السبت، 2 أبريل 2016

الاصطفاء

الاصطفاء

إن الاصطفاء هو فعل من الأفعال الإلهية، وهو يتم من حيث المنظومة الكلية للأسماء الحسنى، فهو يتم وفق نسق من السنن الإلهية الكونية.
والاصطفاء الإلهي يتعالى علوا كبيرا عما هو منسوب إلى الناس وعما يتصورونه بخصوصه، وهو لا يعني محاباة وإنما هو بالأحرى اختيار وتفضيل لأسباب حقيقية، فبسريان القوانين والسنن تتعين ماهيات وحقائق متفاوتة في درجات الكمال، وعندما تتحقق تلك الماهيات وتظهر النفوس وتنبثق الأنيات، فمن البديهي أن من كان ممثلا لحقيقة أو ماهية أسمي في عالم الأمر سيكون كذلك في عالم الخلق.
فالاصطفاء لا يعني اختيار أحد الناس بطريقة عشوائية ثم إكسابه أفضل السجايا والكمالات على سبيل المحاباة، ذلك لأن الماهية الأولية سابقة على الأنية.
إنه من سنة الله تعالى أنه يصطفي من الناس من يقوم بأمور معينة يقتضيها صلاح أمر النوع الإنساني، وهو غير ملزم بالأخذ بالمعايير البشرية ولا باتباع أساليب البشر ليتم هذا الاصطفاء، كما أنه لم يؤسس معاهد دينية خاصة لتخريج هؤلاء المصطفين، ولا يملك إنسانٌ ما أن يفرض عليه أي منهج لاصطفائهم ولا أي نمط من التعليم لإعدادهم فلديه قوانينه وسننه التي هي مقتضيات أسمائه الحسنى وخاصة المثنى "السميع البصير" الذي مجاله الذوات والكائنات، فهو الذي يصطفي من الناس من يشاء ويصنعهم على عينه ويربيهم بنفسه، وهو يستخدم عباده المصطفين فيما هو أصلح لهم ولتحقيق المهام التي ناطها بهم، فهو يصطفي من يشاء للدعوة إليه أو لإرشاد الناس أو لتعليمهم أو لتجديد أمور دينهم أو للتصرف في بعض الأمور عن أمره أو لتزكية النفوس بإذنه أو لإحداث طفرات عرفانية أو ثورات علمية أو تقنية، فالاصطفاء هو فعل إلهي يترتب عليه سنن كونية فعالة.
والاصطفاء المنسوب إلى الله تعالى لا يعني المحاباة أو الاختيار الاعتباطي، والكتاب العزيز يقدم دائما أسبابا لهذا الاختيار أو الاصطفاء، فالاصطفاء هو الاختيار الذي اقتضته منظومة الأسماء الحسنى التي هي لوازم وجود من له الكمال الذاتي المطلق، لذلك فإن المصطفى لأمرٍ ما هو أولى الناس به من كل حيثية، ومن أبرز الصفات الحاكمة على أمر الاصطفاء القسط والفضل، فالقسط يحكم بأن ينال الاصطفاء أصلح الناس له وأولاهم به وأعظمهم سعيا إلى التحقق بما يلزمه، أما الفضل فلأن الإنسان من حيث ذاته ليس له إلا نقصه؛ فكل ما يناله من ربه فمن باب الفضل إذ هو مصدر كل كمال ومانحه.
ولقد بيَّن الكتاب العزيز في نصوص قاطعة أنه سبحانه قد اصطفى بني إسرائيل وأورثهم الكتاب وفضَّلهم على العالمين، ومع ذلك فإنه أنذرهم وحذرهم وندد بسوء أفعالهم ولعن من كفر منهم وأعلن غضبه عليهم وشبههم بالحمير وجعل منهم القردة والخنازير عندما انحرفوا وتمادوا في الكفر والفسوق والعصيان، فدل كل ذلك على أن الاصطفاء إنما يكون لأسباب موضوعية حقانية لا لأسباب ذاتية وأنه ليس مرتبطا بالضرورة بسلالة عرقية، والكتاب ينص على أسباب تفضيلهم من قبل وعلى أسباب لعنهم من بعد، وكان يجب على المسلمين أن يتعظوا بغيرهم وأن يعلموا أن كونهم قد ولدوا مسلمين لا يعني بالضرورة أنهم أصبحوا شعب الله المختار أو أن الله سبحانه قد أصبح ربا خاصا بهم خاضعا لأهوائهم ولا همَّ له إلا قضاء مآربهم ونصرهم علي أعدائهم، وإنما هو يرتب عليهم أعباء إضافية ثقيلة ومسؤوليات جسيمة، فالأفضلية أمر محكوم بقوانين وسنن إلهية منصوص عليها في الكتاب، ولكنهم مع ذلك ارتدوا على أعقابهم فجعلوا معايير التفاضل هي الأنساب والأعراق أو مجرد رؤية النبي ولو للمحة من نهار أو الانتماء إلى قريش أو كنانة أو جرهم ......الخ.
-------
إن ما ينطبق على الإنسان الفرد من سنن الاصطفاء ينطبق على الكيان الأكبر كالأمة، فالأمة تصطفي وتفضل لأسباب موضوعية حقيقية منصوص عليها في الكتاب، ولقد فضِّل بنو إسرائيل علي آل فرعون لأنهم آمنوا وصبروا في حين استكبر آل فرعون وفسقوا وكفروا وأجرموا وأظهروا في الأرض الفساد.
 فلما عصى بنو إسرائيل ربهم وتمردوا على أوامره استحقوا اللعنة والغضب، والمقصود بآل فرعون هنا هم قومه أي أسرته، وكانوا هم الأسرة الحاكمة في مصر وكل من ارتبط بها.
فالاصطفاء يتم وفق قوانين وسنن إلهية حقانية لا تحابي أحدا، فهو من أسس الوجود وسننه، وهو من آليات التطور على كافة المستويات، فبمضي العالم وكائناته، وبسريان القوانين والسنن يظهر التفاوت في الإمكانات والقدرات بين الكائنات، فيتم اصطفاء ما هو الأصلح لتحقيق المقاصد الوجودية، كما يتم أيضا الحفاظ على ما ثبت أنه صالح، وآلات تنفيذ ذلك هم الملائكة الموكلة وجنود السماوات والأرض، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا، فالتطور يتم بفعل الأسماء الإلهية بصفة عامة وبفعل الاسمين "العليم الحكيم" و"العزيز الحكيم" بصفة خاصة.


*******

هناك 4 تعليقات:

  1. وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا

    ردحذف
  2. الاصطفاء هو الاختيار لأسباب موضوعية .. كلام رائع وجميل يادكتور
    ولي استفسار يلامس الموضوع .. الاصطفاء بمعنى الإختيار من جماعة أو جنس . وعندما يقول الله سبحانه وتعالى إنه اصطفى آدم فمعنى ذلك أن آدم ليس أول البشر . وإذا كان كذلك فكيف خلقه من طين وهو الذي اصطفاه أي اختاره من بني جنسه .. تحياتي أستاذي

    ردحذف
    الردود
    1. الخلق من طين أو من تراب أو من ماء أو حمأ مسنون أو من عجَل .... الخ لا يعني عمل تمثال طيني على شكل من سيُخلق ثم تحويله إلى كائن حي، وإنما يشير إلى مواد ومراحل الخلق وصفات المخلوق، فآدم وعيسى وأي إنسان موجود الآن مخلوقون من تراب وأنبتوا من الأرض نباتا رغم أنهم وُلدوا بالطريقة المعلومة.
      واصطفاء آدم كان من الكائنات الأكثر بدائية التي كانت قبله، هذا الاصطفاء كان مقترنا بالنفخ فيه من الروح المنسوب إلى الله لقبول جسمه تحمله His body was able to sustain it.

      حذف
  3. ذُرِّيَّةًۢ بَعْضُهَا مِنۢ بَعْضٍۢ ۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

    ردحذف