الرَّهْبَانِيَّة
قال تعالى:
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا
بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ
الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا
كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا
حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ
مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) الحديد
إن
الرهبانية مبتدعة، وهو سبحانه لم يكتبها عليهم لأنه أعلم بمن خلق، وهو لا يفرض على
الناس ما ينافي حكمته وما يضاد مقاصده، فهو لم يخلق الإنسان ليكون ملَكا يمشى على
الأرض ولن يستطيع الإنسان أبدا أن يكون ملكا، وهو سبحانه لا يكلف نفسا إلا وسعها،
وكان عليهم أن يعلموا أن ربهم قد كرَّم الإنسان وحمله في البر والبحر وأسجد له
ملائكته واستخلفه في الأرض واستعمره فيها، ولكنهم انطلاقا من تصورات لديهم ورثوها
ممن هم قبلهم ظنوا ألا سبيل إلى الله إلا بسلوك الرهبانية، فاقتضت الحكمة أن
يعاملوا وفق تصوراتهم، ذلك لأنه قد تولد لديهم شعور جازم بأن أدنى تقصير منهم في
القيام بمقتضيات الرهبنة هو خطأ في حق الإله، واقتضى ذلك أيضا أن تأتيهم علوم
وأوامر مراعية لحالتهم تلك، واقتضى ذلك أيضا أن يُمدوا من عالم الغيب بما يزيدهم
تمسكا بتلك الرهبانية مما ألقاه في هذا العالم من سبقهم على نفس الدرب بالإضافة
إلى الإلقاءات الشيطانية الناتجة عن الكائنات المفسدة التي ترتع في هذا العالم.
فقوله تعالى {إِلاَّ ٱبْتِغَاء رِضْوٰنِ ٱللَّهِ} استثناء منقطع؛
وهذا يعني أننا ما كتبناها نحن عليهم أصلاً ولكنهم ابتدعوها ظنا منهم أن رضوان
الله والدرجات الدينية الرفيعة لا تُنال إلا بها، وألزموا أنفسهم بها فألزمناهم بها وطالبناهم بمقتضياتها،
فالحكمة تقتضي معاملة الناس وفق تصوراتهم وما رسخ في نفوسهم.
إن الدين
الإسلامي يأبى الرهبانية إباءًا تاما بل ويستبدل بها نقيضها الفعال وهو الجهاد،
فالرهبانية وهى جماع أمور سلبية استبدل بها أشد الأمور فعالية وإيجابية، ولقد حرص
الرسول على تأكيد ذلك في كل مناسبة فنهى المؤمنين عن أن يشددوا على أنفسهم في أمر
الشعائر وأرشدهم إلى طبيعة الإسلام السمحة وبيَّن لهم كيف أن الله سبحانه ما جعل
عليهم في الدين من حرج وأعلن عليهم أنه حبب إليه الطيب والنساء وهما الأمران
اللذان يعتبرهما الرهبان من أشد ما يناقض قواعد وأسس الرهبانية الحقة، كذلك أكد
على أهمية النظافة والطهارة ولقد كان الرهبان يتباهون بأن الماء لم يمس أجسامهم
لسنين طويلة، وكان الامتناع عن الاستحمام أمرا ينذره أهل الكتاب ليتحقق لهم ما يريدون مثلما فعلت إيزابيلا ملكة
إسبانيا حتى يتحقق لها هزيمة مسلمي الأندلس.
ومن الإعجاز
القرءاني الإخبار بأن الرهبانية مبتدعة، فلم يكن العرب في ذلك العصر يدركون شيئا
عن الأصيل أو المبتدع في أديان ومذاهب أهل الكتاب، ومن المعلوم الآن أن المصريين
هم الذين ابتدعوا الرهبانية في الديانة المسيحية إحياءا اتباعا لتقاليد مصرية
عريقة وهربا من ملاحقة الرومان وبطشهم وظلمهم، أما الأديان نفسها فبريئة منها.
وتبين الآية أن
من ظن أنه لا يمكنه التقرب من ربه إلا باتباع تقاليد معينة كالرهبانية مثلا فإنها
تكتب عليه ويطالب بالوفاء بمقتضياتها والتي أصبح على يقين بأن التقصير فيها هو
تقصير في حق الله تعالى، فمن السنن المتعلقة بالفرعيات والطقوس أن من شدد على نفسه
ولم يقبل عفو ربه شدد عليه.
هذا ولا يجوز
لأحد أن يظن أنه يمكن أن يتقرب إلي ربه بتحريم ما أحله له، فمن أتقن صنع الغذاء
يحب أن يستمتع عباده به ولن ينفعه امتناعهم عنه ولن يضره إقبالهم عليه، فمن ظن أنه
يمكنه التقرب إلى الله بتحريم ما أحله فقد اقترف إثما مبينا إذ ما قدره حق قدره
كما أنه لا يمكن التقرب إلى الله بمعصيته، والذي حرم شيئا فإنما شرَّع في الدين
بدون إذن منه واختلس لنفسه سلطات ربه، وهو بذلك يظن أنه أعلم بما يصلح النفوس من
الله تعالى وهذا من سوء الظن بالله وكفى به إثما مبينا، والله سبحانه أعظم قدرا من
أن يحلل شيئا للعباد علنا ثم يحرِّمه عليهم سرا، لذلك فإن الخير كل الخير هو في
اتباع ما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه، وخير سبل تزكية النفس هي ما ورد في
الكتاب العزيز واستعمله الرسول ليزكى به أنفس السابقين الأولين.
*******
مصطلحات
ردحذف