتلفيق مذهبه كوسط بين المذهب الأثري ومذهب المعتزلة، فلم تنطل حيلته على الحنابلة، فرفضوا كلامه وزعموا أنه ارتد عن مذهبه، أما خلفاؤه فأخذوا يطورون في مذهبه، وكان التطوير في اتجاه الاقتراب من مذهب المعتزلة.
ولكن كان الفاطميون قد علا نجمهم واستفحل أمرهم، ومن مصر بثوا الدعاة إلى المشرق، وقدموا للناس دينا ممزوجا بالفلسفة اجتذب الصفوة، وكان منهم والد ابن سينا مثلا الذي ربى ابنه على مذهبهم، كما أصبحوا يهددون الخلافة العباسية في عقر دارها.
وأنقذ العباسيين ظهور قبيلة السلاجقة واعتناقهم المذهب الأموي العباسي، وظهر أحد الوزراء المستنيرين وهو نظام الملك الذي أسس المدارس النظامية لتدريس المذهب الأموي العباسي المعدل؛ أي الذي يأخذ بالصيغة الأشعرية في العقيدة، وعيَّن فيها المعلمين النابهين ليستطيعوا التصدي لدعاة المذهب الفاطمي الإسماعيلي، وفي هذه المدارس كان يعمل الغزالي وغيره من أئمة الأشعرية، وقد ذهب هذا الوزير ضحية هؤلاء الإسماعيلية من أتباع حسن الصباح صديقه في الأيام الخالية.
وكان الناس قد بدأوا يدركون مدى تدهور الدين الأموي العباسي في النواحي الوجدانية والأخلاقية، وكانوا يطالعون مدى بشاعة الشخصيات الناتجة عن هذه المذهب وكيف أنهم في الحقيقة عبيد سلطة وشهوة ومال وجاه، وكيف أن رجال الدين ليسوا إلا نعالا في أقدام المتسلطين وأنهم أسرى الطقوس والحرفيات والرسوم، وأصبح ذوو النفوس الراقية والحساسة يتطلعون إلى ما يشبع تطلعاتهم الروحانية ورغبتهم في الكمال الأخلاقي، ولذلك أخذوا ينهلون من التجارب الروحانية للأمم العريقة التي يعيشون بينهم، وهكذا نشأ التصوف مثقلا بعقائد وتراث وممارسات الأمم السابقة، ولكن لم يكن رجال الدين الأموي العباسي لم يكونوا ليسمحوا لغيرهم أن يتحدث في الدين فتعرض المتصوفة للمطاردة والاضطهاد والملاحقة، ولذلك نقلوا الكثير من ممارسات المذهب الشيعي صاحب التاريخ العريق في تحمل الاضطهاد والتنكيل.
وكانت تجربة الغزالي تلخص أحوال الأمة في هذه الفترة، وهي تبين ضرورة الاعتراف بشرعية التصوف وإلحاقه بالدين، وذلك يعطيه شيئا من الروحانية مثلما أعطاه المعتزلة شيئا من العقلانية.
ولقد حسم الغزو الصليبي الأمر، واستطاع هؤلاء الهمج الجياع اجتياح الشام بسهولة متناهية، ولقد صُدِم قادة المحسوبين على الإسلام المهزومين من زهد وتواضع وإيمان السفاح البارع الذي انتصر عليهم، وهو أمير اللورين  جودفري دى بوايون Godefroy de Boillon قائد الحملة، وأدركوا مدى بعدهم عن المثاليات الدينية، وأدرك الناس المهددون بالفناء ذلك أيضا، فانتشر التصوف بين العامة، ولم يعد حكرا على بعض الخاصة، واستفحل أمره وانتشرت الطرق التي كانت على غرار الجيوش، وأصبح لها ألوية.
وسرعان ما اشتد ساعد المتصوفة وسيطرتهم على الناس بما فيهم الملوك والسلاطين، ونأوا هم بأنفسهم عن فلاسفة التصوف وعن كل ما ينفر الناس منهم، وتبنوا أئمة ومقولات المذهب السني الذي تكون من المذهب الأموي الأصلي والتحسينات الفقهية والعقائدية الأشعرية، وقد انتقلت العنجهية الأعرابية والنزعة القبلية والدعاوى إلى تصرفاتهم، ولما بدأ الناس يتساءلون عن سبب عدم ظهور مثل هذه الدعاوى العريضة بين الخلفاء الراشدين وأئمة (الفقه) الأقدمين ضمهم المتصوفة إلى صفوفهم وزعموا لهم ما زعموه لأنفسهم، وهكذا أصبح ابن حنبل مثلا وتدا صوفيا!!!!!
وتأكد كل ذلك في العصر المملوكي 1250 م-1517 م، ولكن خفف من غلواء ذلك اشتداد الحاجة إلى التأليف الموسوعي واستمرار استعمال اللسان العربي كلسان رسمي، وكانت مقولات فلاسفة التصوف مثل القول بوحدة الوجود والقول بوحدة الأديان قد ذاعت وانتشرت بين العامة وأساءوا استعمالها، فظهر ابن تيمية وتصدى لهم بشراسة وأعاد إحياء المذهب الأموي العباسي في صورته النقية الخالية من إضافات الأشعرية والمتصوفة، ووضع بذلك ألغاما شديدة الخطورة في التراث المحسوب على الإسلام.
أما في العصر العثماني الذي بدأ في 1517 م واستمر إلى 1798 م في مصر، واستمر إلى سنة 1918 في المشرق العربي فقد كان الانهيار مريعا وتراكميا، وكاد ينقرض سكان الشرق الأوسط تحت الحكم العثماني الهمجي الذي لم تشهد البشرية له مثيلا في الجهل والوحشية والتخلف، وفي هذا العصر العثماني أُسدل ستار كثيف من الظلمات والعزلة على هذه المنطقة التي كانت مهد الحضارة وشريكا أساسيا فيها بينما كان الغرب يحقق نهضته الكبرى، وكان الناس قد انتشر بينهم التصوف حتى أصبح كل شخص لابد أن يكون منتميا إلى طريقة صوفية بالإضافة إلى مذهبه الفقهي ومذهبه الأصولي والذي كان المذهب الأشعري.
وعندما فوجئ أهل المنطقة بالغزو الغربي وأدركوا مدى ما هم فيه من جهل وتخلف وانحطاط كانت الصدمة هائلة، ولكن كل ذلك لم يزحزح سدنة المذهب الأموي العباسي عن مواقفهم، فكان لابد أن يتجاوزهم العصر، أنشأ محمد علي في مصر تعليما موازيا بعيدا عن الأزهر وجموده وتخلفه، واستمر هذا الاتجاه ونما وترعرع فيما بعده رغم بعض النكسات.
حاول جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده المصري تحرير الدين مما أثقل كاهله من الإصر والأغلال والحشو وتحريره من الشكليات وإبراز جوانبه الكبيرة، ولكن كان لهم مشايخ الأزهر بالمرصاد، ولكن أخذت الهزائم تنهال على عبيد الجهل والتخلف في كل معركة من معارك التقدم.
كانت الوهابية قد ظهرت في نجد، ونمت واستفحل خطرها على المسلمين، والوهابية هي صورة نقية من صور المذهب الأموي العباسي، وهي تسعى لفرض هيمنتها على المسلمين أينما كانوا مسلحين في ذلك بإمكانات مادية هائلة، أخذوا اسم "السلفية" من مصطلحات مدرسة محمد عبده وأطلقوه على مذهبهم، وكانت حيلة ناجعة، ولما كان المذهب الأشعري لم يعد يملك ما يقدمه للناس فقد هرع المشايخ على الوهابية وولوا وجوههم شطر قرن الشيطان، وبذلك انتهى عمليا المذهب الأشعري، وأصبح اسم أهل السنة يُطلق أساسا على الوهابية.

*******

هناك تعليق واحد: